٢٠٠٧-١١-٠٤

للحوار أخلاقه أيضا



الكتابة موقف وأخلاق فإذا فقدت إحدى هاتين الركيزتين ستغدو حينها أي شيء إلا أن تكون كتابة. وإذا كان احد أهم شروط الكاتب هو أن يكون صاحب موقف، باعتبار أن ذلك هو منهجه لتغيير الواقع، فان هذا الموقف وبالتالي الكاتب سيفقدان قيمتهما ودورهما إن لم يرفدا هذا الموقف بأرضية أخلاقية تضفي على الكتابة صدقا إضافيا. وفي ظروف تطورات عصرنا الحالي باتت لغة الحوار واحدة من أهم ركائز أخلاق الكتابة ومنهج تغيير الواقع. ويكتسب هذا الجانب بعدا إضافيا ومهام مضاعفة حين يكون الكاتب( يساريا وتقدميا) لما عرف عن حاملي هذا الفكر من عمق إنساني في نظرتهم للحياة وللإنسان. وفي زمننا هذا زمن الاختلاف والتباين ونسبية الحقيقة يكون من أولى مهام الكاتب اليساري، لنزوعه التقليدي للطليعية، هو تحفيز الحوار واغنائه باطروحات جديدة ورؤى متفاعلة مع الواقع. وهذا كله يفترض أن يكون بلغة مبنية على التواضع ومشبعة بمشاعر ودية إزاء المخالف مهما اشتدت درجة الخلاف أو تواضع مستوى المتحاورين.

ما بعث على التذكير بهذه البديهيات هو ما يصدر للأسف بين حين وآخر من كتاب محسوبين على فكر اليسار التقدمي من أسلوب ولغة في الحوار يتسمان غالبا بالحدة والاستخفاف بالآخر بل وبالتعالي والعجرفة من قبل بعضهم. سأطرح عينات من هذه اللغة اعتبرها نموذجية وأتجنب ذكر أسماء أصحابها ليس تجاهلا ( معاذ الله) كما يفعلون هم ولكن لكي لا احرشهم علي لان لهؤلاء سطوة وسلطة في عالم النشر الالكتروني وهذا من شانه أن يجعل سطوري هذه لا ترى النور:
(أميل شخصيا عند الرد على مثل هذه المقالات المغرضة إلى عدم إيراد أسم كاتبها مباشرة ... لأني اؤمن بأن ايراد اي أسم يساهم... في محاولة تسويق هذه الاسماء لنفسها والظهور بمظهر المفكرين والمحللين السياسيين... وايضا لان الرد عليها بالاسم هو شكل من الاعتراف بوجودهم وبأهميتهم..) ( خطوط التأكيد من عندي)

دائما هناك وفق هذه العقلية قصدا مبيتا ومغرضا لمن يتعارض مع أفكارهم هدفه عدائي على طول الخط.

واليكم عينة أخرى من شخص يصنف في عداد المفكرين والأكاديميين والسياسيين، وهذه صفات تفرض على حاملها مستوى من التواضع، والتواضع من كرم الأخلاق، وهو أيضا شخص قضى جزء كبير من حياته في بلد أوربي متحضر يعنى بالحوار وبالجدل الفكري، وكذلك هو رجل في سن الشيخوخة التي يفترض بها أن تجعله، بعد نضج تجارب الحياة، متسامحا وطيب القلب. لكن يبدو أن العجرفة متحكمة في نفسية هذا الكاتب بشكل لا فكاك منه. وهو هنا يردد ايضا ذات المضمون وبنفس الروحية المتغطرسة في موضوع لنفس الغاية وهي الدفاع عن حزبه السياسي، بعد أن عرض لبعض الاسماء التي يعتقد أنها جديرة بالنقاش، مع انه حقرها واستخف بشخوصها في جدله معها. فقال:
(... إذ لا يستحق البعض الآخر من هؤلاء حتى ذكر اسمه...)

تاملوا في هذه العبارة كم هي مشحونة بروح العداء والغطرسة ورغبة إلغاء الأخر.

إذن من يختلفون في الرأي، حسب هذه الذهنية المتعجرفة والقمعية ينبغي إلغاء وجودهم بعدم الاعتراف بهم ككائنات بشرية تمارس حقها في التفكير وإبداء الرأي، للحد الذي لا يستحقون فيه ( حتى ذكر أسمائهم). وهذا لا ينطوي على روح قمع ومصادرة بإلغاء الآخر واجتثاثه بعدم الاعتراف به، مما يذكر بلغة الإعلام ألبعثي في جدله مع خصومه وحسب، وإنما يدلل أيضا على نوع من الثقة بالنفس تجعل هؤلاء الكتاب يفترضون أنفسهم( لأسباب سياسية طبعا) من علية القوم ومشاهير الكتاب. وهذا تنفج ليس له رصيد في ارض الواقع. ويبدو أن هذه القناعة قد تملكت أصحاب هذا التيار اليساري مما دفع احد أتباعهم ممن ينتمون لذات الاتجاه في أخلاق الكتابة للقول بأنه لن يرد على المختلفين معه ومع حزبه لان هؤلاء( أي المنتقدين) يطمحون إلى الشهرة من خلال ذكر أسمائهم، وهو يحبط، بعدم رده عليهم وتجاهلهم، مخططاتهم تلك.


الا يجدر بنا التوقف هنا وإبداء الاستغراب من هذه الثقة العالية بالنفس التي يفترض صاحبها نفسه بأنه احد المشاهير وما أن يذكر اسم احد حتى يصاب صاحب الاسم هو الآخر بالشهرة ؟.

شيء يثير الدهشة حد انعقاد اللسان. وما يجعل من الصعوبة بمكان ابتلاع هذا الكلام هو انه يصدر من أناس يلهجون ليل نهار في كتاباتهم بنقد التيارات الدينية والسلفية والنظام ألبعثي وخطابه السياسي لأنه صادر ذات يوم حقهم، ضمن مصادرة حقوق المجتمع بأكمله، في الوجود وممارسة حق الاعتقاد وإبداء الرأي. ويدعون في نقضهم لهذا الخطاب إلى الحوار وحق الاختلاف. وهذا استخلاص رائع حقا. لكن أن يطالبوا بهذا الحق لأنفسهم فقط ويستنكرونه في الممارسة على الآخرين فهو الازدواج والتناقض بعينه. فهم ما أن يمارس الآخر المختلف في الرؤية والتقييم معهم حقه في الاختلاف حتى تنقلب الصورة ويظهرون نفس ما دأبوا على نقده من سلوك، فيتحول ناقدهم والمختلف معهم إلى شخص مغرض وطالب للشهرة وهو نكرة بطبيعة الحال ولا يستحق حتى ذكر اسمه.

اعتقد إن طيف ذهنية القمع ألبعثي ماثلا بقوة في هذا الخطاب، وان جرعة من التواضع قد تنفع هؤلاء وتخفف من غلواء داء العظمة المصابين به. قد يعترض قائل هنا إن هذه الأشياء صغيرة فلماذا علينا إن ننشغل بها، أقول: إن المصائب الكبيرة تبدأ أحيانا من الأشياء الصغيرة. لكن الأهم هو أن هذه الأشياء قد تكون صغيرة ضمن الدائرة التي تتحرك بها، والمناسبات التي تثار فيها. لكنها واقعيا كبيرة لأنها تعبر عن منطق وذهنية وبنية عقلية وأخلاقية ينبغي التصدي لها لتصحيح مسار الحياة الثقافية والاجتماعية، ولتصحيح العلاقات داخل الوسط الثقافي والسياسي لتنقية الأجواء من سموم الكراهية التي تشيعها العنجهية والتعالي اللذان يمارسان هنا وهناك. من هنا ومن هذا المنطلق والمقياس لن تبدو هذه الأشياء صغيرة، بل على العكس فهي كبيرة لاسيما إذا أدرجناها، كما يقتضي منطق المعالجة، في إطار بنية الخطاب الثقافي والسياسي السائد في الساحة السياسية والثقافية العراقية الذي تأثرت أساليبه وأنماطه بمخلفات فترات الاستبداد والتخلف ألبعثي وغيره. وأيضا لان من أولى مقتضيات التحول الديمقراطي المنشود هو إعادة تأهيل البنية العقلية المشوهة المنعكسة بقوة في الخطاب السياسي والثقافي. وبهذا تكون معالجة هذه الأمور هي من صلب عملية كبيرة ومعقدة. لن تنتهي بكتابة عابرة هنا وهناك وتصدي منفرد لهذا أو ذاك بل تقتضي فيما تقتضيه إعادة نظر شاملة في أبنية العقل العراقي بمكوناته المتعددة.

لكن الخطوة الأولى تكون عادة بالكشف عن ممارسات هذه الذهنية وبالتالي نقدها كجهد جزئي في عملية التغيير الواسعة، وهذا ما قصدته بهذه السطور.

3-11-2007

٢٠٠٧-١١-٠١

ذاكرة الانصار الشيوعيين





لا بناء بغير معرفة ولا معرفة بغير ذاكرة ولا ذاكرة بغير أرشيف।

هذه المعادلة الحيوية تفرض نفسها بقوة على من يريد أن يؤسس أو يعمق فاعلية أي كيان، سياسي كان أم ثقافي. وإذا كان تحقيق هذه المعادلة مهما، من الناحية النظرية، فكريا واجتماعيا، فان تطورات تكنولوجيا الوسائط الحديثة جعلت من أمر الأرشفة، الذي هو أساس المعرفة والخبرة، ليس ممكنا فقط بل وضروري في ذات الوقت، وذلك لما اتاحته من قدرات واسعة على الحفظ والتصنيف والعرض وبمختلف الأدوات النصية والصوتية والمرئية.

وإن جاز اعتبار الأرشيف اصل المعرفة فليس من المنطق لأي عاقل سواء كان فردا أو جماعة أن لا يملك أو يؤسس بجدية لأرشيفه الخاص. وبديهي في هذا السياق أن من لا يملك أرشيفا ولا يسعى لامتلاكه هو ببساطة وفي أحسن ألأحوال يرمي بنفسه تلقائيا في دائرة النسيان المعتمة. كما أن أهمية الأرشيف، بتعبير مجازي، تقرر مستوى الاستعداد أو القدرة أو الرغبة الذاتية في حفظ النوع سياسيا وثقافيا.

وإذا كان التطور التكنولوجي واحدا من المحفزات على مراكمة المعرفة بأرشفتها فهذا سيكشف لنا فورا فقر حال منطقتنا العربية المبتلية بكل ما هو سيء ـ من تخلف واستبداد وتطرف ـ في امتلاك قدرة وقبل هذا وعي في تطوير كياناتها بمختلف الجوانب. وإذا كان هذا حال المنطقة فكيف هو حال العراق الذي يقعي الآن منزويا بماسيه ومشاكله المعقدة نوعا وكما حتى بالنسبة لمحيطه المتخلف؟

نقول، ربما كان العراق الأكثر معاناة من بين كل بلدان المنطقة التي حضيت، في مسارها التاريخي المعاصر، بقدرة وميزة على أن تشكل كيانا حضاريا قابلا للحياة. فالعراق، وبسبب من النزعة التخريبية المدمرة التي تشكل أساس نظرة النظام ألبعثي الفاشي للحياة والثقافة والإنسان، زائدا الاحتلال والتدخلات الخارجية، ربما هو البلد الوحيد الذي فقد، بالتدمير والنهب، كل أرشيفه الثقافي والحضاري وبشكل متعمد لحد يثير الظنون بان هناك من يريد أن يلغي الذاكرة العراقية لسبب ما. لكن في الحقيقة إن هذه السمة، كواقع وميل، لا تنحصر في نمط سلوك وتفكير النظام الفاشي وحزب البعث فقط، وإنما تنسحب، وبنسب متفاوتة، إلى بقية الأطراف السياسية الفاعلة في الحياة السياسية العراقية التي تبغي بسلوكها تشكيل ذاكرة عراقية عوجاء، مشوهة، ومرسومة أو مبرمجة بطريقة انتقائية. لكن الادهى والأخطر أن هناك قوى سياسية ذات تاريخ وطني عريق تهمل أو تعرقل تدوين تاريخها بنفسها. وهذا بالتأكيد ينطوي على نوايا سيئة بالإضافة إلى ما يعنيه من قصور في الوعي وانعداما لبعد النظر. فتدوين تاريخ أي حزب أو جماعة، شرط أن يكون تدوينا موضوعيا وصادقا، هو مدخل لتطوير واقع هذا الحزب أو تلك الجماعة ومد جذورهما وترسيخها في وعي المجتمع من خلال الدخول للذاكرة الجمعية والمكوث فيها. فكيف يمكن تخيل أن حزبا سياسيا يسعى للحضور في الشارع السياسي ويتفاعل مع جمهوره ويتغافل عن وضع تاريخه أمام المواطن ويتقاعس عن أرشفة محطات نضاله وأنشطته؟

وينبغي التذكير هنا بشيء مهم هو أن تدوين التاريخ ليس حكرا في يد أي إدارة رسمية لأي كيان، سياسي كان أم ثقافي، فعملية أرشفة وتأرخة مراحل أو ادوار معينة في حياة هذا الحزب أو تلك الجماعة هي مسؤولية وحق من شاركوا في مسيرته وكذلك الحريصون على أن يشكلوا ذاكرة جمعية تخزن فيها كل الوقائع والحقائق. بمعنى آخر إن التاريخ هو ملك جماعي وحلقة تدوينه مفتوحة لجميع من يريد ويستطيع ذلك، ولا ينبغي حصرها بجهة محددة. من هنا أريد الدخول في مناقشة أهمية تدوين مرحلة خاصة من تاريخ العراق المعاصر أو تاريخ حركته اليسارية بالتحديد وهي تجربة حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين التي امتد نشاطها بين عامي 1979-1988.

بالتأكيد إن مهمة تدوين مسار هذه التجربة كان ينبغي أن يكون من صلب اهتمامات الحزب الشيوعي العراقي باعتبار أن الحركة هي بالأساس حركته المسلحة في مواجهة النظام الفاشي। كما كان ينبغي كذلك أن تقع هذه المسؤولية، بشكل تنفيذي وببرنامج عملي وتفصيلي، على عاتق رابطة الأنصار الشيوعيين. ولكن للأسف يبدو أن ليس هناك اكتراث لهكذا مشروع من هاتين الجهتين، كما أن هناك بعض الموحيات التي تدلل على نوع من التعمد في عدم ايلاء هذه التجربة وتدوين مسيرتها أي اهتمام لأسباب تتعدى عدم الاكتراث العام أو انعدام الحماسة التي تغلف كل أنشطة الحزب الشيوعي العراقي وأتباعه، لتلامس حساسية الموقف من التجربة ككل بسبب من أنها( الحركة) أسست لبعض المفاهيم والممارسات التي لا تروق للكثيرين من قيادات الحزب بمن فيهم من كانوا هم أنفسهم من الأنصار. والسؤال الجوهري هنا هو لماذا ينبغي تدوين تاريخ هذه المرحلة ولماذا الممانعة الرسمية في السماح لهذا التدوين؟

دأبت جميع الأحزاب على أن تقدم بعد سقوط النظام ألبعثي كشف حساب واسع لرصيدها النضالي ولما قدمته من تضحيات ولما قامت به من أعمال في مواجهة النظام ألبعثي، لم يخل بعضه من المبالغة والتجاوز على الواقع। لكن في خضم تعالي الاصوات هذا شهدنا صمتا من الحزب الشيوعي العراقي، أو قل محدودية في الحديث عن هذا الرصيد والذي تشكل تجربة الأنصار، بلا شك، جانبه الأهم. وحتى حين يجري الحديث عن هذه الاشياء إعلاميا فيكون على استحياء، بينما ماقامت به تجربة الأنصار يدعوا للفخر ويضاهي؛ بل ويزيد في الكثير من محطاته على ما قامت به الأحزاب القومية الكردية، رغم الصعوبات والتضييقات التي كان يلاقيها الأنصار الشيوعيون. بالإضافة إلى أن تجربة الأنصار ونظم حياتها الداخلية وضعت مثالا متطورا وراقيا من القيم الايجابية التي تفتقدها الأحزاب الأخرى في علاقاتها الداخلية ومنها، كمثال، وبدون تفاصيل، هو المساواة في الحقوق اليومية بين اكبر قيادي وبين ابسط نصير. لكن الحزب الشيوعي العراقي وبدلا من أن يباهي الآخرين بما أنجز وماقدم نراه ينزوي كمن يخجل مما لديه. وربما يعود هذا بأحد أسبابه إلى أن الحديث عن هذه التجربة قد يفتح بوابات أسئلة يتحرج الحزب من إثارتها. وذلك لان تجربة الأنصار كانت تجربة نوعية ومتفردة في تاريخ اليسار العراقي النضالية ( تجربة معمدة بالدم وكلفت أثمان غالية) تميزت بالاستمرارية والرسوخ، لأنها امتدت لمدى زمني طويل نسبيا، مرت خلاله بأطوار نمو وتطور مختلفة. كما أنها مرت بنكسات وصعوبات أشرت إلى خلل كبير في جدارة العمل القيادي الذي تؤديه قيادة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك مما وضع هذه القيادة وكامل كيان الحزب أمام حراجة إشكالية المساءلة التاريخية. بمعنى أنها فتحت موضوعيا تساؤلات حول جدوى وكفاءة وبالتالي شرعية القيادة الحزبية. وقد دار على هذه الأرضية، السياسية والفكرية، نقاش وصراع، خفي وعلني، عنيف وهادئ داخل منظمة الأنصار لم تنته آثاره لحد الآن. وقد شهدت تلك المرحلة اصطفافات مختلفة وتنوع في الآراء والطروحات وقدرا ليس قليلا من الاتجاهات الفكرية المتباينة. لقد كانت، باختصار، تجربة عرت إلى حد كبير آليات العمل الحزبي والتنظيمي بكل جوانبه، وكشفت، كما تردد كثيرا آنذاك، معادن الجميع. وأكيد أن تجربة كهذه، إضافة إلى جوانبها الفردية، النفسية والاجتماعية، وما تركته من آثار مختلفة على من خاضها، صار لها خصوصية وتميز عن كل مراحل ومحطات الحزب النضالية ومنعطفات مسيرته السياسية دون التقليل من شان أي مرحلة ولا أي تجربة أخرى.

وهذا الواقع، برأيي، هو الذي يشكل خلفية الضيق من تكريس أي قيمة خاصة لهذه التجربة، ناهيك عن الاهتمام بتدوينها والأكثر بدراستها وتقييمها من اجل وضعها في موقعها الذي تستحقه. وما قصة تشكيل منظمة للأنصار لاحقا إلا واحدة من الدلالات على النظرة السلبية والقلقة الكامنة خلف سعي الحزب لإعاقة إنشاء أي كيان يستمد وجوده من تاريخ هذه التجربة.

لنلقي نظرة سريعة على قصة تشكيل رابطة الأنصار الشيوعيين لنرى حيثيات هذا الزعم.

بعد أن انتهت حركة الأنصار بعد عمليات الأنفال سيئة الصيت في عام 1988 وتفرق شمل الأنصار ليتحول اغلبهم إلى بلدان مختلفة، تشكل نوع من الهاجس المحزن لدى بعضهم بان مهمته ودوره قد انتهيا ولم يعد لوجوده أهمية لاسيما وان منهم من كان ينظر لنفسه على انه بنى بدوره داخل هذه التجربة تاريخا نضاليا كبيرا، وانه أُبعد وهمش في الحياة الحزبية بعد انتهاء الحركة. وهذا الأمر ولد نوع من التوتر الداخلي في حياة الحزب انتهى كما هو معروف بابتعاد أعداد كبيرة من الأنصار عن التنظيم الحزبي وبطريقة تنطوي على احتجاج واضح. ورغم هذا بقي الأنصار محافظين على مستوى مميز من العلاقات الحميمة فيما بينهم( لا تزال هذه الحميمية مستمرة في الربط بين الأنصار ) في أماكن تجمعهم. وبعد مدة من الزمن بادر بعض الأنصار ممن كانت تجمعهم مجموعة عمل واحدة في كردستان إلى السعي لتشكيل رابطة أنصارية ذات أهداف اجتماعية لمد الحميمية وتوسيعها لتشمل الأنصار جميعا. وتكررت المبادرات في أكثر من مكان، وهي مبادرات فردية بعمومها، نجح بعضها في تشكيل تجمع من الأنصار الموجودين في بلد واحد. لكن الحزب لم يقف حينذاك متفرجا، فقد حاول أن يعرقل تشكيل بعض هذه التجمعات بسبب قلقه من بعض الأسماء ( لاسيما ممن هم خارج التنظيم) التي نشطت وقامت بالمبادرة. وقد وشى سلوك الحزب حينها بأنه كان متوجسا وقلقا من إمكانية أن تتحول هذه التجمعات إلى تجمع سياسي يطرح نفسه بديلا سياسيا عنه ويشكل خطرا عليه لأنه يدرك أن هذه المجاميع وبسبب من خلفيتها وتاريخها الأنصاري، لا يمكنها أن تبقى في الحدود التي أعلنتها. لهذا اتبعت تنظيمات الحزب الشيوعي استراتيجية ذكية تتلخص بالسعي لتقويض هذه المبادرات في بادئ الأمر عن طريق تسفيهها والتقليل من أهميتها وأهمية التجربة برمتها، كما لخص ذلك تعبير لأحد الحزبيين( إنها تجربة مرت وانتهت) أو العمل، في حال العجز عن إيقاف هذه المبادرة، على الدخول إلى التجمعات ودفع عناصره إلى النشاط الموجه داخلها للهيمنة على مفاصل التنظيم فيها. هكذا كان حال التجربة قبل سقوط النظام ألبعثي. وقد عرقل الحزب بعض المحاولات للتشكيل في عدة أماكن. ولكن بعد السقوط نشطت عناصر مختلفة لإعادة تنشيط هذه الفعالية وجعلها رسمية ولكن بمباركة من الحزب هذه المرة. وعليه تشكلت رابطة الأنصار الشيوعيين وصار لها مقر في العراق وهيئات إدارية في المراكز المختلفة وهيئة تنفيذية ونظام داخلي ومؤتمر عام ومقررات.

لكن المنظمة بهيئتها التنفيذية وبشكل ملفت جعلت من نشاطها ظلا لسياسات الحزب الشيوعي العراقي وصارت تناصره انتخابيا وتروج لأفكاره وشعاراته وسعت للمماهاة بين الرابطة وبين الحزب। وهذا بالتأكيد يثير تحفظ الكثير من الأنصار بسبب من أن الرابطة هي منظمة ديمقراطية أساسا. صحيح إنها تشكلت من أنصار جميعهم كانوا فيما مضى شيوعيين لكنهم الآن بعيدون عن التنظيم ويحتفظون بقناعات فكرية وسياسية بعيدة بدرجات متفاوتة عن نهج الحزب الشيوعي وسياسته وتحالفاته، وهذا الواقع يفرض، برأيي، على اللجنة التنفيذية، ولأجل أن تمثل الرابطة بكل أعضائها، ولتجسيد طابعها الديمقراطي واحتراما لتاريخ الأنصار، أن تبتعد عن إلحاق نفسها بسياسات الحزب الشيوعي العراقي وان لا تجعل من نفسها ظلا له. أما إذا كان لابد لرابطة الأنصار من موقف سياسي، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، فعلى مؤتمرها العام أن يحدد أبعاد هذا الخط السياسي ويرسم ملامحه، لان هناك في الحقيقة إشكالية فنية وفكرية سوف تواجه أي ممثل للمنظمة يشارك في الفعاليات السياسية العامة وهي:

أي رأي أو موقف يطرح ممثل الرابطة في حال اقتضت المناسبة تحديد موقف؟ هل يقدم رأيه الشخصي رغم انه ممثل للحركة في هذا المحفل أم ينبغي عليه أن يقدم رأيا سياسيا محددا ومرسوما ومقرا من الهيئة العامة والمؤتمر؟
هذه واحدة من الإشكالات التي ينبغي برأيي للرابطة والأنصار الوقوف عندها ووضع تصور واضح عنها।

إن ما يسيء للرابطة هو أن الحزب الشيوعي يسعى لإلحاق هذه المنظمة به وتفريغها من أي محتوى مستقل تسعى لتحقيقه. لكن بالتأكيد إن ماجعل الحزب يحقق نجاحا نسبيا في هذا المسعى هو القدر الكبير من السلبية والضعف في مواقف وسلوك الأنصار الآخرين، داخل الرابطة وخارجها، المختلفين معه في الرؤية والمواقف حول طبيعة الرابطة ومهامها.

واستكمالا لهذه الفكرة اقول: لايمكن لأحد إنكار الدور الايجابي للرابطة ولجدية بعض عناصر هيئتها التنفيذية وإخلاصهم في إنجاز الكثير من اجل إبقاء الرابطة على قيد الحياة وتطوير بعض جوانب نشاطها. ولكن ينبغي، برأيي، ولإضفاء معنى على الرابطة، الانتباه والاهتمام، ومن قبل الجميع، على أهمية توثيق وتدوين مختلف مراحل وجوانب حياة حركة الأنصار وبمختلف الوسائل؛ صور ونصوص وغيرها. وبهذا الصدد ينبغي النظر لفكرة حيوية وعملية هي إنشاء موقع على شبكة الانترنيت تكون مهمته الأساسية الإسهام في تأسيس قاعدة بيانات واسعة تعين على تدوين هذه الحقبة المهمة والمشرفة في حياة الشعب العراقي وليس الحزب الشيوعي وحركة اليسار فقط. ومن المهم أن يسعى هذا الموقع لان يكون منبرا مفتوحا للجميع ولاسيما للأنصار لتدوين ذكرياتهم وتقديم آرائهم وتقييماتهم للتجربة ولمراحلها المختلفة ودون أية قيود. كما انه من الضروري أيضا بهذا الصدد أن تسعى الرابطة لتشكيل لجنة ستكون مهمتها جمع مايمكن جمعه من تراث هذه الحركة من صور ووثائق ومذكرات وحث الأنصار على تدوين أي جزيئة من ذكرياتهم وآرائهم لتعمل هي على بلورته في نصوص واضحة في حال عجز النصير عن طرحه بالصورة المناسبة. وينبغي التوضيح هنا على أن الموقع على الشبكة سوف يكتسب ميزة هي انه سيكون كتابا مفتوحا بلا نهاية، قابلا للإضافة والتعديل بشكل مستمر، وهذا ماتتيحه تقنيات الشبكة، على العكس من المطبوع ألورقي محدود الامكانات والحركة. وهذا العمل إن كان ينطوي على صعوبة فانه لن يكون مستحيلا وجل ما يحتاج إليه هو الجدية وبعض الحماسة والجرأة على اتخاذ الخطوة الأولى.

في الختام اقول لن يبقي هذه التجربة الثرية، تجربة الأنصار الشيوعيين، في متن التاريخ وذاكرة الشعب العراقي غير تدوين مخلص لواقعها ومسيرتها وليس هناك من احد جدير بهذا التدوين غير الأنصار أنفسهم.


31-5-2006