٢٠٠٨-٠٣-٢٧

(أمطار النار)
عتبة مرتفعة في عالم الدراما العراقية


لان الفن هو واحد من بين اكثر عناصر الثقافة ارتباطا بهموم الناس، ولأنه الأكثر حساسية لتحولات الواقع الاجتماعية وتبدلاته السياسية فقد سعت نظم الاستبداد الشمولية للهيمنة عليه وتوظيفه في سبيل بسط هيمنتها على المجتمع ومصادرته. وإذا كان الفن بمجالاته المختلفة هو المستهدف الأول فان المسرح وفن الدراما التلفزيونية سيكونان ، لانهما يعكسان الواقع ويؤثران فيه، من اكثر المجالات استهدافا وتطويعا. لهذا شهدت الثقافة العربية درجات مختلفة من التطويع لهذا الميدان وبمسميات مختلفة، مرة باسم الفن الملتزم وأخرى باسم الفن الثوري الذي ينبغي عليه عكس القيم الجوهرية للأهداف الثورية( دائما هناك ثورات ونظم ثورية في الأنظمة الشمولية) أو إبراز العناصر الايجابية في التجارب الثورية. تلك كانت عكازات الثقافة الشمولية ومستويات نظراتها الجمالية. لكن إذا كان هذا المنحى الشمولي قد اخذ طابعا تنظيريا عقلانيا في بلدان أوربا، مصدر الفنون والجماليات الحديثة، بسبب ركائزها الحضارية الراسخة، فانه اخذ في تجاربنا العربية المحلية أشكالا كاريكاتورية وممسوخة. و إذا أخذنا واقع الفن في الثقافة العراقية بعمومه، والدراما بشكل خاص، لاسيما بعد إحكام نظام البعث في حقبة (صدام حسين) لقبضته الحديدية على كل مرافق المجتمع العراقي، سنجد وببساطة مستوى واضح من الانحطاط على مستويات الرؤى الجمالية والركائز الفكرية نزولا إلى التقنيات الفنية وأشكال الأداء . فقد شهد المسرح العراقي، وبالذات حقبة الثمانينات وماتلاها، شيوع العروض التهريجية التي شكلت قطيعة فعلية مع تقاليد المسرح العراقي الذي عرف بجديته ورصانة إنجازاته لتهبط بفن المسرح وبالمشاهد إلى درك واطئ، ولتخلف تشويها للذائقة الجمالية وغيابا لأي عكس جمالي لواقع الإنسان والمجتمع ولظروفهما.

وقد نالت الدراما التلفزيونية نصيبا اكبر من الضغط والتطويع لان علاقتها بالجمهور علاقة مباشرة وواسعة، وهي تحظى بمتابعة مكثفة منه لأنها تقتحم عليه بيته عبر جهاز التلفاز وهو اخطر جهاز في عالم الاتصالات الحديثة وأكثرها أهمية على الإطلاق. وإذا تجاوزنا الأعمال الدرامية المفصلة على مقاسات النظام الأيدلوجية والدعائية سنجد أن الأعمال الجادة والناجحة لجأت، أما إلى التاريخ كملاذ يجنب المبدع التورط بمعالجات اجتماعية مسؤولة، كمسلسل (حكايات المدن الثلاث) للمبدعيّن (محمد شكري جميل) و(عادل كاظم). وأما إلى نمط من التجريد الميتافيزيقي في تحديد خلفيات الأبطال ودوافع سلوكهم بانساب شرور أفعالهم إلى طبيعة النفس البشرية المفطورة على الشر، إن لم تجد من يحركها من وراء الحدود كعادة الأعمال الفنية في المنظومات الشمولية. لذا نرى أن مثل هكذا أعمال وحتى في أحسن أحوالها قد افتقدت للحس النقدي، وتجنبت الإشارة إلى المسببات الحقيقية للإشكالات الاجتماعية التي عالجتها والمرتبطة أصلا بطبيعة المنظومة السياسية أو الاقتصادية، أي بكل ماله صلة بالسلطة.

ولكن بعد سقوط النظام وانفتاح الساحة الثقافية لم نشهد تحولا مقنعا في حال الدراما العراقية. ففي جو الانفتاح وقدر الحرية الواسع أخذت بعض الفضائيات، باعتبارها مؤسسات إنتاج فني وثقافي، بنفس أدوات المسرح التهريجي، سليل المرحلة الفاشية، لتصب غضبها السياسي على خصومها. وابرز من جسد هذا السلوك هو فضائية (الشرقية) التي أنتجت بضعة أعمال معتمدة فيها على مجموعة من المهرجين الذين قدموا للجمهور كوميديا فظة ومبتذلة في معالجة الواقع ونقده. ولم تقدم هذه القناة شيئا يعتد به حتى في نتاجاتها الجادة كمسلسل (سارة خاتون) الذي استمد مقوماته من مادة خام راقية جدا، هي سيرة حياة شخصية اجتماعية لها حضور في تاريخ العراق الحديث، والتي كان يمكن للمتصدين للعمل من خلالها إلقاء الضوء على حقبة بدايات تشكل الدولة العراقية الحديثة والمجتمع العراقي الحديث ورصد تحولاته. ولكن للأسف أهدر كادر العمل جميعه هذه المادة الأولية الراقية بتأليف درامي ساذج لم ينجح في أن يشكل ملامح الشخصيات لا على مستواها الفني ولا الموضوعي. ووضع على السنة أبطاله لغة لا تنسجم وخلفياتهم، بالإضافة إلى تلفيق الشخصيات وتنميطها بدرجة أفقرتها وغيبت ملامحها. كذلك نفذ هذا العمل برؤية إخراجية وأدوات ركيكة يستطيع حتى تلاميذ مدرسة ابتدائية تقديم ماهو أفضل منها. وبأداء تمثيلي نمطي ركيك أضاع حضور حتى بعض الطاقات الفنية المميزة التي ساهمت بالعمل. لكن في مسلسل (أمطار النار) الذي أنتجته قناة (البغدادية) الفضائية كان الأمر مختلفا بشكل كبير وملحوظ. ليس على صعيد المقارنة بين ما انتج من أعمال جديدة في ميدان الدراما وحسب، وإنما على مستوى الدراما العراقية عبر تاريخها. فـ (أمطار النار) قدمت مجهودا إبداعيا مميزا سوف يشكل- بتقديري- عتبة مرتفعة في عالم الدراما العراقية قد يصعب، أن لم يبذل جهد واع في تكريس الأعمال الجادة، أن يتم تخطيها أو حتى مضاهاتها.

لكن ماهي هذه المزايا الفنية التي جعلتني اقدر هذه الأهمية لهذا العمل الفني؟

أول ميزة او عنصر ايجابي يسجل للعمل هو النص الدرامي. فقد عبر النص الدرامي عن قدرة عالية وإتقان فني كبير في رصد تجربة لمجموعة سكانية،، هم سكان الاهوار في جنوب العراق، عانت من ويلات ما سمي بحرب الخليج الأولى . وقد استطاع كاتب المسلسل المبدع (صباح عطوان)، صاحب الخبرة والمراس في ميدان الكتابة الدرامية، أن يقدم لنا في ( أمطار النار) عملا دراميا بمستوى عال من التماسك جمع برشاقة بين تاريخية الحدث وواقعية شخصياته وكثافة حضورها الفني. واستطاع أن يسلط الضوء على الكثير من حيثيات بيئة الاهوار، وعلى الظروف القاسية التي مر بها سكانها. كما يسجل له أيضا الدقة في رسم الشخوص والانسيابية والصدق الفني في لغتها وبناها النفسية ومستويات وعيها الاجتماعي. كذلك احتوى النص على كم كبير من الشخصيات التي رسمت أبعاد البيئة وأحداث غطت فترة زمنية طويلة نسبيا، وهذا يمنح العمل بعدا ملحميا أضاف قدر من النجاح إلى العمل، وان كان يؤخذ عليه بعض العجالة في رصد بعض جوانب الواقع واختفاء غير مفسر لبعض الشخصيات من على مسرح الأحداث. لكن بما أن للعمل جزءا ثان قادم لا يستطيع المرء الحكم النهائي على هذه النقطة. ومن بين العناصر الأخرى التي تحسب للبناء الدرامي هي توزيع الضوء بشكل ممتاز على الشخصيات لرسم دورها في الأحداث. فنجد إن جميع الشخصيات أخذت القدر الكافي من الضوء لتقدم نفسها وهمومها ودورها في الحدث الأكبر أو صياغتها للواقع، وان كانت هناك بعض الحوارات الطويلة التي أثقلت على حركية وديناميكية العمل.

ميزة أخرى كانت مهمة جدا بتقديري، والتي شكلت تحولا نوعيا في طرائق الأداء الدرامي العراقي، وهي مسرح الأحداث، الذي غلب عليه المجال المفتوح، أو الأحداث في الهواء الطلق. فقد خرج لأول مرة وبهذه الكثافة التصوير من الاستوديوهات والردهات المغلقة أو الغرف وصالونات البيوت والمكاتب، التي غلبت على الحيزات المكانية التي قدمتها الدراما العراقية، إلى الهواء الطلق في الطرقات والأسواق والأنهار وسط الطبيعة. ولكن ما اسقط هذه الميزة وسلبها بعض من القها هو، كما أخمن، ضعف الإنتاج الذي انعكس على إرادة المخرج وأدائه. فقد ضاعت للأسف فرص رائعة لتكوين مشاهد بانورامية تعتمد الحركة السريعة والإثارة كمشاهد سقوط القذائف على صرائف الاهوار( أكواخ القصب) والهروب الجماعي منها. فلم تصور هذه المشاهد بأكثر من كاميرا أو اثنتين ولم ترصد من زوايا مختلفة. باختصار لم تستخدم تقنيات مناسبة لإظهار هذه المشاهد كما ينبغي أن تظهر عليه. وأظن أن المخرج كان قادرا على تقديمها لكن يبدو أن الإنتاج والقدرات المحدودة قد خذلاه.

ومع إن الإخراج لظروف اعزوها إلى الإنتاج وبعض الإهمال لم يكن بمستوى النص على طول الخط، إلا انه، رغم بعض الهفوات والقصورات، كان إخراجا رائعا استطاع المخرج (عزام صالح) أن يقدم العمل وينقل لنا أجواء البيئة بطريقة مشوقة ألقت ضوء الفن الباهر على واقع غالبا ماكان مزدرى ولم يحض باهتمام كبير.

ركز الإخراج كذلك على تفاصيل دقيقة في بيئة العمل وصورت كل المشاهد في أماكن حية عكست نكهة المكان الطبيعية ولم يسقط المخرج في فخاخ الأماكن الجاهزة المقولبة الخالية من الروح وعبق الواقع. فصور حركة الناس في بيئة مفتوحة، في الاهوار والأماكن المهجورة، وفي شوارع وأزقة قديمة وفقيرة، وفي فنادق شعبية متهرئة الجدران. كذلك يحسب لكادر العمل تقديم الأزياء وأنماط اللباس وتسريحات الشعر بإتقان عال جدا عجز عن مضاهاته أي عمل فني سابق تناول البيئة الريفية( مع ملاحظة غياب الوشم في وجوه النساء وهو شيء مألوف وكثير في هذه البيئة).

كان الجسد الناقل لكل الرؤى الإبداعية التي اكتنزها النص الدرامي والرؤية الإخراجية هو الممثلون الذين فاجأوا المشاهد بمستوى من الأداء ازعم بأنه قل نظير له في تاريخ فن الدراما العراقية. فلأول مرة تجسد شخصية أبناء أرياف الجنوب وسكان الاهوار بالخصوص بهذا الشكل المميز والدقيق. ورغم تعثر بعض الممثلين في أداء الأدوار مما يزيد من هفوات الإخراج، لكن الأداء التمثيلي بشكل عام كان متفوقا للغاية. وأيضا هناك بعض الممثلين الذي أدوا أدوارهم بطريقة جعلت من أدائهم يشكل معيارا مرتفع المستوى لمن يريد أن يتصدى لمثل هذه الأدوار. وبالتأكيد إن اداء الفنانة (عواطف السلمان) كان متطورا لحد يثير الإعجاب والانتباه إلى هذه الفنانة الكبيرة. ولا ينبغي هنا إغفال أن دورها كان من بين أصعب الأدوار في المسلسل، ولا اعتقد بان هناك ممثل ضاهاها في مستوى الأداء لا من داخل العمل ولا من خارجه. فقد استطاعت هذه الفنانة أن تنجح في تقديم الشخصية التي جسدتها( موزة) بتفاصيلها من اللهجة الجنوبية( ريف العمارة)، ــ التي شكلت على طول خط الدراما العراقية تحديا للكثير من الفنانين،لم يستطيعوا، برايي، اجتيازه إلا بأداء (عواطف السلمان) ـ إلى النبرة وما يرافقها من إيماءات وحركة.

ولكن بروز وتفوق الفنانة (عواطف السلمان) لن يمنع من القول أن العمل قدم طاقات إبداعية تثير الإعجاب و (العجب) من وجود هكذا مواهب مميزة في ميدان الفن العراقي. طبعا لايمكن لمن تابع العمل أن لا ينتبه إلى الأداء المتفوق للفنانين الموهوبين (ستار البصري - صكبان المكوطر) و (سامي قفطان - الحاج مطر) و (نجلاء فهمي - رسلية)، والأداء المميز والدور الكبير الذي أداه الفنان (عبدالجبار الشرقاوي – سيد برهم) ولا يمكننا في هذا السياق تجاوز قامات مرتفعة وطاقات لامعة في العمل لم تكن معروفة( في الأقل لي شخصيا) كالفنان المبدع ميمون ألخالدي - شنشول) و (طه المشهداني - راهي)، والمميز جدا (كاظم القريشي - نوماس). وكذلك عدد آخر من الفنانين الذين وقع ثقل نجاح العمل على أدائهم المتفوق كالفنانة (فاطمة الوادي - حورية). وذكر هذه الأسماء لتميزها لا يمنع القول من أن هناك كثير من الفنانين الآخرين الذين قدموا أدوارهم بطريقة متقنة وجذابة.

إن مسلسل ( أمطار النار) كان إنجازا كبيرا بكل المقاييس، وقد بدد إلى حد كبير التصور الذي انطبع في ذهن المشاهد العراقي، لاسيما بعد النجاح الذي قدمته الدراما السورية،من أن الدراما العراقية فاشلة وان ممثلينا لا يجيدون فن التمثيل.

فهل ستواصل الدراما العراقية خطواتها في طريق تطورها والنهوض من كبوتها مع (أمطار النار) لتسترجع القها المندثر؟
يبدو لي أن الشرط الأساسي لتطوير الدراما العراقية، وكما هو الحال مع جميع أشكال الإبداع الأخرى، هو ، بالإضافة إلى الجدية، نوع من المراكمة. فالفنون العراقية بحاجة إلى مراكمة بتكثيف الإنتاج كمدخل سليم لتقديم أعمال نوعية.

لكن بما أن شكل التطور في المجتمع العراقي هو من النوع الارتدادي، ينبغي علينا أن لا نسقط في خطيئة تقدير الواقع بصورة حالمة، وننحدر الى تفاؤل ساذج، وعلينا، بقدر مانامل في أعمال ناجحة، أن نتوقع أن يكون هذا الإنجاز الفني الكبير الذي قدمته لنا (أمطار النار) هو هفوة جميلة وقع فيها الفن العراقي كما كان يحدث معه طيلة تاريخه.
لكن لنأمل قليلا في جميل قادم.

٢٠٠٨-٠٣-٢٢

في إنصاف سلمان رشدي




أورد السيد (اشرف عبدالقادر) بمقاله المنشور في الحوار المتمدن يوم 20-3-2008 عبارة لفتت انتباهي وأثارت استغرابي في نفس الوقت. ونص العبارة هو(تحليلي لإصرار الدكتورة وفاء على موقفها من الدين-وهي الطبيبة النفسانية- أنها تريد الشهرة بأي ثمن، تماماً كما فعل سلمان رشدي، ولولا فتوى الخميني بقتله ما علم به أحد حتى الآن، ولكان كاتباً للرواية من الدرجة الثالث تحت الصفر).

المقصود بهذه المقارنة هو الدكتورة (وفاء سلطان) بعدما أثارته مؤخرا من لغط باطروحاتها حول قضايا الدين الإسلامي. وما يهمني هنا ليس المقال ولا مضمونه وإنما المقارنة المجحفة التي ساقها السيد الكاتب في مقاله، حيث وقع بهذه المقارنة، برأيي، في خطأ وخطيئة بعقده مقارنة غير منطقية، وتشابه غير ممكن واقعيا، بين مكانة ودور (سلمان رشدي)، كروائي حداثوي بأفق نهضوي في الرؤية والإنجاز الإبداعي، وبين سيدة يطغي على نتاجها وفعالياتها الجدل السياسي الصاخب والمشحون بقدر كبير من الإثارة المصطنعة، عامدا إلى نثر الشتائم والإهانات للمحاورين وللمخالفين بالرأي. قد يكون تحليل السيد (اشرف عبدالقادر) حول سعي الدكتورة (وفاء) للشهرة مقبولا منطقيا، بل ويمكن له أيضا، بتقديري، أن يدرج نشاطها ودوافعها ضمن الرؤية الغربية لواقع الشرق المرتكزة على منظور نمطي لا يفهم عمق طبيعة هذا الواقع وخلفياته. أي بمعنى أن يضع ممارسات السيدة (وفاء) ضمن دائرة النشاط الغربي الذي يركز في مطبوعات كثيرة، لأهداف الإثارة والتجارة أحيانا، على نقاط مثيرة في الواقع الشرقي كمذكرات الأميرات العاشقات والهاربات مع عشاقهن وما يشابهها من نمط كتابات تريد الدعاية والانتقاص من الآخر. لكن أن يضع الدكتورة( وفاء) بمستوى واحد مع (سلمان رشدي) فهذا شي لا يستسيغه منطق ولا يقبله عقل . ويبدو لي إن مصدر هذه المقارنة هو قصور في تقييم وفهم طبيعة منجز (سلمان رشدي) الإبداعي، وعدم دراية بتاريخ أو سيرة حضوره في ساحة الإبداع، وبالتالي عالم الشهرة. وهذه ليست هي المرة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التقييمات لشخصية وأعمال (سلمان رشدي)، فقد دأبت بعض الكتابات على اختزال هذا الفنان الكبير في واقعة واحدة، هي إشكالية روايته (الآيات الشيطانية) وفتوى (الخميني) التجريمية بحقه. وهي أراء وتقييمات وضعته، بغير قصد أحيانا، في خانة الباحثين عن الشهرة الرخيصة، وهذا أمر مناف للواقع تماما. فالمتتبع لعالم الإبداع الأدبي سيعثر بالضرورة، في طريقه، على اسم وأعمال (سلمان رشدي) باعتبارها أعمال روائية إبداعية مميزة. وسيعرف من أن رشدي هو كاتب ومثقف معروف على نطاق عالمي قبل أن يطلق (الخميني) فتواه القاتلة يهدر دمه بسنوات عديدة؛ ومن انه روائي من الطراز الأول وليس من كتاب الدرجة الثالثة كما وصمه السيد اشرف. فقد نفدت، على سبيل المثال وبشهادة شخصية، رواية (العار) من معرض دمشق الدولي للكتاب في أواسط الثمانينات( قبل الفتوى والآيات الشيطانية بزمن طويل) بأيام قليلة. كما إن أعمال (سلمان رشدي)، على الأقل منذ (أطفال منتصف الليل)، قد ترجمت إلى عدة لغات ( أنا اعرف عن أربعة منها) قبل الفتوى المشئومة. وهذه الوقائع، على بساطتها، تؤكد بشكل ما أن رشدي كاتب له مكانته وانه اسم معروف ونتاجاته ذات رواج واسع، والا لما اهتمت بترجمة أعماله شعوب وثقافات متعددة لو انه كان كاتب درجة ثالثة تسببت بشهرته فتوى دينية ظلامية.

وإذا كان غير متاح لي هنا تقديم عينات وتحليلات لطبيعة نتاج وإبداع (سلمان رشدي) فيمكنني، على سبيل الاستدلال، الإشارة إلى ما قدمه الدكتور (صادق جلال العظم)، في كتابه (ذهنية التحريم)، من تحليل عميق لطبيعة أدب (سلمان رشدي) حيث عقد في كتابه هذا مقارنات ممتازة بين أدب ودور(سلمان رشدي)، ودور كل من (فرانسوا رابيليه)، أديب ومثقف عصر النهضة، (وجد ميلان كونديرا في كتابه <الوصايا المغدورة> ذات التناظرات بين الأديبين)، و(جيمس جويس) في القرن العشرين. كما ركز الدكتور (صادق جلال العظم) في مناقشته، التي شكلت الجزء الأكبر من كتابه المشار إليه، على الأبعاد الفكرية والنقدية التحررية، التي جسدها (سلمان رشدي) بإعماله الإبداعية، والتي تناقش بعمق طبيعة البنى الفكرية والعقلية والأيدلوجية والعقائدية والشعورية التي تقبع في اسر تخلفها وعتمتها مجتمعاتنا الشرقية. وإذا كان الأدب لا يقدم مضامينه بقوالب فكرية مجردة، لان الجمالي مرتبط بالضرورة بالفكري، والأسلوب متعاضد مع الرؤية، فان البنى الأسلوبية التي حققها (رشدي) بأعماله هي متقدمة للغاية تجعل منه بكل استرخاء واحدا من بين كبار كتاب العالم.

ابرز ميزة في أدب( رشدي) هي الفكاهة باعتبارها، حسب الشاعر المكسيكي ( اوكتافيو باث) الابتكار العظيم للروح الحديثة. وهي حسب (باث) أيضا (ليست الضحك والسخرية والهجاء، إنما نوع خاص من الهزل) ولهذا كانت أعمال (رشدي) الروائية مليئة بعوالم فانتازية مثيرة، تضج بنقد العالم بضفتيه، شرقا وغربا، وبأسلوب مليء بصور وأخيلة مكتظة بالحكايات والأساطير والخرافات وروح الدعابة الشعبية، وبلغة متمثلة لكل مكنونات النفس البشرية والعقل الجمعي لمجتمع يقول الأشياء ويراها بطريقته الخاصة، ويصور الواقع من زوايا تمثل مصالح ورغبات تبدأ بأشياء عالم أبطاله الصغيرة( كانت أم سليم سيناء بطل أطفال منتصف الليل تحاول أن تتعلم كيف تحب زوجها جزءا جزءا،وزوجها التاجر الصغير كان يضل طريق العودة إلى البيت، لتداخل الأزقة، فيدفع مبالغ صغير للأطفال ليدلوه على بيته) إلى مطامع السلطة وليالي القمع الوحشي ( مشهد مذبحة طائفية وقعت لأنصار عبداالله الطنّان).

عوالم (رشدي) الروائية مكتنزة بالغرابة والنقد الضاحك لأنه ينتمي إلى مدرسة تنتهك المقدس وتدنسه، وحسب تحليل( صادق جلال العظم)، فان (سلمان رشدي) ينتمي إلى تقاليد أدب المعارضة الهجائي الساخر والمتهكم والهازل، وهي تقاليد لها جذور وأصول في الثقافة العربية والإسلامية، وليست منتجا غربيا صرفا يحرض على أن يصنف (سلمان رشدي) بموجبه، كدليل اتهام جنائي ضده ، كأحد نتاجاتها أو نتاجات مدارس التغريب والاستشراف الأوربي.

سلمان رشدي روائي كبير لان أعماله حسب توصيف الدارسين له هي مراجعة نقدية لكل التراث الفكري والشعائري والأخلاقي لواقع الشرق ولعلاقة الغرب به. وهو يكتب الرواية، كما يقول هو نفسه ( لتكذيب الطبعة الرسمية للحقيقة) التي يقدمها الساسة في بلاد العالم كلها. اختصارا يمكن إجمال فكر وإبداع سلمان رشدي على انه تعبير عن صيرورة التحول الكامنة في مجتمعاتنا، ونقده الساخر وانتهاكه للمقدس هو بالضبط واحد من أهم الأدوات الضرورية لتغيير واقعنا المتكلس.

لكن مرد الرؤية القاصرة لتقييم مكانة (سلمان رشدي) التي أثمرت مواقف وآراء خفضت من هامته العالية تعود، بتقديري، أو على الأقل بجزء كبير منها، إلى طبيعة الجدل الذي دار حول رواية ( آيات شيطانية) والفتوى الدينية بحقه، والذي انطلق بشكل أساس من منطلقات فكرية تجريدية تتعلق بانتهاك المقدس من ناحية، وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير من ناحية ثانية. فقد تكرست وجهتا النظر في هذا الجدل حول مساحة حرية التعبير ومدى السماح لها أو أحقيتها بالاقتراب من المقدس والمس به. وبهذا النقاش حضر (سلمان رشدي)، المنتهك للمقدس والمجدف في الدين( شرقا) وضحية الظلامية السلفية والتخلف والاستبداد الشرقيين (غربا) وغاب (سلمان رشدي)، الأديب والفنان الناقد، ذو الرؤية النهضوية التي أقامت إبداعها على النقد الساخر والعميق لكل أشكال التكلس العقلي، والركود الاجتماعي، والتخلف المعرفي الذي تعاني منه منطقة الشرق. وعلى هامش هذا النقاش ولدت صورة جاهزة ساهم في صنعها الإعلام لانشغاله السطحي بحيثيات اختفاء ومعاناة (رشدي)، إذ أهدرت قيمته بتصويرها إياه كأحد نجوم المجتمع، الأمر الذي سطّح النظرة إليه، وبالتالي بسط الموقف منه وأوقع الكثير من المثقفين في مطب اعتباره، دون تمحيص، أديبا مجهولا أو منسي للحد الذي جعله بعضهم رديف لطالبي الشهرة العابرين والهستيريين كـ (وفاء سلطان) وغيرها.
آن الأوان لكي يعاد الاعتبار لـ (سلمان رشدي)، كأديب ومفكر مبدع ، في خطابنا، وان نكف عن اعتباره نجما لامعا يسعى للشهرة لكي لا نظلمه في مقارنات مجحفة هو اكبر منها بكل المقاييس.



٢٠٠٨-٠٣-١٩

نوشيروان مصطفى... سقوط ورقة التوت



ذات مرة كتب احد الكتاب التابعين للساسة بضع مقالات مطولة حاول أن يقدم فيها شخصية( نو شيروان مصطفى)، القيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني، على انه مثقف المعي وليس سياسيا فقط. ونحن نعرف أن جمع صفة المثقف مع السياسي هي حالة رائعة لكنها نادرة. ولان هذا الكاتب لم يقدم مبررات وأدلة مقنعة عن أطروحته المثقفة تلك، فقد كان من الصعب على القارئ حينها التأكد من زيف ما حاول إقناعنا به. لكن حبل الكذب قصير، كما تقول الحكمة الشعبية، وجاءت اللحظة التي تم فيها كشف تهافت هذا الادعاء الفج. والطريف في الأمر إن الشخص الذي اثبت زيف هذا الادعاء هو( نو شيروان مصطفى) نفسه، حيث كشف، في لقاء تلفزيوني على فضائية البغدادية يوم 16 آذار أجراه معه الإعلامي العراقي الدكتور حميد عبداالله، من انه شخص بعيد عن صفة المثقف التي يلصقها به أتباعه. ذلك إن المثقف هو من يستطيع الاحاطة بالموضوعات المطروحة أمامه ومن يستطيع استكناه جوهر السؤال الذي يطرح عليه، وهذا لم يظهر في ردود نو شيروان في هذا اللقاء، فبعدما اكتفى بالإجابة بنعم وكلا على عدد من الأسئلة اخذ يجادل مضيفه وكأنه جالس في مقهى، في الوقت الذي يفترض فيه وضعه كسياسي وكمثقف، كما هو موصوف في مدونات الاتباع والمتملقين، أن يغتنم فرصة اللقاء التلفزيوني معه لتقديم اكبر قدر ممكن من الأفكار والتحليلات حول الموضوعات التي يتناولها.

في هذا اللقاء لم يكن نو شيروان مكشوفا كشخص غير كفوء في مضماري السياسة والثقافة وإنما ظهر كسياسي فاشل يكذب بطريقة فجة وليس على طريقة السياسيين الحاذقة. وتجلى هذا بوضوح في إجابته على سؤال محاوره حول قيادته الشخصية لمعارك قتل فيها الكثير من الشيوعيين العراقيين ( المقصود معارك بشتاشان عام 1983)، حيث قال، وبعد أن لف ودار ولوى رقبته، بان الحزب الشيوعي العراقي كان ضمن تحالف (جود)( الجبهة الوطنية الديمقراطية) ، وان الحزب كان ضمن الجبهة العسكرية لهذه الجبهة، وان (جود) كانت تريد إقصاء الاتحاد الوطني الكردستاني عن ساحة النضال( كذا). وكذلك لم يكن الحزب الشيوعي العراقي المتكبد الأكبر للخسائر، وإنما هو ضخم الموضوع وأثار ضجة حول هذه العملية لان ماكنته الإعلامية أقوى من التي عند الآخرين. وفي محاولة ساذجة لخلط الأوراق قال إن (جود) كانت تتلقى الدعم من إيران، وان الاتحاد الوطني الكردستاني كان حينها في صراع مع إيران.

هذه باختصار إجابته عن هذا السؤال المهم। وهي، باختصار أيضا، كلها ملفقة وكاذبة. لان الوقائع المعروفة للكثيرين تقول عكس ذلك تماما.

أولا لم تكن جبهة (جود) ولا حتى الحزب الديمقراطي الكردستاني كانا قد وضعا ذات يوم في اولوياتهما طرد الاتحاد الوطني الكردستاني من ساحة العمل المسلح، أو ساحة النضال كما يحلو لـ (نوشيروان) تسميتها. بل أن الوقائع كانت تقول عكس ذلك تماما. فقد كان الاتحاد الوطني هو الذي يسعى لإبعاد القوى السياسية عن مناطق العمل المسلح التي ينشط هو فيها، لأنه، وعملا بما جبل عليه سياسيا، كان يريد الانفراد بالقرار السياسي في أي منطقة يتواجد فيها. وكان يريد كذلك من الآخرين الانصياع له، وذلك لنزوع زعاماته الحزبية إلى الانفراد والسعي لإقصاء الآخرين أيا كانوا أو جعلهم تابعين. وهذا يتعارض بداهة مع كل قيم العمل الوطني. ومن هذه الخلفية وبتلك الدوافع قام هذا التنظيم المريب بخوض عدة معارك مفتعلة مع جميع الأحزاب الكردستانية فيما سمي زورا باقتتال الأخوة راح ضحيتها الألوف من أبناء الشعب الكردي. وكان في جميع هذه المعارك هو البادئ وهو المعتدي. ومعركة (هاكاري) خير دليل على هذا القول، حيث قامت قوات الجلاليين حينها بالهجوم على المقرات الرئيسية للحزب الديمقراطي الكردستاني في منطقة بهدينان بهدف كسرهم عسكريا والاستيلاء على المنطقة. والجميع يعرف أن ارض كردستان كانت مقسمة بين الحزبين. فمنطقة بهدينان كانت تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، ومنطقة سوران تخضع بدرجة كبيرة لسيطرة قوات الاتحاد الوطني. ولم تسجل طيلة فترة العمل المسلح أي حادث حاول فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني الاقتراب من مناطق الجلاليين وذلك تجنبا للاقتتال معهم. مع إن منطق الأشياء يقول إن من حق أي حزب وطني التواجد في المنطقة التي يرى أن عمله فيها ممكن وضروري. ثم إن الحزب الشيوعي العراقي عرف بمواقفه الحيادية في عملية الصراع الطويلة بين الطرفين المتصارعين، بل والأكثر انه كان يحاول أن يصلح الأمور بينهما. حتى عرف بأنه حزب( ريش سبى) أي ذو اللحية البيضاء، وهي كناية للشخص الخّير الذي يصالح بين المتخاصمين. كما أن الحزب الشيوعي العراقي كان عضوا في التحالف الآخر المتواجد فيه الاتحاد الوطني الكردستاني وهو جبهة (جوقد) ( الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية)( أخفى نو شيروان هذه المعلومة مهمهما بجملة مبتورة) وهي متشكلة من مجموعة من الأحزاب السياسية العراقية الصغيرة والمتواجدة خارج ارض العراق( في سورية). وهي جبهة ليست نقيضة لجبهة (جود) ولا في حالة صراع معها على الإطلاق. علما إن جبهة (جود) قد تشكلت بشكل أساس بسبب من ممانعة الاتحاد الوطني الكردستاني على دخول الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جبهة (جوقد) التي كان يفترض بان تكون هي الأوسع وتجمع كل قوى المعارضة.( ألا يذكر هذا بجبهة الاتحاد الوطني عام1957 حينما اعترض البعثيون على وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني فيها ـ أنا هنا اذكر فقط ولااقارن بين الحالتين أو أشير إلى التشابه في السلوك). يتبين مما تقدم أن الحزب الشيوعي العراقي لم يكن طرفا في النزاع الدائر بين الحزبين الكردستانيين، ولم ينحز لأي طرف منهما. ولم يكن سلوكه عدواني إزاء أي طرف مما يسقط عمليا أي ادعاء لـ (نو شيروان) وحزبه بدوافع استهدافهم له.

من ناحية أخرى بدت إشارة (نوشيروان) إلى علاقة إيران بجبهة جود، وضمنا بالحزب الشيوعي العراقي، في منتهى البؤس والوقاحة। فهو يعرف قبل غيره من ان الحزب الشيوعي العراقي لا تربطه أي علاقة بإيران، ولم ينفذ أية أجندة خارجية لا لإيران ولا لغيرها. بل على العكس فالحزب كان يعاني من مشاكل جدية بهذا الشأن لأهمية إيران كممر بين الخارج وكردستان، وكان تواجده وحركته هناك سرية ومحفوفة بالمخاطر. ويبدو أن محاولة الإيحاء البائسة هذه هي من اجل الإيهام بإضفاء نوع من الدوافع الوطنية لاقتتال الاتحاد الوطني الكردستاني ضد الحزب وضد جبهة (جود)، حيث كانت، كما هو معروف، الحرب العراقية الإيرانية آنذاك في أوج اشتعالها. ومما يجدر التأكيد عليه هنا هو انه لم يكن لخلاف أو صراع الجلاليين مع إيران آنذاك أي علاقة بما قام به الجلاليون من جريمة اعتداء على الحزب الشيوعي العراقي. وهذا ادعاء وتزييف يعرف أي تلميذ ابتدائي انه محض هراء وافتراء. لان الدوافع الحقيقية وراء استهداف الحزب الشيوعي العراقي، وهي الأكثر أهمية والجديرة حقا بالكشف، هي إن الاتحاد الوطني خطط لهذه المعركة ونفذها ضمن حالة تعاون مع نظام صدام حسين آنذاك، وهي تحقيق لأهداف مشتركة بينهما. وهذه المعركة تندرج، شاء (نو شيروان) وأتباعه ذلك أم أبوا، ضمن جرائم نظام صدام حسين، وقد نفذت بأيدي عملاء مباشرين له هم عناصر الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة نو شيروان وجلال الطالباني( الرئيس الحالي للعراق، الديمقراطي جدا والإنساني جدا). أما ادعائه بان العملية ضخمت من قبل ماكنة الشيوعيين الإعلامية فهذا أيضا ادعاء متهافت، لان القيادة الرسمية للحزب الشيوعي العراقي وإعلامها، لم يلحا على ذكر هذه الواقعة في ادبياتهما، ولا في نشاطهما الإعلامي، خصوصا بعد أن تحسنت العلاقات بين هذه القيادة وبين الاتحاد الوطني الكردستاني. لكن القضية – الجريمة انتشرت وعرفت على نطاق واسع لأنها أخذت تتحول إلى واحدة من متبنيات الرأي العام العراقي المثقف، وذلك ليس بسبب من أن الماكنة الإعلامية للحزب الشيوعي العراقي تلح وتضخم الحدث، وإنما لان واقعة بشتاشان حركت مشاعر العراقيين وحفزت وعيهم ونبهتهم إلى أنها كواقعة كانت دليل عملي على ادعاءات مزيفة بالديمقراطية والنزعة الإنسانية لأشخاص، كجلال الطالباني وتابعه نو شيروان، أيديهم في الحقيقة ملطخة بدماء أبناء الشعب العراقي. وكذلك لان هذه الجريمة كانت ذات طابع عنصري كشف الذهنية العنصرية الحاقدة لهؤلاء الأشخاص ولتنظيمهم. فقد وقعت، كما هو معروف، تصفيات جسدية لأسرى المعارك، على الضد من أخلاق الفروسية وأصول الحروب في التعامل مع الأسير، وقد تم قتلهم بدوافع عنصرية وبكراهية مكشوفة لأنهم عرب. وهذا الأمر لا يستطيع لا (نو شيروان) ولااتباعه من الكتبة الاتباع أن ينكره أو يخفيه.

ويبقى هناك أمر آخر مهم وهو سؤال مقدم البرنامج فيما إذا قام (نو شيروان) وحزبه بمراجعة لتلك الفترة ولذلك السلوك( الجريمة). فكانت الإجابة( إن الإنسان حين يهاجم ألا ينبغي عليه أن يدافع عن نفسه). وبهذه الإجابة لم يثبت ( نو شيروان) ما بات معروفا عنه وأثبتته سيرته السياسية طيلة حياته من انه شخص بلا أخلاق، وإنما اثبت انه محدود الذكاء. ففي زمن المراجعات الكبرى للذات الذي تمارسه كل القوى الحية في أي مجتمع، وبدلا من أن يناقش مسالة إمكانية هذه المراجعة أو ضرورتها أجاب بلا حياء إجابته تلك. وبهذا يكون قد أسدل الستار وللأبد على أي فكرة لمراجعة ألذات يمكن أن يمارسها يوما ما هذا التنظيم العنصري، والتي كانت تراود، كحلم بعض السذج والمداهنين من الشيوعيين.

هكذا أصبحت، وفق عقلية ومنطق (نو شيروان) المطالبة بالمراجعة هجوما ينبغي الدفاع عن ألذات إزاءه। وبهذا الجواب أكد (نو شيروان) من جديد منطلقاته الاستبدادية والاقصائية التي ميزت تنظيمه الحزبي، وأكد بدون مواربة أن عقل الانفتاح والديمقراطية ودولة القانون الذي يلهج بها إعلامهم وتوابعهم ماهو إلا محض كذب فج. ووفق هذه المعطيات لم يبق أمام العراقيين المعنيين بهذه القضية، كقضية رأي عام، سوى اعتبارها جريمة جنائية وسياسية لا يحق لغير القضاء القول الحسم فيها.

لكن رغم كل شيء ومهما تتغير المواقف تبقى هذه الجريمة ندبة مشوهة في تاريخ الحركة السياسية العراقية ينبغي على الجميع تذكرها لكي لا يمر القتلة।

مقطع قصير فيه جزء من المقابلة

٢٠٠٨-٠٣-٠٩

أحضان دافئة

إن قدرة المثقف على مراجعة مواقفه واستدراك النقص فيها وتصويب خطئها هي واحدة من أهم علامات نضجه. فالمثقف بحكم تكوينه المعرفي يتحرك في فضاء مفتوح من الاحتمالات والتأويلات المتعددة، وهذا يعينه على تغيير زاوية رؤيته وتوسيعها بحسب تطور الموقف وتغير الظروف. وأكيد أن أهم شروط مراجعة الموقف ومراجعة ألذات تتمثل في القدرة على الانفتاح الفكري، والابتعاد عن الأطر الضيقة كالحزبية والطائفية وغيرها من صناديق الأيدلوجية التي تحجر الوعي في ظلماتها. ولكن فضاء الوعي على سعته ليس بدون تخوم تحدد ملامحه، وهذه التخوم هي بالضبط مرجعية المثقف الاجتماعية والفكرية. ومرجعية المثقف العقلاني والديمقراطي هي بالضرورة الإنسان كينونة ومصيرا. وحين يكون الإنسان مرجعية المثقف الأولى ينفتح عندها افقه وتتسع رؤيته بقدر اتساع عالم الإنسان الغني والعميق وبقدر انفتاح افقه.

واقعيا يبدو تحقق هذا القدر من الوعي واتساع الرؤية أمر صعب، فجمهور كبير من المثقفين هم أسرى بنى أيدلوجية، وهذه البنى تفرض عليهم محدداتها من نظرات جامدة للواقع أو تفسيرات وهمية لمساراته ليس أسوؤها نمط المفاهيم التي تفلق الواقع وصورته إلى متقابلات تنعدم في ظلها الخيارات وتغلف العقل فيها معادلة فقيرة تنحصر في ثنائيات شائعة من مثل خير وشر، ابيض واسود وما يشتملان عليه من تلاوين متعددة، فتضيق الخناق عندها على الوعي لترغمه على الانتماء والانحياز لأحد القطبين المتجاذبين.

يمكن رد أشكال الوعي هذه إلى كسل عقلي ينتج رؤية فقيرة للواقع تميل إلى السهل من المواقف والخيارات، وتحكمها نزعة عاطفية وعصبية قبلية جاهلية تدفعها لمحاباة خصم من تكره أو العكس। فخصومة نظام صدام حسين مع أمريكا، قبل سقوط النظام، على سبيل المثال، لم تكن لتلزم المثقف بالانحياز إلى جانب احد الطرفين أو الوقوف معه. كما وقع من إرباكات في المواقف حينها. لان تصارع قطبين لا يعني إن الحق ( أو الخير) عند احدهما. فكلا الطرفين المتصارعين( أمريكا ونظام البعث في مثالنا) هما خصمان وعدوان للشعب العراقي ولحقوق مواطنيه وبالتالي يكون من المنطقي الوقوف ضد الطرفين معا. أي الجمع بين مخاصمة الطرفين. وكذلك هو الحال في ظروف العراق الحالية، فطالما أن لإيران مطامع وتدخلات مؤذية في الشأن العراقي، لا يعني ذلك أن العداء أو الرفض لهذا التدخل يستلزم إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين ولنظامه.كما فعل البعض، فرفض العملية السياسية والمشتغلين بها لأنهم سيؤون وغير أكفاء أو عملاء ولصوص، وقل بهم ما شئت، لا ينبغي أن يفضي إلى إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين أو لنظامه أو لحزبه الفاشي. لان التاريخ قال كلمته الأخيرة، مرة واحدة والى الأبد؛ في شخص صدام حسين ونظامه وحزبه. وعليه مهما يختلف المرء مع البدائل التي جاءت على أنقاض نظام صدام حسين لا ينبغي أن يسمح لنفسه بموقف يعيد فيه الاعتبار لهذا النظام. كما أن صدام حسين، بصفته الشخصية وبصفته ممثل النظام ورمزه، لم يغير من مواقفه ولم يبد أي شعور بالندم أو التراجع عن ما قام به، بل على العكس كان يفاخر بصلافة بما ارتكبه من جرائم ويبرر أفعاله وكأنها تحصيل حاصل وأمر بديهي. وكذلك لم يفعل البعثيون شيء يعبر عن ندم أو تراجع لكي يفكر من فكر بالتراجع عن حكمه عليهم بسبب صراعه مع النظام الجديد ونقمته عليه. ولان العراق، الوطن والإنسان، اكبر من كل هذه الأقطاب التي تتصارع لمصادرة حقوق إنسانه وسلبه إرادته، عليه فان موقف المثقف الحقيقي هو في الانحياز الدائم لهذا الإنسان ولهمومه، ولا ينبغي - حسب هذه الرؤية ـ لأي مثقف أن (يشطر) مواقفه بطريقة كاريكاتورية ويتقلب في المواقف من أول خيبة أمل في واقع كان من المفترض به، لكونه مثقف يمتلك أدوات معرفة، أن يستشرفه ويفهم خفاياه. كذلك ينبغي التذكير هنا بان هوية صدام حسين العراقية لن تبرئه من أي جرم ارتكبه، كما ان عراقية صدام حسين لم تكن مثار نزاع بين العراقيين أو سببا لحكمهم وتقييمهم عليه وعلى نظامه، لهذا لن يضير العراقي أي شتيمة تطلق على صدام حسين لان عراقيته، بتقديري، ليس فقط لا تشرف العراقيين بل وتخجلهم أيضا. لكن يبدو أن عقلية الموقف الذي تخلقه الخصومة وليس المبادئ والتحليل العلمي تستريح كثيرا لأحكامها العاطفية المنفلتة من عقال المنطق، ولا تجد لمواقفها منطلق ابعد من غضبة المزاج المنفعل، ولا تستريح او تشعر بأمان إلا في ظل حائط حزبي تستفيء به وكأنها بهذا كطفل تائه يبحث عن حضن دافئ يهدئه. لذا لا يستغربن احد أو يبتئس إذا ما عثر بين فينة وأخرى، ولدى هذا التيار أو ذاك، على شخص يمارس نوع من الارتداد العقلي والعاطفي يدفع البعثيين، المنقبين في قمامات المواقف الرديئة، على الابتهاج به والفرح بعودته لأحضانهم (الدافئة).