٢٠٠٨-٠٤-٢٣

كتّاب وكتابة الانترنيت






بات الحاسب والانترنيت للمجتمعات التي تستخدمهما حاجة يومية حيوية لعبت وما تزال دورا واضحا في تغيير الكثير من العادات والمفاهيم في طرق التعاطي مع المعلومة واشكال بناء المعرفة واساليب تشكيل الراي. وفي واقعنا العربي، رغم فقره المدقع في مجال إنتاج واستهلاك المعلومة الالكترونية1، جرى التاثر أيضا في هذه التحولات، على الأقل في نطاق دائرة المتعاملين مع هذه التكنلوجيا.

ووجود الانترنيت قد افرز في واقعنا ظواهر ثقافية عديدة من أهمها ظاهرة كتاب الانترنيت والكتابة الانترنيتية التي لوحظ حضورها الكثيف بالتغطية العامة والشاملة للشأن السياسي والثقافي والاجتماعي، عبر منظورات ورؤى تخطت بقوة الأطر التقليدية التي كرستها هيمنة السلطة السياسية ومركزية الثقافة الورقية. وقد عبر راي بعض المثقفين وجمهور القراء من ذوي النظرة التقليدية الرافض لهذا الوافد الجديد، بالإضافة إلى إجراءات المنع والرقابة التي نجحت السلطات الشمولية القمعية المذعورة في البلدان العربية بتحقيقها، عن رد فعل حاول التقليل من قيمة الانترنيت ومن جدواه. وذلك لان الانترنيت تحمل بجوهرها، وبسبب من أرضيتها التقنية المتفلتة من كل عقاب ورقابة، نفسا ديمقراطيا تعدديا.

لكن ما هي هذه الكتابة الانترنيتية وما هي خصائصها. ومن هم كتاب الانترنيت وهل لهم علامة تميزهم؟
قبل الخوض في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي ان نقرر ان الانترنيت هي وسيلة أو أداة مفتوحة وحرة يمكن ان يوظفها أي شخص أو أي جهة لتقديم خطابه وعرض أرائه. وهي أداة لخوض صراع اجتماعي وثقافي وسياسي وحضاري لا تحده حدود ولا تقيده قيود. وكذلك هي تستمد وظائفها المتعددة، كما هو حال أي أداة تكنولوجية أخرى، وفق عقلية وأهداف مستخدميها.

وكون الانترنيت أداة فهذا يجعلها وسط ناقل للمعارف والأفكار، وفضلها الكبير هو أنها توفر وسائط متعددة لتقديم الرسالة. وهذا التعدد لم يمنع، ان لم يكن قد فرض أشكالا محددة لتقديم هذه الرسالة وبالذات في ميدان معالجة الأحداث اليومية من سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها وبالجدل الذي يدور حولها وعنها.

ومن هذه الخلفية يمكن إقرار ان ابرز ميزة أنتجتها الانترنيت هي تسارع الإيقاع في التعامل مع الوقائع. وغني عن القول ان هذا التسارع قد نتج عمليا عن تطور تكنولوجيا الوسائط حيث صار وصول الخبر إلى المتلقي يتم في لحظة حدوثه مما يتطلب من الكاتب التعامل معه بالتحليل والتنبؤ بمسار الأحداث وتحولاتها بسرعة تناسب سرعة تطورها وتحركها. فلم يعد الحدث في زمن تطور تكنولوجيا الوسائط يحتمل قراءة طويلة ومعقدة تنتظر اكتمال عناصره لتغطيه، لان الأحداث في هذه الحالة ستسبق هذا التحليل وتتجاوزه وتصير استنتاجاته قديمة وغير ذات جدوى.

بمعنى ان الواقع صار يتطلب معالجة مكثفة تعتمد زاوية محددة من النظر للموضوع وليس نظرات كلية ذات طابع تركيبي وشامل. فتشكيل الفكرة أو النظرة الشاملة صار كالبناء الموزائيكي، تدريجي وتكاملي. ولم يعد القارئ يطيق في ظل الكثافة الإعلامية وتعدد الطروحات ووفرة المصادر الهائلة تبديد الوقت في قراءة تتناول الموضوع من الصفر. لان وفرة المعلومة وكثافتها صارت تفرض قارئا جديدا يكون ملما بالكثير من المعطيات الأولية للخبر وللمادة المكتوبة، هذا بالإضافة إلى ما تقدمه له امكانات الانترنيت عبر الروابط التشعبية من تعويض في نقص المعلومة عبر الإحالات إلى مصدر الخبر لمن يريد الإطلاع عليه، وهذا أصبح ممكنا ليس بالنص الكتابي فقط وإنما بالصورة وبالصوت.


في هذا الواقع نشا نمط كتابة يمكن تسميته بنمط الكتابة اليومية. وهو النمط الذي أنتجته الانترنيت وبات واحدا من علاماتها. ومن سمات هذه الكتابة هو معالجتها الجزئية للواقعة ونظرتها المختصرة غالبا للجدل الأيدلوجي أو السياسي، فهي لا تحتمل الدراسة النظرية المعمقة ولا الإحالات النظرية لأنها ليست دراسة تحليلية بقدر ما هي تعليق سريع وبسيط يتضمن فكرة أو زاوية نظر لا يتسع لها غالبا مقام أنماط الكتابة الذي أوجدته الثقافة الورقية. وبمناسبة ذكر الصحف والثقافة الورقية فيمكن لفت الانتباه هنا إلى ان هذه الثقافة قد تأثرت هي الأخرى بمعطيات تطور تكنولوجيا الوسائط وبالذات الانترنيت حيث انتقلت إليها عدوى الأسلوب الانترنيتي بعدما أخذت هي ذاتها تتصل بقرائها عبر الانترنيت وصارت مقالاتها قصيرة وسريعة لتواكب الحدث وتطوراته وسرعة انتشاره.

والكتابة الانترنيتية ليست سهلة كما يوحي وضعها للوهلة الأولى، لاسيما لمن يتعامل معها بجدية ويمنحها دورا يليق بها. فهي كتابة تتوسل الأسلوب البسيط، والبساطة هنا لا تساوي السهولة، بل على العكس، فنمط الكتابة الانترنيتية يبدو اكثر صعوبة لانه يقيد الكاتب بعدد محدد من الكلمات وبزمن قصير وذلك، بسبب تواتر الأحداث أولا، وبسبب طابع المنافسة العفوي الذي تجسده كثرة التناولات وتعدد المعالجات للحدث الواحد ثانيا، الأمر الذي فرض على الكاتب ضوابط الزم نفسه بها من اجل ان يقول وفي الوقت المناسب شيئا جديدا ومميزا خاصا به ويميزه عن الآخرين، والا غدت كتابته تنويعا كميا على موضوع واحد. هذا بالإضافة إلى ان الكتابة الانترنيتية أخذت تعالج، بحكم تكوينها، مسائل تبدو بسيطة ولم يتسع لها صدر الثقافة الورقية، وهي قضايا الحياة اليومية بتفاصيلها العابرة التي قد لا يحتمل التعبير عنها بمقالات رصينة تختص بها عادة الصحافة الورقية. لهذا اخذت الانترنيت على عاتقها هذه المعالجات الصغيرة والتفصيلية، كطريقة جلوس أو حديث احد الساسة مثلا، التي لا تتطلب ربطا محكما لخلفيات معقدة تفتقدها عادة الجزيئة الحياتية البسيطة، لكنها تتسم في نفس الوقت بالاهمية لدورها في تشكيل الوعي النقدي للمجتمع.

كما ان الكتابة الانترنيتية ونشوء ظاهرة كتاب الانترنيت هما تعبير عن تحول ديمقراطي في آلية التعبير عن الأفكار والآراء وزوايا النظر. فلم يعد التعبير عن الأفكار محصورا بيد الاقنية الإعلامية والثقافية التي تحتكر المادة وصاحبها. وباتساع عالم الانترنيت اتسع عالم التعبير واخذ أشكالا تعبيرية جديدة ذكرت بعض ملامحها قبل قليل. ولم تعد هناك مركزية لسلطة النشر ولم تعد هناك قدرة على حجب الآراء مثلما هو الواقع في زمن الثقافة والمنابر الورقية. فأي شخص لديه رغبة في قول رأي ولديه قدرة كتابية بمستوى فني مقبول يستطيع اليوم، بفضل الانترنيت، ان يبدي رأيه ويقدم استنتاجاته للرأي العام. كما لم تعد منابر النشر المنتشرة بوفرة على الشبكة تشترط اشتراطات أكاديمية صعبة لنشر المواد. ولم يعد ممكنا الآن حجب رأي أو منعه من الظهور حيث غدا، بفضل تطور التكنلوجيا، باستطاعة أي شخص ان ينشئ منبره الخاص والذي صارت المدونات الشخصية الأداة الأبرز فيه. هذا طبعا بالإضافة إلى أساليب أخرى، قد لا يحبذها البعض ولكنها عملية ومشروعة، وهي استخدام البريد الالكتروني لتوزيع المادة على القراء.

صحيح ان ديمقراطية الانترنيت قد فسحت المجال لظهور الكثير من الغث والركيك ولمن لايمكن ان يعتبر كتابة حتى في اكثر المقاييس تسامحا، ولكن هذا بالنتيجة يمكن أن يدرج في خانة المنافسة وغربلة النوع. وأصحاب هذه الكتابات الركيكة سوف لن يستطيعوا، بتقديري،
(إلا من كان منهم مصابا بلوثة نفسية) ان يستمروا في وهمهم بعدما يكتشفون هم بأنفسهم محدودية أو انعدام قدراتهم، وسوف ينسحبون عاجلا أم آجلا من هذا العالم. لان الكتابة في النهاية، وبكل أشكالها، هي هاجس ووعي وموقف وتتطلب دربة وجلد على احتمال عناءاتها. فهي عمل شاق لا يستطيع احتماله الطارئون ولن يصمد في عالمها إلا من كانت تشكل له سببا وجوديا.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو ان هناك بعض الكتاب القادمين من مركزيات الثقافة الورقية ومن مركزيات أخرى< لجان مركزية لأحزاب مثلا> لا يزالون يعيشون وهم انتظار القراء لهم وتفرغهم لقراءة ما يكتبونه فيطيلون بمقالاتهم غير مدركين ان وقت القارئ ومزاجه لا يتسعان لهذه الاطالات، لان متابعة الأحداث والتطورات تتطلب من القراء قراءة عشرات المواد التي يرغبون بالإطلاع عليها، أقول ان هؤلاء لم يدركوا بعد هذا التحول في الواقع وفي المزاج فلم يتوانوا عن تسطير <جنجلوتيات> عتيقة مكررة وبعناوين فقيرة تكشف مضمون المقال< كالأفلام الهندية الهابطة> وتغني القارئ غالبا عن قراءتها. صحيح ان الانترنيت لا تقتصر على النمط السريع والمقتصد في الكتابة، لأنها ساحة كبيرة أو مكتبة بلا رفوف كما يطلق عليها، وفيها كل معلومة والكثير من المصادر، وتحتمل في بعض مواضيعها الكتابة التفصيلية والمطولة، لكن غالبا، وبالتحديد في الكتابة السياسية، التي تأتي تعليقا وتحليلا للوقائع اليومية، ينبغي بالضرورة، بتقديري، ان تكون كتابة مختصرة ومباشرة وواضحة، وان تبتعد قدر المستطاع عن الإطالة والمط والتكرار.

إذا نحن أمام مواصفات أسلوبية صنعها واقع الانترنيت الجديد. ومثلما وجود الانترنيت خلق كتابة جديدة وكتاب مختلفون عن الصيغ التقليدية فان تطورات التكنلوجيا ومستويات التفاعل الجديد التي تتيحها قدمت لنا، ( وستقدم لنا بالتأكيد في المستقبل أنواعا أخرى جديدة مرتبطة ارتباطا عضويا بجوهرها الديمقراطي) أسلوبا أدبيا جديدا اسمه أدب التعليق على المادة المكتوبة. وهو أدب سوف تكون له قواعده وضوابطه وجمالياته. ويمكن ملاحظة ان هناك معلقون جيدون على المقالات والمواد المنشورة في بعض المواقع التي تقدم هذه الخدمة.

والتعليق يكاد يصير ظاهرة في طريقها للتأصل في ثقافة الانترنيت. فطالما ان الآلة تتطور وتغني الإنسان فان الإنسان سوف يتطور ويغني عالمه ويسهم في بناء وعيه بيده.


أما عن كتاب الانترنيت فيمكن القول أنهم، كظاهرة إبداعية جديدة ذات سمات مميزة، سيكونون أداة التمرد الأكبر في مواجهة القمع بكل أنواعه وتفاصيله، وهم سيكونون أداة تحطيم الأصنام وهدم البالي من القيم المتخلفة في واقعنا. أي انهم سيكونون صرخة التمرد الكبيرة التي تتشكل، كما هي كتاباتهم، من صيحاتهم القصيرة والمتكررة لتغيير الواقع.


ــــــــــــــ

هامش

1- في تونس يوجد 120،000 مشترك فقط في شبكة الانترنيت، وتبلغ نسبة مشاركة العرب في إنتاج المادة الالكترونية يصل إلى 2% فقط من المنتوج العالمي الذي بلغ إلى صيف عام 2007 ستة مليارات صفحة.





٢٠٠٨-٠٤-١٢

الرسائل من كردستان الى الانترنيت



كانت مبادرة طيبة تلك التي أثارها الزميل "صائب خليل" في احد مقالاته حينما ناقش بأسلوبه التلقائي المحبب ضعف تفاعل القراء مع كتاب الانترنيت، حيث ضمن مقاله عتابا رقيقا للقراء على غياب التجاوب مع الكتاب رغم كل ما تتيحه لهم التكنلوجيا الحديثة من إمكانات عملية وسلسة للتواصل। والمبادرة كانت أيضا إلتفاتة ذكية بسعيها الضمني لإثارة نقاش حول تفعيل العلاقة بين طرفي المعادلة " كاتب - قارئ" والارتقاء بمستوى القراءة إلى مديات تسهم في خلق نمط ثقافي جديد قوامه الكتابة الجماعية। فتكنولوجيا الاتصال أتاحت للقارئ أن يتخطى بمديات واسعة حالة التلقي السلبي، وعدلت العلاقة بين القارئ والكاتب لاغية بذلك العلاقة الفوقية التقليدية لصالح علاقة تكاملية ومترابطة صار القارئ يتشارك بها مع الكاتب باغناء المناقشة من خلال التصويت أو التعليق على المادة المكتوبة। ولان الحديث كان عن الرسائل في زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تتاخر سوى بضع دقائق للوصول إلى صاحبها، فقد أثار كلام الأخ "صائب" لدي بعض التداعيات والذكريات القديمة عن هموم وشجون الرسائل والمراسلة


ابرز محطة اكتسبت فيها الرسائل معنى خاصا لي وللكثيرين ممن شاركوني الحياة والتجربة كانت في فترة العمل المسلح في كردستان العراق. هناك حيث كانت خطوط التواصل بين البشر بدائية للغاية. فقد كنا نحيا في مناطق نائية ووصول أي شيء منا إلى المدن وبالعكس كان يأخذ مديات طويلة بالمسافة والزمن. التراسل حينها مع مدن العراق، وبالذات للأنصار العرب، سكان العاصمة ومدن العراق الأخرى، كان صعبا، إن لم يكن مستحيلا، ومحفوفا بالمخاطر. ولا يتم، إن تم، إلا عبر جهود يقوم بها بعض المتبرعين الثقاة وعبر صلاة خاصة جدا يتم توصيل الرسائل فيها، بسبب إجراءات الصيانة، باليد. لان العثور على أي رسالة مرسلة من "الارض الحرام" تعني ببساطة، في ظل ظروف نظام البعث الهمجي، إن المرسل إليه سيقبض عليه وسيكون مصيره الموت. ولهذا بقي الكثير من الأنصار، وأنا واحد منهم، لسنوات طويلة منقطعين عن أهاليهم لا يعرف احدهم عن الآخر أي شيء. وأنا شخصيا لم استطع الاتصال بأهلي طيلة فترة امتدت ما يقارب الأعوام الست. لكن اذا كان الوطن مغلقا فان الصلة بين كردستان والخارج كانت اقل صعوبة، وكان لبعض الأنصار أهل وأصدقاء هناك يمكنهم التراسل معهم عبر إيران.
ولكن كيف؟

كان يأتي بين حين وآخر احد العاملين بالتنظيم الحزبي في منظمة إيران ليأخذ البريد الحزبي ويأخذ أيضا "بدربه" رسائل الأنصار إلى أهلهم وأصدقائهم ويبعثها من هناك عبر البريد. هذه الرسائل قد تصل، إن وصلت، بعد أسابيع وأجوبتها تصل ربما بعد اشهر. أما في فصل الشتاء حيث تنقطع السبل وتنغلق المسالك بالثلوج فالمدة تطول اكثر، ولكم أن تتصوروا حال نصير متلهف لمعرفة أخبار زوجته وأطفاله في ظل هكذا ظروف. كان ممن يأتون لأخذ البريد اثنان من العاملين في منظمة طهران. احدهم كان يتعامل باستخفاف مع مشاعر وهموم وأسرار الرفاق الذين يحملونه رسائلهم فكان، كما كان يقول لخاصته ساخرا، انه ما ان يخرج من القاعدة حتى يلقي بكل الرسائل في النهر(الروبار). وليس هناك أي تعليل لهذا السلوك غير قلة الاكتراث وانعدام الحس والشعور بهموم ومعاناة الآخرين. وإذا أراد هذا الشخص أو غيره التحجج، كرد على ما أقول، بالصيانة والاحترازات الأمنية، فالرد هو ان هذا القول هو محض ادعاء وتبرير لان هذا الشخص كان يحمل معه البريد الحزبي وهذا بالتأكيد اخطر من الرسائل الشخصية، ولا يضيره بشيء ان قبض عليه وهو يحمل مع البريد الحزبي رسائل شخصية.

هذا الشخص تقدم لاحقا في سلم الدرجات الحزبية وبلغ مستويات قيادية عليا واستوزر في إحدى الحكومات. ويبدو لي ان سلوكه الرديء هذا كان مقدمة ضرورية لهذه المواقع. وللتأكيد على انه لا يوجد أي سبب جدي وحقيقي يمنع هذا الشخص من اخذ الرسائل التي تعني لأصحابها الكثير، إن الرفيق الآخر، وهو اصغر في السن والموقع الحزبي من الأول، لكنه اكبر بالحس الأخلاقي منه، كان يأخذ جميع الرسائل ولا يهمل أي واحدة، والأكثر انه هو نفسه من كان يدفع أجور البريد.

أما رسائل الأنصار فيما بينهم فكانت تأتي طازجة لكن تواترها بطيء. لأوضح ذلك، يكتب النصير الرسالة في نفس اليوم وتصل خلال يوم أو اثنان لكن جوابها قد يتأخر شهر أو اكثر حسب حركة البريد بين القواعد. لكن حتى العام 1984 لم تكن الرسائل بين الانصار تخضع للرقابة الا فيما ندر. غير انه وبعد اشتداد اجراءات القمع التي تزامنت مع تداعيات الوضع بعد معركة "بشتاشان" وبعد الاجتماع الاعتيادي الكامل للجنة المركزية في خريف ذاك العام، الذي ابعد فيه عضو اللجنة المركزية " بهاء الدين نوري" عن الحزب، اشتدت اجراءات الرقابة وصار البريد مراقبا وصار اي بريد ينقل من مقر الى اخر او الى الخارج يجب ان يمر اولا على المسؤول الحزبي ( عانى بعض المسؤولين الحزبيين الخلوقين من احراجات هذه الحالة خصوصا وان بعض الرسائل كانت رسائل شخصية. بين زوج وزوجته مثلا.)

المهم! رغم أهمية الرسائل في حياة الانصار كوسيلة للتواصل وتبادل الأفكار والأخبار إلا أن هناك بعض الأنصار كان يتكاسل ويستصعب كتابة رسالة لصديق في قاعدة أخرى.
وهؤلاء ستلاحقهم لعنة التباطؤ أو الكسل في كتابة الرسائل حتى في بلدان الغربة التي رحلوا إليها لاحقا حيث البريد منتظم والرسائل ممكنة الوصول. والأكثر انه حتى في زمننا هذا، زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تضيع أبدا، ولن تستغرق وقتا للوصول إلى هدفها سوى بضعة دقائق، ولا تكلف كاتبها مشقة الخروج لإلقائها في صندوق البريد، وإنما يفعل ذلك وهو جالس في "غرفته الكونية" أمام الحاسب. أقول حتى في هذا الزمن عثرنا على من يتكاسل عن كتابة بضعة اسطر يفرح فيها صديق له. قد يتعلل هؤلاء بان هناك جهاز آخر اكثر عملية وهو التليفون وهذا صحيح لكن هذا لا يكون بديلا لان للكتابة نكهة خاصة إذ هي تنطوي على قدر محسوس من طاقة التأمل وعمق في التفكير وقدرة على البوح أوسع وأكثر جرأة مما يوفره أو يتيحه التليفون. وأكاد اجزم من انه حتى لو تطورت تكنولوجيا الاتصالات ووصلت لمديات أوسع واكبر في تسهيل عملية الاتصال فان هؤلاء لن يتحركوا وسيجدون دائما أعذارا يبررون فيها تكاسلهم. وهؤلاء في الحقيقة هم كمثل نمط القراء الذين عتب عليهم "صائب خليل" ممن يتكاسلون ويكتفون بالتلقي السلبي. لكن هناك أيضا وجه آخر سلبي لمعادلة العلاقة بين القارئ والكاتب هي ان بعض الكتاب لا يردون على رسائل قرائهم وهذا عامل احباط يقلل من اهتمام القراء ولا ادري إن كان هذا أيضا بدافع الكسل أم هو شيء من التعالي.

تتبع هذه الحالة يوصلنا إلى قناعة إن أكثرية القراء لا يميلون إلى تجشم عناء الكتابة إلى الكاتب ويفضلون بدلا عنها التعليق على الموضوع في حقول خاصة توفرها بعض المواقع. وهذا واحد من تجليات تطور التكنلوجيا( الويب2) حيث التفاعل والحوار لا يكون فقط بين القارئ والكاتب، وهو ما تقوم به الرسائل المباشرة، وإنما بتواصل النقاش وتوسيع دائرته لتشمل النقاش بين القراء أنفسهم. وبهذا يتحقق نوع من ما يمكن تسميته بحلقة للقراءة كبيرة ومفتوحة.

وعود على ما قاله الزميل "صائب" فيبدو إن الحل الامثل لمعالجة هذه المسالة ينبغي أن يتم، برأيي، بطريقة أخرى غير الرسائل المباشرة. وهي طريقة من شانها تحفيز القارئ على التفاعل مع ما يُكتب ويكون ذلك بأن يقوم موقع "الحوار المتمدن"، باعتباره اكبر واهم موقع علماني وديمقراطي يلتف حوله عدد كبير من القراء والكتاب، بتوفير خدمة التعليق، المشروط بطبيعة الحال، على المادة المكتوبة. لاسيما وأن هذه الوظيفة متوفرة في النسخة الكردية من الموقع " ده نگه کان ". ولان "الحوار المتمدن" في تجدد دائم، عليه، برأيي، ان يخطوا باتجاه هذه الخطوة ليوسع من افقه اكثر ويجعل من أرضه ساحة نقاش وبحث تليقان بدوره. اعرف ان الأمر صعب وان تنفيذه يتطلب توفر عدد من العاملين يعاني "الحوار المتمدن" أصلا من شحتهم، لكن كاقتراح أولي، ينبغي البحث عن صيغة تقنية يمكن فيها إشراك كاتب المقال نفسه، توفيرا للجهد، في عملية النشر والمراقبة.

اطرح هذا المقترح لأني أدرك من ان الكثير من القراء والكتاب يشاطرونني التصور بان عالم التكنلوجيا في تطور مستمر، وأن وقائع الحياة من حولنا في حراك دائم، وان إمكانية التواصل بين المعنيين بهذه التطورات بات أمرا ملحا وعلينا جميعا ان نستجيب لـ / ونتفاعل مع هذه الضرورات ان أردنا ان نعيش في عالمنا ونسهم في إعادة تشكيله.



٢٠٠٨-٠٤-٠٦

تمخض الجبل فولد القاضي رزكار محمد امين

بعد تشويق إعلامي قدمت قناة البغدادية الفضائية بتاريخ 2- 04-2008 لقاءا تلفزيونيا مطولا مع القاضي "رزكار محمد أمين" الرئيس المستقيل للمحكمة الجنائية التي حاكمت صدام حسين وبعض من أعوانه في جريمة الدجيل. لم يحفز لهذا اللقاء الدعوة الإعلانية المشوقة التي سبقته وحسب وإنما أيضا ما انطبع في أذهان الناس من تصورات عن شخصية القاضي ضيف اللقاء التلفزيوني. فقد أغاض هذا الرجل الكثيرين أثناء سير المحاكمة بسلوكه الذي اتسم بالبرود والتهاون الذي بلغ بعض الأحيان حد الإيحاء بانعدام الكفاءة لفقدانه السيطرة على مجريات الجلسات، حيث سمح في حينها لصدام حسين أن يحول جلسات المحكمة إلى منبر ووسيلة يبث منها آراءه لمريديه بل وحتى توجيهاته لتابعيه. وبنفس القدر الذي أثار فيه السيد القاضي انزعاج الناس فقد أثار فضولهم أيضا. فالمواطنون والمراقبون قد تساءلوا كثيرا وأثاروا التكهنات حول خفايا سلوكه ورؤيته للأحداث وأسباب استقالته المفاجئة من رئاسة المحكمة. لكن أجوبة القاضي في هذا اللقاء قد خيبت ظن الكثيرين ولم تطفئ لهفة الرغبة بمعرفة ما دار في كواليس المحكمة وأروقة السياسة حول هذا المفصل المهم في تاريخ العراق.

ورغم إن أسئلة مقدم البرنامج الدكتور "حميد عبداالله" قد اتسمت بالجرأة والذكاء ورغم أنها بحثت في جوانب مهمة وحيوية، لا تتعلق فقط بمجريات المحاكمة وما حدث قبل ترأس السيد القاضي لها واستقالته منها، وإنما بلغت مديات حساسة تعلقت بنظرة القاضي الشخصية وآرائه ومشاعره أثناء مجريات المحاكمة، أقول رغم هذا الكم الحيوي من الأسئلة لم يقدم القاضي في ردوده أي جواب يرقى إلى مستوى الأسئلة ولا إلى مستوى تطلع الرأي العام لمعرفة مواقفه أو الحقائق كما رآها وعاشها هو. فقد اتسمت أجوبته، وببروده التقليدي، بمستوى مبالغ فيه من الرسمية وبقدر عال من الاسنادات النصية القانونية التي راحت تحيل كل سؤال، حتى ذلك الذي تعرض لمواقفه ومشاعره كانسان وليس كقاض، إلى ما يقوله الفقه القانوني ونصوصه. وكأن القاضي هنا جهاز الكتروني يشحن بمواد القانون ويعكسها وليس بشرا يحس ويدرك. وكأن الناس بحاجة لسماع ما يقوله القانون وليس ماعاشه وعرفه وأحس به هو.

وهكذا كانت ردود السيد القاضي، ـ التي تخللها الكثير من الصمت والاطالات بمط الكلام بحثا عن مفردات وتعابير لا تخدش شعور أي جهة( والعراق متعدد الجهات) والتي بددت بدورها الكثير من وقت اللقاء، ـ ردودا لا تحمل إجابات، فأماتت حيوية الأسئلة واطفات لهفة الترقب وخرج مقدم البرنامج الذي نفد صبره ومعه المشاهدون بخيبة أمل كبرى وبعلامة استفهام اكبر.

وهنا يمكن طرح سؤال مهم. وهو لماذا تصرف هذا القاضي، وهو رجل متعلم ومن طبقة اجتماعية
لها شان في المجتمع، بهذه الكيفية ؟

ولماذا كانت ردوده لا تحمل أي إجابة مقنعة وخيب أمل المشاهد في لقاء هو شهادة للتاريخ، كما هو عنوان البرنامج. وكلنا يعرف إن السيد القاضي هو رجل شارك، شاء ذلك أم أبى، بدور ما في صنع لحظة من لحظات التاريخ، أو قل كان حاضرا بفاعلية فيها، وحضوره هذا، كما يفترض، بالإضافة إلى موقعه الإداري، ينبغي أن يحفزه على أن يدلي بشهادة تضيء جوانب قد تكون غامضة عن مجريات وخلفيات هذه اللحظة التاريخية المميزة؟.
لماذا صمت؟. بل والأكثر انه صور الأمر وكأن كل شيء على ما يرام، رغم انه أعلن بأنه قد استقال من مهمته لاعتراضه على قضايا قانونية( بالتأكيد لا تخلوا من بعد سياسي) اعتبرها هو جوهرية؟.

إن الإجابة ببساطة هي: الخوف!
نعم الخوف.
ورغم إن الخوف يعود في كثير من أسبابه ودوافعه إلى خبرات فردية شخصية إلا انه في حالات كالحالة التي أمامنا هو نتاج خوف جماعي شامل له جذور غائرة في بنية المجتمع العراقي ومنغرس عميقا في نفسية الفرد فيه. وهذا الخوف هو من اكبر( إنجازات) نظام البعث وبطشه، وهو أيضا أهم ارث خلفه وراءه حرص حكام العراق الجدد على استغلاله وتوظيفه بطرق مختلفة وسعوا للحفاظ على جذوته لإدراكهم بأنه الطريقة الامثل للإخضاع والطريقة الأجدى لشل قدرات الاعتراض وبالتالي المعارضة داخل المجتمع.

السيد "رزكار محمد أمين" كان في هذا اللقاء، مثلما هو في قاعة المحكمة، خائفا من أن يقول أي شيء يغضب به الآخرين، أي كان هؤلاء الآخرين. كان خائفا من أن يقول رأيه لأنه لا يملك رأيا. فهو كحال الكثير من موظفي الحكومة الكبار لا يعرف سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر رغم إن وظيفة حاكم التي يشغلها هي ليست كالوظائف الإدارية الأخرى، لكونها تتطلب قدرا كبيرا من الوعي ومن الثقافة اللذان من شأنهما أن ينتجا شخصية ناضجة تحمل رؤية وتتبنى موقفا ويكون لها رأيها الشخصي بالأشياء. ولهذا يمكن القول انه ما كان ينبغي أن يتم اختيار قاض مسلكي تقليدي كالسيد "رزكار محمد أمين" ليدير محاكمة بقدر كبير من الأهمية كمحاكمة صدام حسين تتطلب لخلفياتها ولأهميتها طريقة مختلفة لإدارتها . ويمكن الجزم هنا ان اختيار السيد رزكار لهذه المهمة الكبيرة كان خطئا معيبا وهو على أية حال واحد من شجون وضع العراق الشاذ حيث لاشيء في مكانه المناسب.

خوف السيد رزكار بكل الأحوال لم يعكس خوفا فرديا بقدر ما كان يعكس خوفا جماعيا صار واحدا من مكونات الشخصية العراقية وبالذات تلك التي نضجت تجاربها العقلية والنفسية في ظل دولة ونظام البعث في حقبته الصدامية ولاسيما المراحل المتأخرة منها. لكن هذا الخوف لا ينبغي أن يفهم على انه نفس حالة الجبن التي ينظر إليها المجتمع بعدم احترام، وإنما هو نوع يمكن توصيفه بأنه حالة من انكسار الإرادة وانسحاق للشخصية لتواتر الضغط عليها يفقد المرء فيه وبسببه ثقته بنفسه ويفقد أيضا أي إحساس سوي بشخصيته وكيانه البشري. خوف يكرس استلاب الشخصية وينقل إليها عدوى نظرة السلطة القمعية التحقيرية لها فتحمل هي راضية هذه النظرة عن نفسها وتتبناها. ومن هذه النفسية ينشا سلوك يشوبه الارتباك غالبا وأحيانا يدفع إلى سلوكيات متناقضة تجنح للعنف بطريقة لا واعية للتعبير عن هذا الخوف وسعيا لكسر هيمنته والتخلص منه في نفس الوقت. وهذا الخوف، برأيي، هو نفسه الذي يصف ويفسر حالتي الخنوع والعنف المنفلت اللذان يتجاوران بتناغم، رغم تنافرهما الطبيعي، في تركيبة الشخصية العراقية، وهما اللذان طبعا مسار الأحداث في المجتمع.

اثبت السيد "رزكار محمد أمين" في هذا اللقاء انه أخطا مرتين. مرة حينما قبل بمهمة رئاسة محكمة هو عاجز ـ لتركيبته الشخصية والاجتماعية على التصدي الفعال لها لأنها تتطلب في ابسط شروطها شخصا جريئا يستطيع تحمل مسؤولية قراره؛ ومرة لأنه وافق على أن يظهر أمام الجمهور في لقاء تلفزيوني لم يقل فيه ما عرفه وما فكر به أو ما شعر به. وبهذا يكون قد خذل الجمهور وخذل التاريخ في آن واحد وقدم لنا نموذجا لولادة عسيرة يتمخض فيها حدث كبير فيلد لنا قاضيا صغيرا.


6-4-2008