٢٠٠٧-٠٩-٣٠

اضحوكة المناضل




(بمناسبة تبرع جلال الطالباني بمبلغ مائة ألف دولار من مخصصاته لجامعة بغداد)



من يذكر منكم كلاما قيل ذات يوم، ومن أي عدو كان، عن الثروات الشخصية أو المخصصات المالية لكل من جيفارا وهوشي منه؟

لا احد بالطبع! لان هذين الرجلين كانا ببساطة مناضلين حقيقيين، ولانهما مناضلان مخلصان بحق، فقد بقيا خالدين في وجدان الناس، وفي صفحات التاريخ البيضاء. ولكن لماذا نذهب إلى امثولات بعيدة واستثنائية، فعندنا في العراق، كان هناك ذات زمن، رجل عسكري عليه موآخذات السياسة والحكم، لكنه بقي خالدا في ذاكرة الناس، ولم يغادر البقعة البيضاء من مدونات التاريخ التي وضعه حب الناس له فيها، ليس لأنه سياسي داهية، بل لأنه انتمى بصدق للفقراء، وكان حاكما نزيها، يعيش على مرتبه، فأحبه الناس ورفعوه بأحلامهم إلى القمر.

أظن أنكم أدركتم من إنني كنت أتحدث عن عبدالكريم قاسم، الرجل الذي صمدت صورته النقية في وجدان الناس رغم كل النقد لمرحلته ولشخصه السياسي.

بدوره وحين طال به مقام السلطة، حاول المأبون صدام حسين أن يتشبه بعبدالكريم قاسم بتفقده لأبناء الشعب الفقراء، فمسخ التلقائية التي كانت تغلف سلوك الزعيم بعدما حول ـ صدام ـ، بسحنته السمجة، الناس المرعوبين أمام الكاميرات، إلى واجهة لدعاياته التي لم يقنع بها إلا من هم خارج الحدود، فاخذ لهذا الافتعال والكذب مكانه الحقيقي الذي يستحقه:

عثر عليه مختبئا في جحر، أشعث, قذر، يعبث برأسه القمل، يعاني صرعات استيعاب عزلته ومقت الشعب له.

وتاريخ السياسة والحكم يعيدان، بمكر، أنتاج النموذج السيء أكثر من النموذج البطولي. وكأن وجود مثل هؤلاء الناس الاستثنائيين، أمثال جيفارا وعبدالكريم قاسم، في مسيرة التاريخ والحكم هو من اجل إثارة أعصاب المحتالين من لصوص السياسة، وليدفعهم إلى تقليد هذه النماذج بطريقة ستفضحهم، لان سليقة الناس وفطرتهم تشتعل كمجس < رادار> متطور يميز الزائف من الصادق فتنكشف أمامهم الألاعيب البهلوانية.

أيضا علمتنا تجارب الحياة أن السلوك حين يفقد اصالته يصير عتيقا، وغير ذي قيمة ولايقتننع به أي مخلوق إلا إذا اختار هذا المخلوق أن يكون أحمقا. وأكذوبة السياسيين العراقيين، المشتغلين بالعملية السياسية الآن، المدعين بأنهم جاءوا لأجل هذا الشعب، تفضحها بعض العلامات التي قد لا ينتبه لها البعض. فخروج أي مسؤول أمام شاشة التلفاز ـ بعضهم أدمن هذا الظهورـ سيظهر في خلفية المشهد، بعض العلامات البسيطة عن الهوة ـ<الاجتماعية ـ الطبقية> التي تفصل هؤلاء عن سواد الناس الأعظم، الذي يرزح تحت حالة من ضغط الفقر والجوع الحقيقيين. ويكفي لمن لا يريد أن يصدق أن يذهب إلى إحدى مدن الجنوب، ليرى بنفسه صورة لمدن من القرون الوسطى، يعيش في مستنقعاتها العراقيون. تظهر على شاشة التلفاز، مثلا لاحصرا، شخصية نسائية كل رصيدها السياسي هو أن أبيها شهيد، وان زوجها متنعم بالكنف السياسي الكردي، فجعلها هذا تتنعم بالدلال السياسي والرفاه المادي الذي <لا يليق> في ظروف العراق الحالية إلا بساسة فاسدين. وما يظهر أمام كادر التلفاز من أثاث لبيت هذه <المناضلة> يكفي ثمنه، لمدة أسبوع على الأقل، من إطعام حي < الحياتية> الفقير في مدينة البصرة، الذي يعيش منذ أن تشكل على هامش الحياة. أما المقررة في لجنة الدستور< مريم الريس> فالمصيبة في حالتها اكبر، فقد ظهرت هذه الآنسة الجذابة واحدى يديها مليئة بالذهب والأخرى مشحونة بالماس ـ وهذا تنوع رفاهي بهرجي نادرـ هذا ما يظهر عفويا وبالعلن أمام الناس، أما ماهو مخفي فأكيد انه مخيف، لاسيما إذا عرفنا أن نسبة الفساد في العراق بلغت مستويات هائلة جاوزت ال70%. وآخر فضيحة علنية لفساد مسؤول عراقي لحد الآن كانت بكشف لصوصية أمين بغداد < علاء التميمي> الذي سوق نفسه إعلاميا كبطل في إعادة اعمار البلد.

قد يعترض احد ما، أو يحاول أن يهون من الأمر، فيقول إن هؤلاء هم من هامش السياسة. حسنا ولكن المتن مصائبه اكبر. فهذا رئيس العراق رقم خمسة< كم محرج هذا الرقم في مخيلة العراقيين> جلال الطالباني الذي تملكته <الخفة التي لا تحتمل>، وركبه المرح بعد عبوس لازمه طيلة أيامه السالفة، بعدما صار رئيسا، < بالانتخاب ـ المحاصصي، وليس الديمقراطي> كما تلهج بذلك وسائل الإعلام المساندة له، اخذ يؤسطر شخصيته بمساندة مفضوحة من أقلام رخيصة، ومؤسسات إعلامية وحزبية ممشغولة لحد الخبل، لإظهاره بصورة المناضل. الصورة التي يدرك زيفها ألعراقيون ممن اتيحت لهم فرصة الاقتراب من هذا الحاكم. ولا تزال ذاكرة الكثير من المواطنين الذين هربوا بعد فشل انتفاضة آذار < التي أسهم الطالباني بتكتيكاته الانتهازية بدور في إفشالها> إلى الأراضي الإيرانية، وشاهدوا موكبه <النضالي> بعد هربه< في الوقت الذي كان خصمه اللدود مسعود البارزاني يقاتل بنفسه قوات الحكومة في مناطق أخرى> يحيط به الحراس من كل مكان ويطبخ الخدم له ولزوجته< فاصوليا خضراء، نادرة ألوفرة في ذاك الموسم> بينما كان الناس لا يجدون ماياكلونه أو يتدثرون به. هذه الواقعة وأشياء غيرها هي التي دفعت ببعض الشباب، ممن كانوا يؤلهون الطالباني، لحماستهم القومية العمياء، يغيرون رأيهم به جذريا.

اذكّر بهذا الآن لان هناك محاولة تزييف أخرى لتقديم< أضحوكة المناضل> التي يراد تكريسها في وعي الناس بالضخ الإعلامي الكاذب وبالإصرار على ابتكار صفة <المناضل ـ التي عبر من تحتها عتاة السفلة والدكتاتوريين> المراد إلحاقها وترادفها ب /ومع شخصية الرئيس رقم خمسة. مثل محاولة إظهاره، كما سجل لسيرته احد الأدعياء، وكأنه كان مقاتلا مغوارا يشارك < البيشمه ركة> العيش بالكهوف ويشاركهم شظف العيش، بينما هو، وبشهادة شخصية عيانية، كان يسكن خيمة <هاي لايف> صيفا، وبناية محصنة ومريحة شتاءا، في< كه لي ناوزنك> على الحدود الإيرانية، تفصله عن المقاتلين مسافة في المكان، لضرورات هيبة السلطة، مع خدمه الخاصين وأطعمته الخاصة وبعض الويسكي. وفي الحقيقة أن صفة المناضل بحاجة إلى تدقيق موضوعي ووقائعي يحاكمها كمفهوم وممارسة، ليس لهذا المخلوق وحسب وإنما لكل من يحاول ارتداءها، لأنها أصبحت سهلة الركوب واخذ يمتطيها كل من يشاء.

والمضحك - المبكي إن هذا الرجل صدّق، كسابقه المابون صدام، انه مناضل. واخذ يكرر هذه الأكذوبة < بعدما عجز عن إثبات أكذوبة الدكتور التي روجتها وسائل الأعلام في بداية ركوبه منصب الرئيس >وآخر لحظة مضحكة وهزيلة الحق بها هذه الصفة بشخصه هي حينما قال، بخفته المعهودة، في مؤتمره الصحفي مع سيده السفير الأمريكي< زلماي خليل زاد> انه كان يعرف زلماي من أيام النضال المشترك ضد النظام الدكتاتوري. ولكم أن تتصوروا خشونة حياة ونزاهة وصدق النضال المشترك مع شخص كزلماي خليل زاد.

مصيبة هذا الرجل انه يتشبه بصدام. والمابونون، غالبا، يتشابهون بالفطرة. وهو، أي رقم خمسة، مغرم في تثبيت فضائل ما يفعل، ويحاول تكريس صورة انه شخص صاحب مآثر، كان اخرها تبرعه، وباسمه الشخصين لاحظوا ذلك، بمبلغ مائة ألف دولار لجامعة بغداد، في محاولة منه لتكريس صورة الرجل المحب للعلم، والمحترم لمؤسساته، ولكنه لم ينتبه، كعادة المغرورين، إلى تساؤل مرير يمكن أن يخطر في ذهن المواطن مفاده:

من أين له هذا المبلغ؟ وكم هي كثيرة مخصصاته التي يستطيع أن يتبرع منها <بخردة> قدرها مائة ألف دولار؟

نقول: الايحفز هذا السلوك من هو معني بشان الوطن، أن يلح بإعادة طرح السؤال، بضرورة إلزام الحكومة الإعلان، وبشفافية، عن رواتب ومخصصات المسؤولين الفعلية كما هو الحال في النظم الديمقراطية الحقيقية في العالم؟ أيبقى جلال الطالباني وأمثاله، وقبلهم صدام، يتصدقون على الشعب العراقي من أمواله وخيراته. ثم أليست هناك آلية وأسماء لمؤسسات يمكن أن ينسب إليها التبرع، إذا لم يكن من جيبه الشخصي< وهو مليء بلا شك> ولماذا يقدم باسمه؟

هكذا أذن وكالعادة. ساسة نهابون يتصدقون على الشعب من أمواله، ليجمعوا بها رصيدا سياسيا لهم.


إنها دائرة مغلقة تلك التي ندور فيها إذن!

*****


هامش

الطرفة التي أوردها هنا كان يمكن لها أن تثقل على المتن، فآثرت أن أدونها في هذا الهامش للاستئناس بها:

ذات مرة في عام 1979 زار وفد من أنصار الحزب الشيوعي العراقي مقر< الطالباني> في <ناوزنك>، وكان من ضمن الوفد الكاتب الشاب< آنذاك><محمد ره نجاو> وكان مسلحا ببندقية جديدة، هي واحدة من 16 بندقية قدمتها قيادة الاتحاد الوطني هدية إلى أنصار الحزب الشيوعي:
فسال< الطالباني > متذاكيا <ره نجاو>

من أين لك هذه البندقية؟

آملا بطبيعة الحال في أن يحصل على إجابة مشفوعة بالمديح وكلمات الشكر ليحقق هدفين من ذلك.

أولا. مديح يكرس صفة المتفضل ليرضي غروره.

ثانيا. إذلال الشيوعيين بإظهارهم كشحاذين ومحتاجين وتابعين.

لكن حظه العاثر رماه أمام هذا الشاعر المتمرد والصعلوك فأجابه بذكاء وجرأة.

إنني محتفظ بها منذ عام 1966.

وكانت إجابة مفحمة، لأنها تذكر بأيام كان الطالباني فيها< جاش>، أي مرتزق لدى السلطة الشوفينية في بغداد ـ وأدرك
< الطالباني> إيحاءاتها فغضب واشتكاه للقيادة.

السويد
29-7-2005