٢٠٠٨-١١-١٩

دكتاتورية مبطنة بحرير الديمقراطية





في اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة الحرة الفضائية مع السيد مسعود البارزاني ليلة 16-11 وردت إشارة صريحة وواضحة من رئيس إقليم كردستان يتهم فيها السيد رئيس الوزراء نوري المالكي بالدكتاتورية والانفراد باتخاذ القرارات. وهذه الإشارة هي تتويج لحملة كبيرة كان قد ابتدأها التحالف الكردستاني والساسة والكتاب الكرد ومن تبعهم من الكتاب العرب، كرست لاتهام المالكي بالدكتاتورية والتنكر لمبادئ الدستور الذي كان هو شخصيا احد أفراد اللجنة التي حددت مبادئه. وكان جل النقد أو جوهره ومعظم التهجم الذي وجه لرئيس الوزراء ينصب على أفكاره التي طرحها حول ضرورة إجراء تعديل في الدستور يصحح العلاقة أو يعيد ترتيبها بين حكومة المركز وحكومة الإقليم. ورغم إن هذا السعي من الحكومة المركزية جاء لتعزيز دور الدولة في مقابل انفلات الإقليم الكردي إلا أن السيد البارزاني قد علل هذا التحول في موقف المالكي إلى رغبة لديه لإرضاء أطراف معينة( لم يسمها) وفي نفس الوقت ليثبت عدالته في توجيه ضربات أمنية للكرد بعدما وجهها إلى الشيعة والسنة في مناطق مختلفة من العراق.

قبل هذه الحملة كان بعض المراقبين قد شخصوا ميلا ملفتا لرئيس الوزراء للظهور المكثف في وسائل الإعلام الرسمية التي أخذت تغطي فعالياته بتفاصيل مملة( لا تنسوا أن مدير شبكة الإعلام هو من حزبه). وقد اخذ يميل بعموم سلوكه ونشاطه أكثر فأكثر للظهور بمظهر الشخص الأول في الدولة، وبالتأكيد إن ذلك لايمكن أن يمر بسهولة في ظروف العراق الحالية، فهناك قوى سياسية أخرى تريد أن يكون لها ولـ (زعمائها) دورا في حصة الظهور الإعلامي وفي الدور السياسي. ويبدو ان هذه الاتهامات لم تأت من فراغ فهناك ما يدعمها من الوقائع. والسؤال هو: إذا كان الوضع السياسي في العراق قائم على التوافق بين القوى السياسية، كما أكد مسعود البارزاني في نفس اللقاء، وان هناك (ميول) لدى الجميع لبناء (دولة المؤسسات) كما تدعي كل القوى السياسية، فمن أين جاءت ميول المالكي للعب دور الدكتاتور ومن أين يستمد قوته ومحرضاته إذا كان حزبه وكتلة التحالف المنضوي تحتها هي مع مسار العملية السياسية التوافقي والمحاصصي؟

نعرف جميعا أن حكومة السيد المالكي هي أول حكومة تشكلت بصلاحية انتخابية (أربع سنوات) بعد عدة حكومات مؤقتة كانت قد أدارت البلاد من قبلها (مجلس الحكم، حكومة علاوي، وحكومة الجعفري). وواجهت هذه الحكومة منذ البداية مجموعة كبيرة من المهام ومن التحديات ضاعف ثقلها وصعوبتها أن الحكومة كانت تسير على ارض غير ممهدة. والجميع يتذكر أيضا إن البلد كان حينها منتهكا بقوة من قبل الإرهابيين، وان الانقسام السياسي بنزوعه الطائفي كان على أشده، وقد انسحب هذا الانقسام بدرجات معينة على المجتمع وتركيبته واثر على التركيبة الديموغرافية للمدن المختلطة مذهبيا فنشأت جراء ذلك مشاكل داخلية فريدة من نوعها. لكن مهما تعددت توصيفات ألازمة يبقى التوصيف الأخير لها هو إنها أزمة أمنية بامتياز. فقد كان الوضع الأمني أو التأثير فيه هو عامل تحكم في الواقع السياسي بدرجات كبيرة.

ولم يتوقع احد آنذاك النجاح لحكومة المالكي وسط هذا الكم الهائل من التحديات والمصاعب وحدة الصراعات التي كانت تدور وتدار في ظل وجود احتلال كان له التأثير الحاسم في توجيه الدفة السياسية والأمنية في البلد.
ولم يكن أمام المالكي لكي ينجح في مهمته سوى أن يلعب على مجموعة من التوازنات التي افرزها هذا الواقع ويديرها أينما وكيفما استطاع. ولان الوضع الأمني هو المفتاح في المعادلة العراقية فقد تركزت جهوده على إدارة هذا الملف فكانت مهمة الحكومة الرئيسية هي استعادة الامن. وهنا بتقديري وقع المالكي في مطب ما يوصف به الآن بالدكتاتورية أو، بتعبير ملطف، الانفراد بالقرار السياسي. فهو لكي يدير العملية الأمنية كان عليه أن يوفر، عدا الغطاء السياسي بالتوافقات السياسية، قوة مادية على الأرض قادرة على إدارة هذا الملف، ولم تكن هذه القوة سوى الجيش.

فبينما كانت وزارة الداخلية غارقة بالفساد وانعدام الكفاءة وتتحكم بها الميليشيات وتتناهبها الفوضى والولاءات الطائفية والحزبية والفئوية، الامر الذي يجعلها مؤسسة غير مؤهلة لادارة العملية الامنية، كان الجيش بتركيبته اقل تأثرا بهذه المفاسد مع انه يوجد في داخله ضباط أميون وكوادر غير مؤهلة. والجيش العراقي عرف عنه عبر تاريخه تسيسه وتدخله في السياسة. ومن هذه الارضية، ولدوره المتنامي في العملية الأمنية، ولما لها من تأثيرات وانعكاسات على العملية السياسية، وبعدما حقق نجاحات ملموسة ميدانيا، فقد كان مرجحا أن تولد لديه طموحاته الخاصة للتأثير في الواقع السياسي. والجيش غالبا ما يتحرك للتاثير في القرار السياسي في ظل الإدارات المدنية للدول بالخفاء وعبر مراكز قوة معينة.
وما أوجد هذا الدور الجديد والمفترض للجيش هو إن المالكي قد وجد نفسه حينما شكل حكومته أمام خيارين. فهو إما أن يمارس إدارة الحكومة بالتوافق الرجراج مع القوى السياسية المتصارعة على المصالح وتتنازعها الأهواء الحزبية والفئوية، ويجعل الدولة تتخبط في توجهاتها وممارساتها. وإما أن يختار دور رجل الدولة الذي يمكنه ان ينجز المهمة التي تفرضها عليه الظروف والمتمثلة بشكل أساس في إعادة بناء الدولة المهشمة والمفككة. ويبدو انه، وبمزيج من الاضطرار والاختيار، كان قد اختار، كما أثبتت بعض الوقائع اللاحقة، خيار رجل الدولة. وهنا أصبح وجها لوجه أمام مهمة عسيرة هي إعادة تأهيل مؤسسات الدولة وإعادة الهيبة لها، وهذا ادخله، وسيدخله بالضرورة، في صدامات مع قوى تتعارض مصالحها مع هذا الهدف. وحين توغل في هذا الدور وجد نفسه أمام خيار الالتزام بتبعاته ونمو اتجاهاته ولهذا فقد دخل في صدام مع قوى متحالفة معه، كالتيار الصدري، كانت قد رجحت كفته في أزمة انتخابه لمنصبه داخل الائتلاف الحاكم. وهاهو الآن يدخل، أو هو في طريقه لان يدخل في صدام مع حلفاء (تاريخيين) له هم القوى الكردية. ويبدو إن ما دفعه الى الاصرار على هذا الخيار هو اعتماده وانبهاره بمصدر قوته الجديد، خارج إطار حزبه، وهو الجيش. وهذا الانبهار والحاجة هما عامل مشترك بين الطرفين. فالجيش،مع تنامي دوره في العملية الأمنية بعد النجاحات الملموسة التي حققها على الأرض، ولنزعته الحرفية ولتسيسه التاريخي، تنامت مطامحه وصار بحاجة لسياسي يتجاوز ضيق أفق الطوائف ويتخطى صراعات الأحزاب السياسية، العدو التقليدي للجيش، ليمهد له الطريق لتحقيق مطامح تقليدية بسيطرة سياسية صارت واقعا مفروضا أفرزته مجموعة التطورات والتغيرات في الحياة السياسية. وقد وجد في المالكي، الطامح لدور رجل الدولة ومتقمصه، ضالته. والطرفان كانا يدركان حاجتهما لبعضهما البعض لتكامل دوريهما، وقد تواطأا ليخلقا تناغمهما الخاص، واتخذا من بعضهما البعض أدوات لتأدية اغراضهما المنسجمة.

وهكذا ستعاد الدورة التي لامناص منها؛ فالمطلب الرئيسي للمواطن العراقي الآن هو الأمن، ولكي يتحقق هذا الأمن ينبغي القبول بأدوات بسط هذا الأمن، بمعنى القبول بهيمنة الجيش، لكن بطريقة أخرى، كما ينتهج السيد المالكي الآن، وهي تسيد إرادة سياسية متفلتة من القانون، أو دكتاتورية مبطنة بحرير الديمقراطية.


17-11-2008


٢٠٠٨-٠٥-٠١

بشتاشان بين نارين





أحداث بشتاشان بجميع تبعاتها، وبرغم ما حملته لمن عاشها أو عرف تفاصيلها أو كانت له صحبة بمن استشهد فيها من الم وحسرة، تبقى قضية غير شخصية. والحديث عنها والتذكير بها في كل مناسبة ليس أمرا ناتجا عن رد فعل عاطفي، أو نتاج لعقلية ثأرية تريد تصفية حساب مع من ارتكبها أو من تواطأ على إغفالها ومحاولة محوها من ذاكرة التاريخ، بل لان العمل بها ومن اجلها يندرج، من حيث الجوهر، في صلب الجهد السياسي والثقافي للمشروع الوطني الديمقراطي البديل لكل أوضاع السوء التي عاشها ويعيشها وطننا العراق، من دكتاتورية واستبداد وتضليل وطائفية وتردي سلفي لقيم التحضر الاجتماعي. بمعنى ان وضع قضية بشتاشان، كواقعة وكمعنى،في سياق فكري وسياسي هو واحد من المفردات الأساسية في إعادة هيكلة بنية الديمقراطية المفترضة في المشروع الوطني الغائب. من هنا تنبثق أهميتها ومن هنا ينبغي إنصافها وتخليصها من براثن من يريد ان يمتهنها بالمتاجرة أو بالصمت.

منذ ان تسرب اسم واقعة بشتاشان من كهوف النسيان وعرفت تفاصيلها وقعت في اغلب مراحل التعريف بها في مأزق لتطرفين شكلا، رغم أنهما من خلفيتين متباينتين، وجهين لمضمون واحد في التعامل معها، هما التهريج والصمت. التطرف الأول، ويضم مجموعة من مهرجي السياسة المشبوهين بارتباطاتهم ومناصرتهم للإرهاب وللبعث الفاشي، سعوا لتوظيف بعدها الأخلاقي والسياسي الكبير من اجل تصفية حسابات مع من ارتبط اسمه وتاريخه باسمها، أو تلوثت يده بدماء شهدائها وموجود في موقع المسؤولية في الدولة والعملية السياسية الجارية في العراق الآن كـ <جلال الطالباني> و <فؤاد معصوم> وغيرهم، وذلك لحسابات سياسية لا يجد أصحاب القضية الحقيقيون< وهم من عاش آلامها واجترع معاناة همجية مرتكبيها وكذلك أصحاب النظرة العقلانية في المجتمع العراقي ممن يعنيهم رسوخ القيم الإنسانية المتحضرة في المجتمع> أقول لا يجد أصحاب القضية الحقيقيون أي مشترك مع هؤلاء لا في المنطلق ولا في النظرة ولا الأهداف. والتطرف الثاني، وهم قيادة الحزب الشيوعي العراقي وأتباعها من المثقفين والكتاب، الذين مارسوا صمتا مريبا وتواطأ مخزيا مع مرتكبيها بسبب من ارتباطات سياسية ضيقة ومحاباة تشي بامتزاج الشخصي بالحزبي بشكل ملفت ومخجل. بالرغم من انه قد تم وبأكثر من مناسبة طرح تساؤلات حول هذه الواقعة وموقف الحزب أو قيادته منها من قبل جمهور حزبي على بعض قياديي الحزب. وقد كانت الإجابات في المناسبات المختلفة إجابات تطمينية أرادت، بتقديري، امتصاص بعض الغضب المشروع الذي ينطوي عليه التساؤل الساعي للتذكير بالواقعة. ويمكن هنا على سبيل المثال ذكر لقاء للأستاذ <رائد فهمي> عضو اللجنة المركزية في ندوة على البال تالك < قبل سنتين على ما أظن> ذكر فيه ان قضية بشتاشان حية في ضمير الحزب وحاضرة في ذهن قيادته لكنها< القيادة> ترى ان الأوان لم يأن بعد لمعالجتها. دون ان يوضح بالطبع ما هي استحقاقات هذه القضية، وما هي الإجراءات التي يفترض ان الحزب يريد اتخاذها لمعالجتها، وما هي الظروف التي تجعل أوان طرحها ومعالجتها لم يحن بعد. علما ان المطلب الأساسي في هذا الشأن هو، كخطوة أولية، ان يتم ذكر هذه الواقعة في ذكراها السنوية في منابر الحزب الإعلامية العلنية وإصدار بيان من قيادة الحزب في المناسبة لا اكثر.

ينطوي كلام الأستاذ <رائد فهمي> كما هو كلام بعض القياديين الآخرين، على اعتراف صريح بأهمية وحساسية هذا الواقعة. أهميتها لكونها شكلت بكل معانيها جريمة ارتكبت ضد الحزب وقصدت إيذائه وكان ذلك ضمن ملابسات سياسية تدخل في صميم صراع الحزب مع النظام ألبعثي، فهي لم تكن نتيجة مباشرة للصراع الحزبي بين قوى المعارضة للنظام ألبعثي والمتواجدة في كردستان آنذاك كما يراد لها ان تختزل وحسب، وإنما كانت، بالإضافة إلى طابع الانتقام الممزوج بالنفس العنصري الذي شكل عمادها< قتل الأسرى من الأنصار العرب على الهوية>، ضمن اتفاق تكتيكي عقده الجلاليون مع النظام ألبعثي بدوافع انتهازية، وهذا يدخلها عمليا وتاريخيا ضمن جرائم هذا النظام وان ارتكبت بأدوات غير أدواته القمعية التقليدية. وحساسة لأنها كواقعة تشترط تعامل مباشر معها لأنها جزء مؤلم من مسيرة الحزب الشيوعي السياسية، ولا يمكن إغفالها أو إغفال نتائجها بتغييب ذكرها بانتظار الفرصة السانحة، التي يبدو إنها لن تأتي أبدا لان العقلية التي تقود بها قيادة الحزب العمل الحزبي دأبت، ولاعتبارات تحالفية مزمنة، على مراعاة حلفائها بعدم تذكيرهم بأخطائهم ناهيك عن جرائمهم بحق الحزب، وان كان ذلك يتم على حساب مبادئ العمل الحزبي أو توجهات القاعدة الحزبية. وهذا هو عين ما حدث أثناء التحالف مع حزب البعث في أيام الجبهة الوطنية في السبعينات حينما غيبت جرائم شباط 1963 التي ارتكبها البعثيون في انقلابهم الأسود، عن أدبيات الحزب رغم ما كانت تحمله من ذكريات قاسية في تاريخ الحزب وفي وجدان مناضليه.

وفي الوقت الذي تمارس فيه قيادة الحزب الشيوعي العراقي صمتا رسميا بلغ حد الامتناع حتى عن ذكر الحادثة أو التذكير بها في ذكراها السنوية، رغم أنها شكلت منعطفا مهما في تاريخ الحركة الأنصارية، وغيبت بالاستشهاد كادر حزبي وعلمي كان من مسؤولية الحزب، الأخلاقية على اقل تقدير، تذكرهم والحديث عنهم وإدانة جريمة استهدافهم ـ أقول قد رافق هذا الصمت الرسمي صمت آخر يثير ريبة اكثر لأنه صادر عن مثقفين شيوعيين، كتاب وغيرهم، قد تجنبوا الحديث عن هذه الواقعة وما رافقها من ظروف سياسية عامة وداخلية تخص الحزب نفسه، صمت هؤلاء بالرغم من انه تقع عليهم مسؤولية مزدوجة للحديث عن الواقعة والنظر إليها، أولا لأنهم شيوعيون ولبعضهم رفاق استشهدوا في هذه المعركة، وثانيا لانهم مثقفون يملي عليهم واقعهم، كنخبة اجتماعية مسؤولة عن إظهار الحقائق أمام الراي العام العراقي وأمام الجمهور الحزبي في نفس الوقت، أن يتحدثوا عن هذه الجريمة باعتبارها مفصل مهم في مسار الحياة السياسية العراقية. وهؤلاء بصمتهم قد دخلوا للأسف في خندق المتواطئين بطريقة مركبة كشيوعيين وكمثقفين. وخير دليل على ما أقول هو الصمت الشامل إزاء الأكاذيب التي عرضها < نو شيروان مصطفى> المتهم الرئيسي في الجريمة،في حديثه عن الواقعة على قناة البغدادية الفضائية في يوم 16-3-2008 * وخلط فيها الأوراق وشوه الحقائق وتجاوز على الواقع بطريقة مريعة وسفه من قيمة الحدث مختزلا المأساة إلى أرقام عابرة < بالعشرات > حسب تعبيره. لكن رغم كل هذا التجني والغطرسة لم نشهد أي رد فعل أو مناقشة لهذا الادعاء والتزييف لا من السياسيين ولا من المثقفين الشيوعيين.

مرة أخرى ينبغي التذكير على ان قضية بشتاشان هي ليست قضية فردية تخص هذا الفرد أو هذه المجموعة أو ذلك الحزب، وإنما هي قضية رأي عام عراقي، وهي قضية سياسية وثقافية واجتماعية ذات بعد أخلاقي، ترتبط معالجتها والنظر فيها واليها ارتباطا وثيقا بقضية بناء المشروع الوطني العراقي القائم على أسس الديمقراطية والتحضر. ولا يحق لأحد ان يقلل من أهمية هذه القضية ويصادرها بذريعة نبذ الخلافات والنظر إلى المستقبل والمراهنة عليه وترك الماضي بكل مخلفاته السلبية وراءنا، لان بناء المستقبل لن يتحقق بغير التوقف عند الماضي ومراجعته ليتم تجاوزه بصدق وليس بزيف الشعارات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ



· مقطع قصير لحديث <نوشيروان مصطفى>


http://youtube.com/watch?v=b2wEuSTMJbo




٢٠٠٨-٠٤-٢٣

كتّاب وكتابة الانترنيت






بات الحاسب والانترنيت للمجتمعات التي تستخدمهما حاجة يومية حيوية لعبت وما تزال دورا واضحا في تغيير الكثير من العادات والمفاهيم في طرق التعاطي مع المعلومة واشكال بناء المعرفة واساليب تشكيل الراي. وفي واقعنا العربي، رغم فقره المدقع في مجال إنتاج واستهلاك المعلومة الالكترونية1، جرى التاثر أيضا في هذه التحولات، على الأقل في نطاق دائرة المتعاملين مع هذه التكنلوجيا.

ووجود الانترنيت قد افرز في واقعنا ظواهر ثقافية عديدة من أهمها ظاهرة كتاب الانترنيت والكتابة الانترنيتية التي لوحظ حضورها الكثيف بالتغطية العامة والشاملة للشأن السياسي والثقافي والاجتماعي، عبر منظورات ورؤى تخطت بقوة الأطر التقليدية التي كرستها هيمنة السلطة السياسية ومركزية الثقافة الورقية. وقد عبر راي بعض المثقفين وجمهور القراء من ذوي النظرة التقليدية الرافض لهذا الوافد الجديد، بالإضافة إلى إجراءات المنع والرقابة التي نجحت السلطات الشمولية القمعية المذعورة في البلدان العربية بتحقيقها، عن رد فعل حاول التقليل من قيمة الانترنيت ومن جدواه. وذلك لان الانترنيت تحمل بجوهرها، وبسبب من أرضيتها التقنية المتفلتة من كل عقاب ورقابة، نفسا ديمقراطيا تعدديا.

لكن ما هي هذه الكتابة الانترنيتية وما هي خصائصها. ومن هم كتاب الانترنيت وهل لهم علامة تميزهم؟
قبل الخوض في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي ان نقرر ان الانترنيت هي وسيلة أو أداة مفتوحة وحرة يمكن ان يوظفها أي شخص أو أي جهة لتقديم خطابه وعرض أرائه. وهي أداة لخوض صراع اجتماعي وثقافي وسياسي وحضاري لا تحده حدود ولا تقيده قيود. وكذلك هي تستمد وظائفها المتعددة، كما هو حال أي أداة تكنولوجية أخرى، وفق عقلية وأهداف مستخدميها.

وكون الانترنيت أداة فهذا يجعلها وسط ناقل للمعارف والأفكار، وفضلها الكبير هو أنها توفر وسائط متعددة لتقديم الرسالة. وهذا التعدد لم يمنع، ان لم يكن قد فرض أشكالا محددة لتقديم هذه الرسالة وبالذات في ميدان معالجة الأحداث اليومية من سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها وبالجدل الذي يدور حولها وعنها.

ومن هذه الخلفية يمكن إقرار ان ابرز ميزة أنتجتها الانترنيت هي تسارع الإيقاع في التعامل مع الوقائع. وغني عن القول ان هذا التسارع قد نتج عمليا عن تطور تكنولوجيا الوسائط حيث صار وصول الخبر إلى المتلقي يتم في لحظة حدوثه مما يتطلب من الكاتب التعامل معه بالتحليل والتنبؤ بمسار الأحداث وتحولاتها بسرعة تناسب سرعة تطورها وتحركها. فلم يعد الحدث في زمن تطور تكنولوجيا الوسائط يحتمل قراءة طويلة ومعقدة تنتظر اكتمال عناصره لتغطيه، لان الأحداث في هذه الحالة ستسبق هذا التحليل وتتجاوزه وتصير استنتاجاته قديمة وغير ذات جدوى.

بمعنى ان الواقع صار يتطلب معالجة مكثفة تعتمد زاوية محددة من النظر للموضوع وليس نظرات كلية ذات طابع تركيبي وشامل. فتشكيل الفكرة أو النظرة الشاملة صار كالبناء الموزائيكي، تدريجي وتكاملي. ولم يعد القارئ يطيق في ظل الكثافة الإعلامية وتعدد الطروحات ووفرة المصادر الهائلة تبديد الوقت في قراءة تتناول الموضوع من الصفر. لان وفرة المعلومة وكثافتها صارت تفرض قارئا جديدا يكون ملما بالكثير من المعطيات الأولية للخبر وللمادة المكتوبة، هذا بالإضافة إلى ما تقدمه له امكانات الانترنيت عبر الروابط التشعبية من تعويض في نقص المعلومة عبر الإحالات إلى مصدر الخبر لمن يريد الإطلاع عليه، وهذا أصبح ممكنا ليس بالنص الكتابي فقط وإنما بالصورة وبالصوت.


في هذا الواقع نشا نمط كتابة يمكن تسميته بنمط الكتابة اليومية. وهو النمط الذي أنتجته الانترنيت وبات واحدا من علاماتها. ومن سمات هذه الكتابة هو معالجتها الجزئية للواقعة ونظرتها المختصرة غالبا للجدل الأيدلوجي أو السياسي، فهي لا تحتمل الدراسة النظرية المعمقة ولا الإحالات النظرية لأنها ليست دراسة تحليلية بقدر ما هي تعليق سريع وبسيط يتضمن فكرة أو زاوية نظر لا يتسع لها غالبا مقام أنماط الكتابة الذي أوجدته الثقافة الورقية. وبمناسبة ذكر الصحف والثقافة الورقية فيمكن لفت الانتباه هنا إلى ان هذه الثقافة قد تأثرت هي الأخرى بمعطيات تطور تكنولوجيا الوسائط وبالذات الانترنيت حيث انتقلت إليها عدوى الأسلوب الانترنيتي بعدما أخذت هي ذاتها تتصل بقرائها عبر الانترنيت وصارت مقالاتها قصيرة وسريعة لتواكب الحدث وتطوراته وسرعة انتشاره.

والكتابة الانترنيتية ليست سهلة كما يوحي وضعها للوهلة الأولى، لاسيما لمن يتعامل معها بجدية ويمنحها دورا يليق بها. فهي كتابة تتوسل الأسلوب البسيط، والبساطة هنا لا تساوي السهولة، بل على العكس، فنمط الكتابة الانترنيتية يبدو اكثر صعوبة لانه يقيد الكاتب بعدد محدد من الكلمات وبزمن قصير وذلك، بسبب تواتر الأحداث أولا، وبسبب طابع المنافسة العفوي الذي تجسده كثرة التناولات وتعدد المعالجات للحدث الواحد ثانيا، الأمر الذي فرض على الكاتب ضوابط الزم نفسه بها من اجل ان يقول وفي الوقت المناسب شيئا جديدا ومميزا خاصا به ويميزه عن الآخرين، والا غدت كتابته تنويعا كميا على موضوع واحد. هذا بالإضافة إلى ان الكتابة الانترنيتية أخذت تعالج، بحكم تكوينها، مسائل تبدو بسيطة ولم يتسع لها صدر الثقافة الورقية، وهي قضايا الحياة اليومية بتفاصيلها العابرة التي قد لا يحتمل التعبير عنها بمقالات رصينة تختص بها عادة الصحافة الورقية. لهذا اخذت الانترنيت على عاتقها هذه المعالجات الصغيرة والتفصيلية، كطريقة جلوس أو حديث احد الساسة مثلا، التي لا تتطلب ربطا محكما لخلفيات معقدة تفتقدها عادة الجزيئة الحياتية البسيطة، لكنها تتسم في نفس الوقت بالاهمية لدورها في تشكيل الوعي النقدي للمجتمع.

كما ان الكتابة الانترنيتية ونشوء ظاهرة كتاب الانترنيت هما تعبير عن تحول ديمقراطي في آلية التعبير عن الأفكار والآراء وزوايا النظر. فلم يعد التعبير عن الأفكار محصورا بيد الاقنية الإعلامية والثقافية التي تحتكر المادة وصاحبها. وباتساع عالم الانترنيت اتسع عالم التعبير واخذ أشكالا تعبيرية جديدة ذكرت بعض ملامحها قبل قليل. ولم تعد هناك مركزية لسلطة النشر ولم تعد هناك قدرة على حجب الآراء مثلما هو الواقع في زمن الثقافة والمنابر الورقية. فأي شخص لديه رغبة في قول رأي ولديه قدرة كتابية بمستوى فني مقبول يستطيع اليوم، بفضل الانترنيت، ان يبدي رأيه ويقدم استنتاجاته للرأي العام. كما لم تعد منابر النشر المنتشرة بوفرة على الشبكة تشترط اشتراطات أكاديمية صعبة لنشر المواد. ولم يعد ممكنا الآن حجب رأي أو منعه من الظهور حيث غدا، بفضل تطور التكنلوجيا، باستطاعة أي شخص ان ينشئ منبره الخاص والذي صارت المدونات الشخصية الأداة الأبرز فيه. هذا طبعا بالإضافة إلى أساليب أخرى، قد لا يحبذها البعض ولكنها عملية ومشروعة، وهي استخدام البريد الالكتروني لتوزيع المادة على القراء.

صحيح ان ديمقراطية الانترنيت قد فسحت المجال لظهور الكثير من الغث والركيك ولمن لايمكن ان يعتبر كتابة حتى في اكثر المقاييس تسامحا، ولكن هذا بالنتيجة يمكن أن يدرج في خانة المنافسة وغربلة النوع. وأصحاب هذه الكتابات الركيكة سوف لن يستطيعوا، بتقديري،
(إلا من كان منهم مصابا بلوثة نفسية) ان يستمروا في وهمهم بعدما يكتشفون هم بأنفسهم محدودية أو انعدام قدراتهم، وسوف ينسحبون عاجلا أم آجلا من هذا العالم. لان الكتابة في النهاية، وبكل أشكالها، هي هاجس ووعي وموقف وتتطلب دربة وجلد على احتمال عناءاتها. فهي عمل شاق لا يستطيع احتماله الطارئون ولن يصمد في عالمها إلا من كانت تشكل له سببا وجوديا.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو ان هناك بعض الكتاب القادمين من مركزيات الثقافة الورقية ومن مركزيات أخرى< لجان مركزية لأحزاب مثلا> لا يزالون يعيشون وهم انتظار القراء لهم وتفرغهم لقراءة ما يكتبونه فيطيلون بمقالاتهم غير مدركين ان وقت القارئ ومزاجه لا يتسعان لهذه الاطالات، لان متابعة الأحداث والتطورات تتطلب من القراء قراءة عشرات المواد التي يرغبون بالإطلاع عليها، أقول ان هؤلاء لم يدركوا بعد هذا التحول في الواقع وفي المزاج فلم يتوانوا عن تسطير <جنجلوتيات> عتيقة مكررة وبعناوين فقيرة تكشف مضمون المقال< كالأفلام الهندية الهابطة> وتغني القارئ غالبا عن قراءتها. صحيح ان الانترنيت لا تقتصر على النمط السريع والمقتصد في الكتابة، لأنها ساحة كبيرة أو مكتبة بلا رفوف كما يطلق عليها، وفيها كل معلومة والكثير من المصادر، وتحتمل في بعض مواضيعها الكتابة التفصيلية والمطولة، لكن غالبا، وبالتحديد في الكتابة السياسية، التي تأتي تعليقا وتحليلا للوقائع اليومية، ينبغي بالضرورة، بتقديري، ان تكون كتابة مختصرة ومباشرة وواضحة، وان تبتعد قدر المستطاع عن الإطالة والمط والتكرار.

إذا نحن أمام مواصفات أسلوبية صنعها واقع الانترنيت الجديد. ومثلما وجود الانترنيت خلق كتابة جديدة وكتاب مختلفون عن الصيغ التقليدية فان تطورات التكنلوجيا ومستويات التفاعل الجديد التي تتيحها قدمت لنا، ( وستقدم لنا بالتأكيد في المستقبل أنواعا أخرى جديدة مرتبطة ارتباطا عضويا بجوهرها الديمقراطي) أسلوبا أدبيا جديدا اسمه أدب التعليق على المادة المكتوبة. وهو أدب سوف تكون له قواعده وضوابطه وجمالياته. ويمكن ملاحظة ان هناك معلقون جيدون على المقالات والمواد المنشورة في بعض المواقع التي تقدم هذه الخدمة.

والتعليق يكاد يصير ظاهرة في طريقها للتأصل في ثقافة الانترنيت. فطالما ان الآلة تتطور وتغني الإنسان فان الإنسان سوف يتطور ويغني عالمه ويسهم في بناء وعيه بيده.


أما عن كتاب الانترنيت فيمكن القول أنهم، كظاهرة إبداعية جديدة ذات سمات مميزة، سيكونون أداة التمرد الأكبر في مواجهة القمع بكل أنواعه وتفاصيله، وهم سيكونون أداة تحطيم الأصنام وهدم البالي من القيم المتخلفة في واقعنا. أي انهم سيكونون صرخة التمرد الكبيرة التي تتشكل، كما هي كتاباتهم، من صيحاتهم القصيرة والمتكررة لتغيير الواقع.


ــــــــــــــ

هامش

1- في تونس يوجد 120،000 مشترك فقط في شبكة الانترنيت، وتبلغ نسبة مشاركة العرب في إنتاج المادة الالكترونية يصل إلى 2% فقط من المنتوج العالمي الذي بلغ إلى صيف عام 2007 ستة مليارات صفحة.





٢٠٠٨-٠٤-١٢

الرسائل من كردستان الى الانترنيت



كانت مبادرة طيبة تلك التي أثارها الزميل "صائب خليل" في احد مقالاته حينما ناقش بأسلوبه التلقائي المحبب ضعف تفاعل القراء مع كتاب الانترنيت، حيث ضمن مقاله عتابا رقيقا للقراء على غياب التجاوب مع الكتاب رغم كل ما تتيحه لهم التكنلوجيا الحديثة من إمكانات عملية وسلسة للتواصل। والمبادرة كانت أيضا إلتفاتة ذكية بسعيها الضمني لإثارة نقاش حول تفعيل العلاقة بين طرفي المعادلة " كاتب - قارئ" والارتقاء بمستوى القراءة إلى مديات تسهم في خلق نمط ثقافي جديد قوامه الكتابة الجماعية। فتكنولوجيا الاتصال أتاحت للقارئ أن يتخطى بمديات واسعة حالة التلقي السلبي، وعدلت العلاقة بين القارئ والكاتب لاغية بذلك العلاقة الفوقية التقليدية لصالح علاقة تكاملية ومترابطة صار القارئ يتشارك بها مع الكاتب باغناء المناقشة من خلال التصويت أو التعليق على المادة المكتوبة। ولان الحديث كان عن الرسائل في زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تتاخر سوى بضع دقائق للوصول إلى صاحبها، فقد أثار كلام الأخ "صائب" لدي بعض التداعيات والذكريات القديمة عن هموم وشجون الرسائل والمراسلة


ابرز محطة اكتسبت فيها الرسائل معنى خاصا لي وللكثيرين ممن شاركوني الحياة والتجربة كانت في فترة العمل المسلح في كردستان العراق. هناك حيث كانت خطوط التواصل بين البشر بدائية للغاية. فقد كنا نحيا في مناطق نائية ووصول أي شيء منا إلى المدن وبالعكس كان يأخذ مديات طويلة بالمسافة والزمن. التراسل حينها مع مدن العراق، وبالذات للأنصار العرب، سكان العاصمة ومدن العراق الأخرى، كان صعبا، إن لم يكن مستحيلا، ومحفوفا بالمخاطر. ولا يتم، إن تم، إلا عبر جهود يقوم بها بعض المتبرعين الثقاة وعبر صلاة خاصة جدا يتم توصيل الرسائل فيها، بسبب إجراءات الصيانة، باليد. لان العثور على أي رسالة مرسلة من "الارض الحرام" تعني ببساطة، في ظل ظروف نظام البعث الهمجي، إن المرسل إليه سيقبض عليه وسيكون مصيره الموت. ولهذا بقي الكثير من الأنصار، وأنا واحد منهم، لسنوات طويلة منقطعين عن أهاليهم لا يعرف احدهم عن الآخر أي شيء. وأنا شخصيا لم استطع الاتصال بأهلي طيلة فترة امتدت ما يقارب الأعوام الست. لكن اذا كان الوطن مغلقا فان الصلة بين كردستان والخارج كانت اقل صعوبة، وكان لبعض الأنصار أهل وأصدقاء هناك يمكنهم التراسل معهم عبر إيران.
ولكن كيف؟

كان يأتي بين حين وآخر احد العاملين بالتنظيم الحزبي في منظمة إيران ليأخذ البريد الحزبي ويأخذ أيضا "بدربه" رسائل الأنصار إلى أهلهم وأصدقائهم ويبعثها من هناك عبر البريد. هذه الرسائل قد تصل، إن وصلت، بعد أسابيع وأجوبتها تصل ربما بعد اشهر. أما في فصل الشتاء حيث تنقطع السبل وتنغلق المسالك بالثلوج فالمدة تطول اكثر، ولكم أن تتصوروا حال نصير متلهف لمعرفة أخبار زوجته وأطفاله في ظل هكذا ظروف. كان ممن يأتون لأخذ البريد اثنان من العاملين في منظمة طهران. احدهم كان يتعامل باستخفاف مع مشاعر وهموم وأسرار الرفاق الذين يحملونه رسائلهم فكان، كما كان يقول لخاصته ساخرا، انه ما ان يخرج من القاعدة حتى يلقي بكل الرسائل في النهر(الروبار). وليس هناك أي تعليل لهذا السلوك غير قلة الاكتراث وانعدام الحس والشعور بهموم ومعاناة الآخرين. وإذا أراد هذا الشخص أو غيره التحجج، كرد على ما أقول، بالصيانة والاحترازات الأمنية، فالرد هو ان هذا القول هو محض ادعاء وتبرير لان هذا الشخص كان يحمل معه البريد الحزبي وهذا بالتأكيد اخطر من الرسائل الشخصية، ولا يضيره بشيء ان قبض عليه وهو يحمل مع البريد الحزبي رسائل شخصية.

هذا الشخص تقدم لاحقا في سلم الدرجات الحزبية وبلغ مستويات قيادية عليا واستوزر في إحدى الحكومات. ويبدو لي ان سلوكه الرديء هذا كان مقدمة ضرورية لهذه المواقع. وللتأكيد على انه لا يوجد أي سبب جدي وحقيقي يمنع هذا الشخص من اخذ الرسائل التي تعني لأصحابها الكثير، إن الرفيق الآخر، وهو اصغر في السن والموقع الحزبي من الأول، لكنه اكبر بالحس الأخلاقي منه، كان يأخذ جميع الرسائل ولا يهمل أي واحدة، والأكثر انه هو نفسه من كان يدفع أجور البريد.

أما رسائل الأنصار فيما بينهم فكانت تأتي طازجة لكن تواترها بطيء. لأوضح ذلك، يكتب النصير الرسالة في نفس اليوم وتصل خلال يوم أو اثنان لكن جوابها قد يتأخر شهر أو اكثر حسب حركة البريد بين القواعد. لكن حتى العام 1984 لم تكن الرسائل بين الانصار تخضع للرقابة الا فيما ندر. غير انه وبعد اشتداد اجراءات القمع التي تزامنت مع تداعيات الوضع بعد معركة "بشتاشان" وبعد الاجتماع الاعتيادي الكامل للجنة المركزية في خريف ذاك العام، الذي ابعد فيه عضو اللجنة المركزية " بهاء الدين نوري" عن الحزب، اشتدت اجراءات الرقابة وصار البريد مراقبا وصار اي بريد ينقل من مقر الى اخر او الى الخارج يجب ان يمر اولا على المسؤول الحزبي ( عانى بعض المسؤولين الحزبيين الخلوقين من احراجات هذه الحالة خصوصا وان بعض الرسائل كانت رسائل شخصية. بين زوج وزوجته مثلا.)

المهم! رغم أهمية الرسائل في حياة الانصار كوسيلة للتواصل وتبادل الأفكار والأخبار إلا أن هناك بعض الأنصار كان يتكاسل ويستصعب كتابة رسالة لصديق في قاعدة أخرى.
وهؤلاء ستلاحقهم لعنة التباطؤ أو الكسل في كتابة الرسائل حتى في بلدان الغربة التي رحلوا إليها لاحقا حيث البريد منتظم والرسائل ممكنة الوصول. والأكثر انه حتى في زمننا هذا، زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تضيع أبدا، ولن تستغرق وقتا للوصول إلى هدفها سوى بضعة دقائق، ولا تكلف كاتبها مشقة الخروج لإلقائها في صندوق البريد، وإنما يفعل ذلك وهو جالس في "غرفته الكونية" أمام الحاسب. أقول حتى في هذا الزمن عثرنا على من يتكاسل عن كتابة بضعة اسطر يفرح فيها صديق له. قد يتعلل هؤلاء بان هناك جهاز آخر اكثر عملية وهو التليفون وهذا صحيح لكن هذا لا يكون بديلا لان للكتابة نكهة خاصة إذ هي تنطوي على قدر محسوس من طاقة التأمل وعمق في التفكير وقدرة على البوح أوسع وأكثر جرأة مما يوفره أو يتيحه التليفون. وأكاد اجزم من انه حتى لو تطورت تكنولوجيا الاتصالات ووصلت لمديات أوسع واكبر في تسهيل عملية الاتصال فان هؤلاء لن يتحركوا وسيجدون دائما أعذارا يبررون فيها تكاسلهم. وهؤلاء في الحقيقة هم كمثل نمط القراء الذين عتب عليهم "صائب خليل" ممن يتكاسلون ويكتفون بالتلقي السلبي. لكن هناك أيضا وجه آخر سلبي لمعادلة العلاقة بين القارئ والكاتب هي ان بعض الكتاب لا يردون على رسائل قرائهم وهذا عامل احباط يقلل من اهتمام القراء ولا ادري إن كان هذا أيضا بدافع الكسل أم هو شيء من التعالي.

تتبع هذه الحالة يوصلنا إلى قناعة إن أكثرية القراء لا يميلون إلى تجشم عناء الكتابة إلى الكاتب ويفضلون بدلا عنها التعليق على الموضوع في حقول خاصة توفرها بعض المواقع. وهذا واحد من تجليات تطور التكنلوجيا( الويب2) حيث التفاعل والحوار لا يكون فقط بين القارئ والكاتب، وهو ما تقوم به الرسائل المباشرة، وإنما بتواصل النقاش وتوسيع دائرته لتشمل النقاش بين القراء أنفسهم. وبهذا يتحقق نوع من ما يمكن تسميته بحلقة للقراءة كبيرة ومفتوحة.

وعود على ما قاله الزميل "صائب" فيبدو إن الحل الامثل لمعالجة هذه المسالة ينبغي أن يتم، برأيي، بطريقة أخرى غير الرسائل المباشرة. وهي طريقة من شانها تحفيز القارئ على التفاعل مع ما يُكتب ويكون ذلك بأن يقوم موقع "الحوار المتمدن"، باعتباره اكبر واهم موقع علماني وديمقراطي يلتف حوله عدد كبير من القراء والكتاب، بتوفير خدمة التعليق، المشروط بطبيعة الحال، على المادة المكتوبة. لاسيما وأن هذه الوظيفة متوفرة في النسخة الكردية من الموقع " ده نگه کان ". ولان "الحوار المتمدن" في تجدد دائم، عليه، برأيي، ان يخطوا باتجاه هذه الخطوة ليوسع من افقه اكثر ويجعل من أرضه ساحة نقاش وبحث تليقان بدوره. اعرف ان الأمر صعب وان تنفيذه يتطلب توفر عدد من العاملين يعاني "الحوار المتمدن" أصلا من شحتهم، لكن كاقتراح أولي، ينبغي البحث عن صيغة تقنية يمكن فيها إشراك كاتب المقال نفسه، توفيرا للجهد، في عملية النشر والمراقبة.

اطرح هذا المقترح لأني أدرك من ان الكثير من القراء والكتاب يشاطرونني التصور بان عالم التكنلوجيا في تطور مستمر، وأن وقائع الحياة من حولنا في حراك دائم، وان إمكانية التواصل بين المعنيين بهذه التطورات بات أمرا ملحا وعلينا جميعا ان نستجيب لـ / ونتفاعل مع هذه الضرورات ان أردنا ان نعيش في عالمنا ونسهم في إعادة تشكيله.



٢٠٠٨-٠٤-٠٦

تمخض الجبل فولد القاضي رزكار محمد امين

بعد تشويق إعلامي قدمت قناة البغدادية الفضائية بتاريخ 2- 04-2008 لقاءا تلفزيونيا مطولا مع القاضي "رزكار محمد أمين" الرئيس المستقيل للمحكمة الجنائية التي حاكمت صدام حسين وبعض من أعوانه في جريمة الدجيل. لم يحفز لهذا اللقاء الدعوة الإعلانية المشوقة التي سبقته وحسب وإنما أيضا ما انطبع في أذهان الناس من تصورات عن شخصية القاضي ضيف اللقاء التلفزيوني. فقد أغاض هذا الرجل الكثيرين أثناء سير المحاكمة بسلوكه الذي اتسم بالبرود والتهاون الذي بلغ بعض الأحيان حد الإيحاء بانعدام الكفاءة لفقدانه السيطرة على مجريات الجلسات، حيث سمح في حينها لصدام حسين أن يحول جلسات المحكمة إلى منبر ووسيلة يبث منها آراءه لمريديه بل وحتى توجيهاته لتابعيه. وبنفس القدر الذي أثار فيه السيد القاضي انزعاج الناس فقد أثار فضولهم أيضا. فالمواطنون والمراقبون قد تساءلوا كثيرا وأثاروا التكهنات حول خفايا سلوكه ورؤيته للأحداث وأسباب استقالته المفاجئة من رئاسة المحكمة. لكن أجوبة القاضي في هذا اللقاء قد خيبت ظن الكثيرين ولم تطفئ لهفة الرغبة بمعرفة ما دار في كواليس المحكمة وأروقة السياسة حول هذا المفصل المهم في تاريخ العراق.

ورغم إن أسئلة مقدم البرنامج الدكتور "حميد عبداالله" قد اتسمت بالجرأة والذكاء ورغم أنها بحثت في جوانب مهمة وحيوية، لا تتعلق فقط بمجريات المحاكمة وما حدث قبل ترأس السيد القاضي لها واستقالته منها، وإنما بلغت مديات حساسة تعلقت بنظرة القاضي الشخصية وآرائه ومشاعره أثناء مجريات المحاكمة، أقول رغم هذا الكم الحيوي من الأسئلة لم يقدم القاضي في ردوده أي جواب يرقى إلى مستوى الأسئلة ولا إلى مستوى تطلع الرأي العام لمعرفة مواقفه أو الحقائق كما رآها وعاشها هو. فقد اتسمت أجوبته، وببروده التقليدي، بمستوى مبالغ فيه من الرسمية وبقدر عال من الاسنادات النصية القانونية التي راحت تحيل كل سؤال، حتى ذلك الذي تعرض لمواقفه ومشاعره كانسان وليس كقاض، إلى ما يقوله الفقه القانوني ونصوصه. وكأن القاضي هنا جهاز الكتروني يشحن بمواد القانون ويعكسها وليس بشرا يحس ويدرك. وكأن الناس بحاجة لسماع ما يقوله القانون وليس ماعاشه وعرفه وأحس به هو.

وهكذا كانت ردود السيد القاضي، ـ التي تخللها الكثير من الصمت والاطالات بمط الكلام بحثا عن مفردات وتعابير لا تخدش شعور أي جهة( والعراق متعدد الجهات) والتي بددت بدورها الكثير من وقت اللقاء، ـ ردودا لا تحمل إجابات، فأماتت حيوية الأسئلة واطفات لهفة الترقب وخرج مقدم البرنامج الذي نفد صبره ومعه المشاهدون بخيبة أمل كبرى وبعلامة استفهام اكبر.

وهنا يمكن طرح سؤال مهم. وهو لماذا تصرف هذا القاضي، وهو رجل متعلم ومن طبقة اجتماعية
لها شان في المجتمع، بهذه الكيفية ؟

ولماذا كانت ردوده لا تحمل أي إجابة مقنعة وخيب أمل المشاهد في لقاء هو شهادة للتاريخ، كما هو عنوان البرنامج. وكلنا يعرف إن السيد القاضي هو رجل شارك، شاء ذلك أم أبى، بدور ما في صنع لحظة من لحظات التاريخ، أو قل كان حاضرا بفاعلية فيها، وحضوره هذا، كما يفترض، بالإضافة إلى موقعه الإداري، ينبغي أن يحفزه على أن يدلي بشهادة تضيء جوانب قد تكون غامضة عن مجريات وخلفيات هذه اللحظة التاريخية المميزة؟.
لماذا صمت؟. بل والأكثر انه صور الأمر وكأن كل شيء على ما يرام، رغم انه أعلن بأنه قد استقال من مهمته لاعتراضه على قضايا قانونية( بالتأكيد لا تخلوا من بعد سياسي) اعتبرها هو جوهرية؟.

إن الإجابة ببساطة هي: الخوف!
نعم الخوف.
ورغم إن الخوف يعود في كثير من أسبابه ودوافعه إلى خبرات فردية شخصية إلا انه في حالات كالحالة التي أمامنا هو نتاج خوف جماعي شامل له جذور غائرة في بنية المجتمع العراقي ومنغرس عميقا في نفسية الفرد فيه. وهذا الخوف هو من اكبر( إنجازات) نظام البعث وبطشه، وهو أيضا أهم ارث خلفه وراءه حرص حكام العراق الجدد على استغلاله وتوظيفه بطرق مختلفة وسعوا للحفاظ على جذوته لإدراكهم بأنه الطريقة الامثل للإخضاع والطريقة الأجدى لشل قدرات الاعتراض وبالتالي المعارضة داخل المجتمع.

السيد "رزكار محمد أمين" كان في هذا اللقاء، مثلما هو في قاعة المحكمة، خائفا من أن يقول أي شيء يغضب به الآخرين، أي كان هؤلاء الآخرين. كان خائفا من أن يقول رأيه لأنه لا يملك رأيا. فهو كحال الكثير من موظفي الحكومة الكبار لا يعرف سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر رغم إن وظيفة حاكم التي يشغلها هي ليست كالوظائف الإدارية الأخرى، لكونها تتطلب قدرا كبيرا من الوعي ومن الثقافة اللذان من شأنهما أن ينتجا شخصية ناضجة تحمل رؤية وتتبنى موقفا ويكون لها رأيها الشخصي بالأشياء. ولهذا يمكن القول انه ما كان ينبغي أن يتم اختيار قاض مسلكي تقليدي كالسيد "رزكار محمد أمين" ليدير محاكمة بقدر كبير من الأهمية كمحاكمة صدام حسين تتطلب لخلفياتها ولأهميتها طريقة مختلفة لإدارتها . ويمكن الجزم هنا ان اختيار السيد رزكار لهذه المهمة الكبيرة كان خطئا معيبا وهو على أية حال واحد من شجون وضع العراق الشاذ حيث لاشيء في مكانه المناسب.

خوف السيد رزكار بكل الأحوال لم يعكس خوفا فرديا بقدر ما كان يعكس خوفا جماعيا صار واحدا من مكونات الشخصية العراقية وبالذات تلك التي نضجت تجاربها العقلية والنفسية في ظل دولة ونظام البعث في حقبته الصدامية ولاسيما المراحل المتأخرة منها. لكن هذا الخوف لا ينبغي أن يفهم على انه نفس حالة الجبن التي ينظر إليها المجتمع بعدم احترام، وإنما هو نوع يمكن توصيفه بأنه حالة من انكسار الإرادة وانسحاق للشخصية لتواتر الضغط عليها يفقد المرء فيه وبسببه ثقته بنفسه ويفقد أيضا أي إحساس سوي بشخصيته وكيانه البشري. خوف يكرس استلاب الشخصية وينقل إليها عدوى نظرة السلطة القمعية التحقيرية لها فتحمل هي راضية هذه النظرة عن نفسها وتتبناها. ومن هذه النفسية ينشا سلوك يشوبه الارتباك غالبا وأحيانا يدفع إلى سلوكيات متناقضة تجنح للعنف بطريقة لا واعية للتعبير عن هذا الخوف وسعيا لكسر هيمنته والتخلص منه في نفس الوقت. وهذا الخوف، برأيي، هو نفسه الذي يصف ويفسر حالتي الخنوع والعنف المنفلت اللذان يتجاوران بتناغم، رغم تنافرهما الطبيعي، في تركيبة الشخصية العراقية، وهما اللذان طبعا مسار الأحداث في المجتمع.

اثبت السيد "رزكار محمد أمين" في هذا اللقاء انه أخطا مرتين. مرة حينما قبل بمهمة رئاسة محكمة هو عاجز ـ لتركيبته الشخصية والاجتماعية على التصدي الفعال لها لأنها تتطلب في ابسط شروطها شخصا جريئا يستطيع تحمل مسؤولية قراره؛ ومرة لأنه وافق على أن يظهر أمام الجمهور في لقاء تلفزيوني لم يقل فيه ما عرفه وما فكر به أو ما شعر به. وبهذا يكون قد خذل الجمهور وخذل التاريخ في آن واحد وقدم لنا نموذجا لولادة عسيرة يتمخض فيها حدث كبير فيلد لنا قاضيا صغيرا.


6-4-2008




٢٠٠٨-٠٣-٢٧

(أمطار النار)
عتبة مرتفعة في عالم الدراما العراقية


لان الفن هو واحد من بين اكثر عناصر الثقافة ارتباطا بهموم الناس، ولأنه الأكثر حساسية لتحولات الواقع الاجتماعية وتبدلاته السياسية فقد سعت نظم الاستبداد الشمولية للهيمنة عليه وتوظيفه في سبيل بسط هيمنتها على المجتمع ومصادرته. وإذا كان الفن بمجالاته المختلفة هو المستهدف الأول فان المسرح وفن الدراما التلفزيونية سيكونان ، لانهما يعكسان الواقع ويؤثران فيه، من اكثر المجالات استهدافا وتطويعا. لهذا شهدت الثقافة العربية درجات مختلفة من التطويع لهذا الميدان وبمسميات مختلفة، مرة باسم الفن الملتزم وأخرى باسم الفن الثوري الذي ينبغي عليه عكس القيم الجوهرية للأهداف الثورية( دائما هناك ثورات ونظم ثورية في الأنظمة الشمولية) أو إبراز العناصر الايجابية في التجارب الثورية. تلك كانت عكازات الثقافة الشمولية ومستويات نظراتها الجمالية. لكن إذا كان هذا المنحى الشمولي قد اخذ طابعا تنظيريا عقلانيا في بلدان أوربا، مصدر الفنون والجماليات الحديثة، بسبب ركائزها الحضارية الراسخة، فانه اخذ في تجاربنا العربية المحلية أشكالا كاريكاتورية وممسوخة. و إذا أخذنا واقع الفن في الثقافة العراقية بعمومه، والدراما بشكل خاص، لاسيما بعد إحكام نظام البعث في حقبة (صدام حسين) لقبضته الحديدية على كل مرافق المجتمع العراقي، سنجد وببساطة مستوى واضح من الانحطاط على مستويات الرؤى الجمالية والركائز الفكرية نزولا إلى التقنيات الفنية وأشكال الأداء . فقد شهد المسرح العراقي، وبالذات حقبة الثمانينات وماتلاها، شيوع العروض التهريجية التي شكلت قطيعة فعلية مع تقاليد المسرح العراقي الذي عرف بجديته ورصانة إنجازاته لتهبط بفن المسرح وبالمشاهد إلى درك واطئ، ولتخلف تشويها للذائقة الجمالية وغيابا لأي عكس جمالي لواقع الإنسان والمجتمع ولظروفهما.

وقد نالت الدراما التلفزيونية نصيبا اكبر من الضغط والتطويع لان علاقتها بالجمهور علاقة مباشرة وواسعة، وهي تحظى بمتابعة مكثفة منه لأنها تقتحم عليه بيته عبر جهاز التلفاز وهو اخطر جهاز في عالم الاتصالات الحديثة وأكثرها أهمية على الإطلاق. وإذا تجاوزنا الأعمال الدرامية المفصلة على مقاسات النظام الأيدلوجية والدعائية سنجد أن الأعمال الجادة والناجحة لجأت، أما إلى التاريخ كملاذ يجنب المبدع التورط بمعالجات اجتماعية مسؤولة، كمسلسل (حكايات المدن الثلاث) للمبدعيّن (محمد شكري جميل) و(عادل كاظم). وأما إلى نمط من التجريد الميتافيزيقي في تحديد خلفيات الأبطال ودوافع سلوكهم بانساب شرور أفعالهم إلى طبيعة النفس البشرية المفطورة على الشر، إن لم تجد من يحركها من وراء الحدود كعادة الأعمال الفنية في المنظومات الشمولية. لذا نرى أن مثل هكذا أعمال وحتى في أحسن أحوالها قد افتقدت للحس النقدي، وتجنبت الإشارة إلى المسببات الحقيقية للإشكالات الاجتماعية التي عالجتها والمرتبطة أصلا بطبيعة المنظومة السياسية أو الاقتصادية، أي بكل ماله صلة بالسلطة.

ولكن بعد سقوط النظام وانفتاح الساحة الثقافية لم نشهد تحولا مقنعا في حال الدراما العراقية. ففي جو الانفتاح وقدر الحرية الواسع أخذت بعض الفضائيات، باعتبارها مؤسسات إنتاج فني وثقافي، بنفس أدوات المسرح التهريجي، سليل المرحلة الفاشية، لتصب غضبها السياسي على خصومها. وابرز من جسد هذا السلوك هو فضائية (الشرقية) التي أنتجت بضعة أعمال معتمدة فيها على مجموعة من المهرجين الذين قدموا للجمهور كوميديا فظة ومبتذلة في معالجة الواقع ونقده. ولم تقدم هذه القناة شيئا يعتد به حتى في نتاجاتها الجادة كمسلسل (سارة خاتون) الذي استمد مقوماته من مادة خام راقية جدا، هي سيرة حياة شخصية اجتماعية لها حضور في تاريخ العراق الحديث، والتي كان يمكن للمتصدين للعمل من خلالها إلقاء الضوء على حقبة بدايات تشكل الدولة العراقية الحديثة والمجتمع العراقي الحديث ورصد تحولاته. ولكن للأسف أهدر كادر العمل جميعه هذه المادة الأولية الراقية بتأليف درامي ساذج لم ينجح في أن يشكل ملامح الشخصيات لا على مستواها الفني ولا الموضوعي. ووضع على السنة أبطاله لغة لا تنسجم وخلفياتهم، بالإضافة إلى تلفيق الشخصيات وتنميطها بدرجة أفقرتها وغيبت ملامحها. كذلك نفذ هذا العمل برؤية إخراجية وأدوات ركيكة يستطيع حتى تلاميذ مدرسة ابتدائية تقديم ماهو أفضل منها. وبأداء تمثيلي نمطي ركيك أضاع حضور حتى بعض الطاقات الفنية المميزة التي ساهمت بالعمل. لكن في مسلسل (أمطار النار) الذي أنتجته قناة (البغدادية) الفضائية كان الأمر مختلفا بشكل كبير وملحوظ. ليس على صعيد المقارنة بين ما انتج من أعمال جديدة في ميدان الدراما وحسب، وإنما على مستوى الدراما العراقية عبر تاريخها. فـ (أمطار النار) قدمت مجهودا إبداعيا مميزا سوف يشكل- بتقديري- عتبة مرتفعة في عالم الدراما العراقية قد يصعب، أن لم يبذل جهد واع في تكريس الأعمال الجادة، أن يتم تخطيها أو حتى مضاهاتها.

لكن ماهي هذه المزايا الفنية التي جعلتني اقدر هذه الأهمية لهذا العمل الفني؟

أول ميزة او عنصر ايجابي يسجل للعمل هو النص الدرامي. فقد عبر النص الدرامي عن قدرة عالية وإتقان فني كبير في رصد تجربة لمجموعة سكانية،، هم سكان الاهوار في جنوب العراق، عانت من ويلات ما سمي بحرب الخليج الأولى . وقد استطاع كاتب المسلسل المبدع (صباح عطوان)، صاحب الخبرة والمراس في ميدان الكتابة الدرامية، أن يقدم لنا في ( أمطار النار) عملا دراميا بمستوى عال من التماسك جمع برشاقة بين تاريخية الحدث وواقعية شخصياته وكثافة حضورها الفني. واستطاع أن يسلط الضوء على الكثير من حيثيات بيئة الاهوار، وعلى الظروف القاسية التي مر بها سكانها. كما يسجل له أيضا الدقة في رسم الشخوص والانسيابية والصدق الفني في لغتها وبناها النفسية ومستويات وعيها الاجتماعي. كذلك احتوى النص على كم كبير من الشخصيات التي رسمت أبعاد البيئة وأحداث غطت فترة زمنية طويلة نسبيا، وهذا يمنح العمل بعدا ملحميا أضاف قدر من النجاح إلى العمل، وان كان يؤخذ عليه بعض العجالة في رصد بعض جوانب الواقع واختفاء غير مفسر لبعض الشخصيات من على مسرح الأحداث. لكن بما أن للعمل جزءا ثان قادم لا يستطيع المرء الحكم النهائي على هذه النقطة. ومن بين العناصر الأخرى التي تحسب للبناء الدرامي هي توزيع الضوء بشكل ممتاز على الشخصيات لرسم دورها في الأحداث. فنجد إن جميع الشخصيات أخذت القدر الكافي من الضوء لتقدم نفسها وهمومها ودورها في الحدث الأكبر أو صياغتها للواقع، وان كانت هناك بعض الحوارات الطويلة التي أثقلت على حركية وديناميكية العمل.

ميزة أخرى كانت مهمة جدا بتقديري، والتي شكلت تحولا نوعيا في طرائق الأداء الدرامي العراقي، وهي مسرح الأحداث، الذي غلب عليه المجال المفتوح، أو الأحداث في الهواء الطلق. فقد خرج لأول مرة وبهذه الكثافة التصوير من الاستوديوهات والردهات المغلقة أو الغرف وصالونات البيوت والمكاتب، التي غلبت على الحيزات المكانية التي قدمتها الدراما العراقية، إلى الهواء الطلق في الطرقات والأسواق والأنهار وسط الطبيعة. ولكن ما اسقط هذه الميزة وسلبها بعض من القها هو، كما أخمن، ضعف الإنتاج الذي انعكس على إرادة المخرج وأدائه. فقد ضاعت للأسف فرص رائعة لتكوين مشاهد بانورامية تعتمد الحركة السريعة والإثارة كمشاهد سقوط القذائف على صرائف الاهوار( أكواخ القصب) والهروب الجماعي منها. فلم تصور هذه المشاهد بأكثر من كاميرا أو اثنتين ولم ترصد من زوايا مختلفة. باختصار لم تستخدم تقنيات مناسبة لإظهار هذه المشاهد كما ينبغي أن تظهر عليه. وأظن أن المخرج كان قادرا على تقديمها لكن يبدو أن الإنتاج والقدرات المحدودة قد خذلاه.

ومع إن الإخراج لظروف اعزوها إلى الإنتاج وبعض الإهمال لم يكن بمستوى النص على طول الخط، إلا انه، رغم بعض الهفوات والقصورات، كان إخراجا رائعا استطاع المخرج (عزام صالح) أن يقدم العمل وينقل لنا أجواء البيئة بطريقة مشوقة ألقت ضوء الفن الباهر على واقع غالبا ماكان مزدرى ولم يحض باهتمام كبير.

ركز الإخراج كذلك على تفاصيل دقيقة في بيئة العمل وصورت كل المشاهد في أماكن حية عكست نكهة المكان الطبيعية ولم يسقط المخرج في فخاخ الأماكن الجاهزة المقولبة الخالية من الروح وعبق الواقع. فصور حركة الناس في بيئة مفتوحة، في الاهوار والأماكن المهجورة، وفي شوارع وأزقة قديمة وفقيرة، وفي فنادق شعبية متهرئة الجدران. كذلك يحسب لكادر العمل تقديم الأزياء وأنماط اللباس وتسريحات الشعر بإتقان عال جدا عجز عن مضاهاته أي عمل فني سابق تناول البيئة الريفية( مع ملاحظة غياب الوشم في وجوه النساء وهو شيء مألوف وكثير في هذه البيئة).

كان الجسد الناقل لكل الرؤى الإبداعية التي اكتنزها النص الدرامي والرؤية الإخراجية هو الممثلون الذين فاجأوا المشاهد بمستوى من الأداء ازعم بأنه قل نظير له في تاريخ فن الدراما العراقية. فلأول مرة تجسد شخصية أبناء أرياف الجنوب وسكان الاهوار بالخصوص بهذا الشكل المميز والدقيق. ورغم تعثر بعض الممثلين في أداء الأدوار مما يزيد من هفوات الإخراج، لكن الأداء التمثيلي بشكل عام كان متفوقا للغاية. وأيضا هناك بعض الممثلين الذي أدوا أدوارهم بطريقة جعلت من أدائهم يشكل معيارا مرتفع المستوى لمن يريد أن يتصدى لمثل هذه الأدوار. وبالتأكيد إن اداء الفنانة (عواطف السلمان) كان متطورا لحد يثير الإعجاب والانتباه إلى هذه الفنانة الكبيرة. ولا ينبغي هنا إغفال أن دورها كان من بين أصعب الأدوار في المسلسل، ولا اعتقد بان هناك ممثل ضاهاها في مستوى الأداء لا من داخل العمل ولا من خارجه. فقد استطاعت هذه الفنانة أن تنجح في تقديم الشخصية التي جسدتها( موزة) بتفاصيلها من اللهجة الجنوبية( ريف العمارة)، ــ التي شكلت على طول خط الدراما العراقية تحديا للكثير من الفنانين،لم يستطيعوا، برايي، اجتيازه إلا بأداء (عواطف السلمان) ـ إلى النبرة وما يرافقها من إيماءات وحركة.

ولكن بروز وتفوق الفنانة (عواطف السلمان) لن يمنع من القول أن العمل قدم طاقات إبداعية تثير الإعجاب و (العجب) من وجود هكذا مواهب مميزة في ميدان الفن العراقي. طبعا لايمكن لمن تابع العمل أن لا ينتبه إلى الأداء المتفوق للفنانين الموهوبين (ستار البصري - صكبان المكوطر) و (سامي قفطان - الحاج مطر) و (نجلاء فهمي - رسلية)، والأداء المميز والدور الكبير الذي أداه الفنان (عبدالجبار الشرقاوي – سيد برهم) ولا يمكننا في هذا السياق تجاوز قامات مرتفعة وطاقات لامعة في العمل لم تكن معروفة( في الأقل لي شخصيا) كالفنان المبدع ميمون ألخالدي - شنشول) و (طه المشهداني - راهي)، والمميز جدا (كاظم القريشي - نوماس). وكذلك عدد آخر من الفنانين الذين وقع ثقل نجاح العمل على أدائهم المتفوق كالفنانة (فاطمة الوادي - حورية). وذكر هذه الأسماء لتميزها لا يمنع القول من أن هناك كثير من الفنانين الآخرين الذين قدموا أدوارهم بطريقة متقنة وجذابة.

إن مسلسل ( أمطار النار) كان إنجازا كبيرا بكل المقاييس، وقد بدد إلى حد كبير التصور الذي انطبع في ذهن المشاهد العراقي، لاسيما بعد النجاح الذي قدمته الدراما السورية،من أن الدراما العراقية فاشلة وان ممثلينا لا يجيدون فن التمثيل.

فهل ستواصل الدراما العراقية خطواتها في طريق تطورها والنهوض من كبوتها مع (أمطار النار) لتسترجع القها المندثر؟
يبدو لي أن الشرط الأساسي لتطوير الدراما العراقية، وكما هو الحال مع جميع أشكال الإبداع الأخرى، هو ، بالإضافة إلى الجدية، نوع من المراكمة. فالفنون العراقية بحاجة إلى مراكمة بتكثيف الإنتاج كمدخل سليم لتقديم أعمال نوعية.

لكن بما أن شكل التطور في المجتمع العراقي هو من النوع الارتدادي، ينبغي علينا أن لا نسقط في خطيئة تقدير الواقع بصورة حالمة، وننحدر الى تفاؤل ساذج، وعلينا، بقدر مانامل في أعمال ناجحة، أن نتوقع أن يكون هذا الإنجاز الفني الكبير الذي قدمته لنا (أمطار النار) هو هفوة جميلة وقع فيها الفن العراقي كما كان يحدث معه طيلة تاريخه.
لكن لنأمل قليلا في جميل قادم.

٢٠٠٨-٠٣-٢٢

في إنصاف سلمان رشدي




أورد السيد (اشرف عبدالقادر) بمقاله المنشور في الحوار المتمدن يوم 20-3-2008 عبارة لفتت انتباهي وأثارت استغرابي في نفس الوقت. ونص العبارة هو(تحليلي لإصرار الدكتورة وفاء على موقفها من الدين-وهي الطبيبة النفسانية- أنها تريد الشهرة بأي ثمن، تماماً كما فعل سلمان رشدي، ولولا فتوى الخميني بقتله ما علم به أحد حتى الآن، ولكان كاتباً للرواية من الدرجة الثالث تحت الصفر).

المقصود بهذه المقارنة هو الدكتورة (وفاء سلطان) بعدما أثارته مؤخرا من لغط باطروحاتها حول قضايا الدين الإسلامي. وما يهمني هنا ليس المقال ولا مضمونه وإنما المقارنة المجحفة التي ساقها السيد الكاتب في مقاله، حيث وقع بهذه المقارنة، برأيي، في خطأ وخطيئة بعقده مقارنة غير منطقية، وتشابه غير ممكن واقعيا، بين مكانة ودور (سلمان رشدي)، كروائي حداثوي بأفق نهضوي في الرؤية والإنجاز الإبداعي، وبين سيدة يطغي على نتاجها وفعالياتها الجدل السياسي الصاخب والمشحون بقدر كبير من الإثارة المصطنعة، عامدا إلى نثر الشتائم والإهانات للمحاورين وللمخالفين بالرأي. قد يكون تحليل السيد (اشرف عبدالقادر) حول سعي الدكتورة (وفاء) للشهرة مقبولا منطقيا، بل ويمكن له أيضا، بتقديري، أن يدرج نشاطها ودوافعها ضمن الرؤية الغربية لواقع الشرق المرتكزة على منظور نمطي لا يفهم عمق طبيعة هذا الواقع وخلفياته. أي بمعنى أن يضع ممارسات السيدة (وفاء) ضمن دائرة النشاط الغربي الذي يركز في مطبوعات كثيرة، لأهداف الإثارة والتجارة أحيانا، على نقاط مثيرة في الواقع الشرقي كمذكرات الأميرات العاشقات والهاربات مع عشاقهن وما يشابهها من نمط كتابات تريد الدعاية والانتقاص من الآخر. لكن أن يضع الدكتورة( وفاء) بمستوى واحد مع (سلمان رشدي) فهذا شي لا يستسيغه منطق ولا يقبله عقل . ويبدو لي إن مصدر هذه المقارنة هو قصور في تقييم وفهم طبيعة منجز (سلمان رشدي) الإبداعي، وعدم دراية بتاريخ أو سيرة حضوره في ساحة الإبداع، وبالتالي عالم الشهرة. وهذه ليست هي المرة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التقييمات لشخصية وأعمال (سلمان رشدي)، فقد دأبت بعض الكتابات على اختزال هذا الفنان الكبير في واقعة واحدة، هي إشكالية روايته (الآيات الشيطانية) وفتوى (الخميني) التجريمية بحقه. وهي أراء وتقييمات وضعته، بغير قصد أحيانا، في خانة الباحثين عن الشهرة الرخيصة، وهذا أمر مناف للواقع تماما. فالمتتبع لعالم الإبداع الأدبي سيعثر بالضرورة، في طريقه، على اسم وأعمال (سلمان رشدي) باعتبارها أعمال روائية إبداعية مميزة. وسيعرف من أن رشدي هو كاتب ومثقف معروف على نطاق عالمي قبل أن يطلق (الخميني) فتواه القاتلة يهدر دمه بسنوات عديدة؛ ومن انه روائي من الطراز الأول وليس من كتاب الدرجة الثالثة كما وصمه السيد اشرف. فقد نفدت، على سبيل المثال وبشهادة شخصية، رواية (العار) من معرض دمشق الدولي للكتاب في أواسط الثمانينات( قبل الفتوى والآيات الشيطانية بزمن طويل) بأيام قليلة. كما إن أعمال (سلمان رشدي)، على الأقل منذ (أطفال منتصف الليل)، قد ترجمت إلى عدة لغات ( أنا اعرف عن أربعة منها) قبل الفتوى المشئومة. وهذه الوقائع، على بساطتها، تؤكد بشكل ما أن رشدي كاتب له مكانته وانه اسم معروف ونتاجاته ذات رواج واسع، والا لما اهتمت بترجمة أعماله شعوب وثقافات متعددة لو انه كان كاتب درجة ثالثة تسببت بشهرته فتوى دينية ظلامية.

وإذا كان غير متاح لي هنا تقديم عينات وتحليلات لطبيعة نتاج وإبداع (سلمان رشدي) فيمكنني، على سبيل الاستدلال، الإشارة إلى ما قدمه الدكتور (صادق جلال العظم)، في كتابه (ذهنية التحريم)، من تحليل عميق لطبيعة أدب (سلمان رشدي) حيث عقد في كتابه هذا مقارنات ممتازة بين أدب ودور(سلمان رشدي)، ودور كل من (فرانسوا رابيليه)، أديب ومثقف عصر النهضة، (وجد ميلان كونديرا في كتابه <الوصايا المغدورة> ذات التناظرات بين الأديبين)، و(جيمس جويس) في القرن العشرين. كما ركز الدكتور (صادق جلال العظم) في مناقشته، التي شكلت الجزء الأكبر من كتابه المشار إليه، على الأبعاد الفكرية والنقدية التحررية، التي جسدها (سلمان رشدي) بإعماله الإبداعية، والتي تناقش بعمق طبيعة البنى الفكرية والعقلية والأيدلوجية والعقائدية والشعورية التي تقبع في اسر تخلفها وعتمتها مجتمعاتنا الشرقية. وإذا كان الأدب لا يقدم مضامينه بقوالب فكرية مجردة، لان الجمالي مرتبط بالضرورة بالفكري، والأسلوب متعاضد مع الرؤية، فان البنى الأسلوبية التي حققها (رشدي) بأعماله هي متقدمة للغاية تجعل منه بكل استرخاء واحدا من بين كبار كتاب العالم.

ابرز ميزة في أدب( رشدي) هي الفكاهة باعتبارها، حسب الشاعر المكسيكي ( اوكتافيو باث) الابتكار العظيم للروح الحديثة. وهي حسب (باث) أيضا (ليست الضحك والسخرية والهجاء، إنما نوع خاص من الهزل) ولهذا كانت أعمال (رشدي) الروائية مليئة بعوالم فانتازية مثيرة، تضج بنقد العالم بضفتيه، شرقا وغربا، وبأسلوب مليء بصور وأخيلة مكتظة بالحكايات والأساطير والخرافات وروح الدعابة الشعبية، وبلغة متمثلة لكل مكنونات النفس البشرية والعقل الجمعي لمجتمع يقول الأشياء ويراها بطريقته الخاصة، ويصور الواقع من زوايا تمثل مصالح ورغبات تبدأ بأشياء عالم أبطاله الصغيرة( كانت أم سليم سيناء بطل أطفال منتصف الليل تحاول أن تتعلم كيف تحب زوجها جزءا جزءا،وزوجها التاجر الصغير كان يضل طريق العودة إلى البيت، لتداخل الأزقة، فيدفع مبالغ صغير للأطفال ليدلوه على بيته) إلى مطامع السلطة وليالي القمع الوحشي ( مشهد مذبحة طائفية وقعت لأنصار عبداالله الطنّان).

عوالم (رشدي) الروائية مكتنزة بالغرابة والنقد الضاحك لأنه ينتمي إلى مدرسة تنتهك المقدس وتدنسه، وحسب تحليل( صادق جلال العظم)، فان (سلمان رشدي) ينتمي إلى تقاليد أدب المعارضة الهجائي الساخر والمتهكم والهازل، وهي تقاليد لها جذور وأصول في الثقافة العربية والإسلامية، وليست منتجا غربيا صرفا يحرض على أن يصنف (سلمان رشدي) بموجبه، كدليل اتهام جنائي ضده ، كأحد نتاجاتها أو نتاجات مدارس التغريب والاستشراف الأوربي.

سلمان رشدي روائي كبير لان أعماله حسب توصيف الدارسين له هي مراجعة نقدية لكل التراث الفكري والشعائري والأخلاقي لواقع الشرق ولعلاقة الغرب به. وهو يكتب الرواية، كما يقول هو نفسه ( لتكذيب الطبعة الرسمية للحقيقة) التي يقدمها الساسة في بلاد العالم كلها. اختصارا يمكن إجمال فكر وإبداع سلمان رشدي على انه تعبير عن صيرورة التحول الكامنة في مجتمعاتنا، ونقده الساخر وانتهاكه للمقدس هو بالضبط واحد من أهم الأدوات الضرورية لتغيير واقعنا المتكلس.

لكن مرد الرؤية القاصرة لتقييم مكانة (سلمان رشدي) التي أثمرت مواقف وآراء خفضت من هامته العالية تعود، بتقديري، أو على الأقل بجزء كبير منها، إلى طبيعة الجدل الذي دار حول رواية ( آيات شيطانية) والفتوى الدينية بحقه، والذي انطلق بشكل أساس من منطلقات فكرية تجريدية تتعلق بانتهاك المقدس من ناحية، وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير من ناحية ثانية. فقد تكرست وجهتا النظر في هذا الجدل حول مساحة حرية التعبير ومدى السماح لها أو أحقيتها بالاقتراب من المقدس والمس به. وبهذا النقاش حضر (سلمان رشدي)، المنتهك للمقدس والمجدف في الدين( شرقا) وضحية الظلامية السلفية والتخلف والاستبداد الشرقيين (غربا) وغاب (سلمان رشدي)، الأديب والفنان الناقد، ذو الرؤية النهضوية التي أقامت إبداعها على النقد الساخر والعميق لكل أشكال التكلس العقلي، والركود الاجتماعي، والتخلف المعرفي الذي تعاني منه منطقة الشرق. وعلى هامش هذا النقاش ولدت صورة جاهزة ساهم في صنعها الإعلام لانشغاله السطحي بحيثيات اختفاء ومعاناة (رشدي)، إذ أهدرت قيمته بتصويرها إياه كأحد نجوم المجتمع، الأمر الذي سطّح النظرة إليه، وبالتالي بسط الموقف منه وأوقع الكثير من المثقفين في مطب اعتباره، دون تمحيص، أديبا مجهولا أو منسي للحد الذي جعله بعضهم رديف لطالبي الشهرة العابرين والهستيريين كـ (وفاء سلطان) وغيرها.
آن الأوان لكي يعاد الاعتبار لـ (سلمان رشدي)، كأديب ومفكر مبدع ، في خطابنا، وان نكف عن اعتباره نجما لامعا يسعى للشهرة لكي لا نظلمه في مقارنات مجحفة هو اكبر منها بكل المقاييس.



٢٠٠٨-٠٣-١٩

نوشيروان مصطفى... سقوط ورقة التوت



ذات مرة كتب احد الكتاب التابعين للساسة بضع مقالات مطولة حاول أن يقدم فيها شخصية( نو شيروان مصطفى)، القيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني، على انه مثقف المعي وليس سياسيا فقط. ونحن نعرف أن جمع صفة المثقف مع السياسي هي حالة رائعة لكنها نادرة. ولان هذا الكاتب لم يقدم مبررات وأدلة مقنعة عن أطروحته المثقفة تلك، فقد كان من الصعب على القارئ حينها التأكد من زيف ما حاول إقناعنا به. لكن حبل الكذب قصير، كما تقول الحكمة الشعبية، وجاءت اللحظة التي تم فيها كشف تهافت هذا الادعاء الفج. والطريف في الأمر إن الشخص الذي اثبت زيف هذا الادعاء هو( نو شيروان مصطفى) نفسه، حيث كشف، في لقاء تلفزيوني على فضائية البغدادية يوم 16 آذار أجراه معه الإعلامي العراقي الدكتور حميد عبداالله، من انه شخص بعيد عن صفة المثقف التي يلصقها به أتباعه. ذلك إن المثقف هو من يستطيع الاحاطة بالموضوعات المطروحة أمامه ومن يستطيع استكناه جوهر السؤال الذي يطرح عليه، وهذا لم يظهر في ردود نو شيروان في هذا اللقاء، فبعدما اكتفى بالإجابة بنعم وكلا على عدد من الأسئلة اخذ يجادل مضيفه وكأنه جالس في مقهى، في الوقت الذي يفترض فيه وضعه كسياسي وكمثقف، كما هو موصوف في مدونات الاتباع والمتملقين، أن يغتنم فرصة اللقاء التلفزيوني معه لتقديم اكبر قدر ممكن من الأفكار والتحليلات حول الموضوعات التي يتناولها.

في هذا اللقاء لم يكن نو شيروان مكشوفا كشخص غير كفوء في مضماري السياسة والثقافة وإنما ظهر كسياسي فاشل يكذب بطريقة فجة وليس على طريقة السياسيين الحاذقة. وتجلى هذا بوضوح في إجابته على سؤال محاوره حول قيادته الشخصية لمعارك قتل فيها الكثير من الشيوعيين العراقيين ( المقصود معارك بشتاشان عام 1983)، حيث قال، وبعد أن لف ودار ولوى رقبته، بان الحزب الشيوعي العراقي كان ضمن تحالف (جود)( الجبهة الوطنية الديمقراطية) ، وان الحزب كان ضمن الجبهة العسكرية لهذه الجبهة، وان (جود) كانت تريد إقصاء الاتحاد الوطني الكردستاني عن ساحة النضال( كذا). وكذلك لم يكن الحزب الشيوعي العراقي المتكبد الأكبر للخسائر، وإنما هو ضخم الموضوع وأثار ضجة حول هذه العملية لان ماكنته الإعلامية أقوى من التي عند الآخرين. وفي محاولة ساذجة لخلط الأوراق قال إن (جود) كانت تتلقى الدعم من إيران، وان الاتحاد الوطني الكردستاني كان حينها في صراع مع إيران.

هذه باختصار إجابته عن هذا السؤال المهم। وهي، باختصار أيضا، كلها ملفقة وكاذبة. لان الوقائع المعروفة للكثيرين تقول عكس ذلك تماما.

أولا لم تكن جبهة (جود) ولا حتى الحزب الديمقراطي الكردستاني كانا قد وضعا ذات يوم في اولوياتهما طرد الاتحاد الوطني الكردستاني من ساحة العمل المسلح، أو ساحة النضال كما يحلو لـ (نوشيروان) تسميتها. بل أن الوقائع كانت تقول عكس ذلك تماما. فقد كان الاتحاد الوطني هو الذي يسعى لإبعاد القوى السياسية عن مناطق العمل المسلح التي ينشط هو فيها، لأنه، وعملا بما جبل عليه سياسيا، كان يريد الانفراد بالقرار السياسي في أي منطقة يتواجد فيها. وكان يريد كذلك من الآخرين الانصياع له، وذلك لنزوع زعاماته الحزبية إلى الانفراد والسعي لإقصاء الآخرين أيا كانوا أو جعلهم تابعين. وهذا يتعارض بداهة مع كل قيم العمل الوطني. ومن هذه الخلفية وبتلك الدوافع قام هذا التنظيم المريب بخوض عدة معارك مفتعلة مع جميع الأحزاب الكردستانية فيما سمي زورا باقتتال الأخوة راح ضحيتها الألوف من أبناء الشعب الكردي. وكان في جميع هذه المعارك هو البادئ وهو المعتدي. ومعركة (هاكاري) خير دليل على هذا القول، حيث قامت قوات الجلاليين حينها بالهجوم على المقرات الرئيسية للحزب الديمقراطي الكردستاني في منطقة بهدينان بهدف كسرهم عسكريا والاستيلاء على المنطقة. والجميع يعرف أن ارض كردستان كانت مقسمة بين الحزبين. فمنطقة بهدينان كانت تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، ومنطقة سوران تخضع بدرجة كبيرة لسيطرة قوات الاتحاد الوطني. ولم تسجل طيلة فترة العمل المسلح أي حادث حاول فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني الاقتراب من مناطق الجلاليين وذلك تجنبا للاقتتال معهم. مع إن منطق الأشياء يقول إن من حق أي حزب وطني التواجد في المنطقة التي يرى أن عمله فيها ممكن وضروري. ثم إن الحزب الشيوعي العراقي عرف بمواقفه الحيادية في عملية الصراع الطويلة بين الطرفين المتصارعين، بل والأكثر انه كان يحاول أن يصلح الأمور بينهما. حتى عرف بأنه حزب( ريش سبى) أي ذو اللحية البيضاء، وهي كناية للشخص الخّير الذي يصالح بين المتخاصمين. كما أن الحزب الشيوعي العراقي كان عضوا في التحالف الآخر المتواجد فيه الاتحاد الوطني الكردستاني وهو جبهة (جوقد) ( الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية)( أخفى نو شيروان هذه المعلومة مهمهما بجملة مبتورة) وهي متشكلة من مجموعة من الأحزاب السياسية العراقية الصغيرة والمتواجدة خارج ارض العراق( في سورية). وهي جبهة ليست نقيضة لجبهة (جود) ولا في حالة صراع معها على الإطلاق. علما إن جبهة (جود) قد تشكلت بشكل أساس بسبب من ممانعة الاتحاد الوطني الكردستاني على دخول الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جبهة (جوقد) التي كان يفترض بان تكون هي الأوسع وتجمع كل قوى المعارضة.( ألا يذكر هذا بجبهة الاتحاد الوطني عام1957 حينما اعترض البعثيون على وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني فيها ـ أنا هنا اذكر فقط ولااقارن بين الحالتين أو أشير إلى التشابه في السلوك). يتبين مما تقدم أن الحزب الشيوعي العراقي لم يكن طرفا في النزاع الدائر بين الحزبين الكردستانيين، ولم ينحز لأي طرف منهما. ولم يكن سلوكه عدواني إزاء أي طرف مما يسقط عمليا أي ادعاء لـ (نو شيروان) وحزبه بدوافع استهدافهم له.

من ناحية أخرى بدت إشارة (نوشيروان) إلى علاقة إيران بجبهة جود، وضمنا بالحزب الشيوعي العراقي، في منتهى البؤس والوقاحة। فهو يعرف قبل غيره من ان الحزب الشيوعي العراقي لا تربطه أي علاقة بإيران، ولم ينفذ أية أجندة خارجية لا لإيران ولا لغيرها. بل على العكس فالحزب كان يعاني من مشاكل جدية بهذا الشأن لأهمية إيران كممر بين الخارج وكردستان، وكان تواجده وحركته هناك سرية ومحفوفة بالمخاطر. ويبدو أن محاولة الإيحاء البائسة هذه هي من اجل الإيهام بإضفاء نوع من الدوافع الوطنية لاقتتال الاتحاد الوطني الكردستاني ضد الحزب وضد جبهة (جود)، حيث كانت، كما هو معروف، الحرب العراقية الإيرانية آنذاك في أوج اشتعالها. ومما يجدر التأكيد عليه هنا هو انه لم يكن لخلاف أو صراع الجلاليين مع إيران آنذاك أي علاقة بما قام به الجلاليون من جريمة اعتداء على الحزب الشيوعي العراقي. وهذا ادعاء وتزييف يعرف أي تلميذ ابتدائي انه محض هراء وافتراء. لان الدوافع الحقيقية وراء استهداف الحزب الشيوعي العراقي، وهي الأكثر أهمية والجديرة حقا بالكشف، هي إن الاتحاد الوطني خطط لهذه المعركة ونفذها ضمن حالة تعاون مع نظام صدام حسين آنذاك، وهي تحقيق لأهداف مشتركة بينهما. وهذه المعركة تندرج، شاء (نو شيروان) وأتباعه ذلك أم أبوا، ضمن جرائم نظام صدام حسين، وقد نفذت بأيدي عملاء مباشرين له هم عناصر الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة نو شيروان وجلال الطالباني( الرئيس الحالي للعراق، الديمقراطي جدا والإنساني جدا). أما ادعائه بان العملية ضخمت من قبل ماكنة الشيوعيين الإعلامية فهذا أيضا ادعاء متهافت، لان القيادة الرسمية للحزب الشيوعي العراقي وإعلامها، لم يلحا على ذكر هذه الواقعة في ادبياتهما، ولا في نشاطهما الإعلامي، خصوصا بعد أن تحسنت العلاقات بين هذه القيادة وبين الاتحاد الوطني الكردستاني. لكن القضية – الجريمة انتشرت وعرفت على نطاق واسع لأنها أخذت تتحول إلى واحدة من متبنيات الرأي العام العراقي المثقف، وذلك ليس بسبب من أن الماكنة الإعلامية للحزب الشيوعي العراقي تلح وتضخم الحدث، وإنما لان واقعة بشتاشان حركت مشاعر العراقيين وحفزت وعيهم ونبهتهم إلى أنها كواقعة كانت دليل عملي على ادعاءات مزيفة بالديمقراطية والنزعة الإنسانية لأشخاص، كجلال الطالباني وتابعه نو شيروان، أيديهم في الحقيقة ملطخة بدماء أبناء الشعب العراقي. وكذلك لان هذه الجريمة كانت ذات طابع عنصري كشف الذهنية العنصرية الحاقدة لهؤلاء الأشخاص ولتنظيمهم. فقد وقعت، كما هو معروف، تصفيات جسدية لأسرى المعارك، على الضد من أخلاق الفروسية وأصول الحروب في التعامل مع الأسير، وقد تم قتلهم بدوافع عنصرية وبكراهية مكشوفة لأنهم عرب. وهذا الأمر لا يستطيع لا (نو شيروان) ولااتباعه من الكتبة الاتباع أن ينكره أو يخفيه.

ويبقى هناك أمر آخر مهم وهو سؤال مقدم البرنامج فيما إذا قام (نو شيروان) وحزبه بمراجعة لتلك الفترة ولذلك السلوك( الجريمة). فكانت الإجابة( إن الإنسان حين يهاجم ألا ينبغي عليه أن يدافع عن نفسه). وبهذه الإجابة لم يثبت ( نو شيروان) ما بات معروفا عنه وأثبتته سيرته السياسية طيلة حياته من انه شخص بلا أخلاق، وإنما اثبت انه محدود الذكاء. ففي زمن المراجعات الكبرى للذات الذي تمارسه كل القوى الحية في أي مجتمع، وبدلا من أن يناقش مسالة إمكانية هذه المراجعة أو ضرورتها أجاب بلا حياء إجابته تلك. وبهذا يكون قد أسدل الستار وللأبد على أي فكرة لمراجعة ألذات يمكن أن يمارسها يوما ما هذا التنظيم العنصري، والتي كانت تراود، كحلم بعض السذج والمداهنين من الشيوعيين.

هكذا أصبحت، وفق عقلية ومنطق (نو شيروان) المطالبة بالمراجعة هجوما ينبغي الدفاع عن ألذات إزاءه। وبهذا الجواب أكد (نو شيروان) من جديد منطلقاته الاستبدادية والاقصائية التي ميزت تنظيمه الحزبي، وأكد بدون مواربة أن عقل الانفتاح والديمقراطية ودولة القانون الذي يلهج بها إعلامهم وتوابعهم ماهو إلا محض كذب فج. ووفق هذه المعطيات لم يبق أمام العراقيين المعنيين بهذه القضية، كقضية رأي عام، سوى اعتبارها جريمة جنائية وسياسية لا يحق لغير القضاء القول الحسم فيها.

لكن رغم كل شيء ومهما تتغير المواقف تبقى هذه الجريمة ندبة مشوهة في تاريخ الحركة السياسية العراقية ينبغي على الجميع تذكرها لكي لا يمر القتلة।

مقطع قصير فيه جزء من المقابلة

٢٠٠٨-٠٣-٠٩

أحضان دافئة

إن قدرة المثقف على مراجعة مواقفه واستدراك النقص فيها وتصويب خطئها هي واحدة من أهم علامات نضجه. فالمثقف بحكم تكوينه المعرفي يتحرك في فضاء مفتوح من الاحتمالات والتأويلات المتعددة، وهذا يعينه على تغيير زاوية رؤيته وتوسيعها بحسب تطور الموقف وتغير الظروف. وأكيد أن أهم شروط مراجعة الموقف ومراجعة ألذات تتمثل في القدرة على الانفتاح الفكري، والابتعاد عن الأطر الضيقة كالحزبية والطائفية وغيرها من صناديق الأيدلوجية التي تحجر الوعي في ظلماتها. ولكن فضاء الوعي على سعته ليس بدون تخوم تحدد ملامحه، وهذه التخوم هي بالضبط مرجعية المثقف الاجتماعية والفكرية. ومرجعية المثقف العقلاني والديمقراطي هي بالضرورة الإنسان كينونة ومصيرا. وحين يكون الإنسان مرجعية المثقف الأولى ينفتح عندها افقه وتتسع رؤيته بقدر اتساع عالم الإنسان الغني والعميق وبقدر انفتاح افقه.

واقعيا يبدو تحقق هذا القدر من الوعي واتساع الرؤية أمر صعب، فجمهور كبير من المثقفين هم أسرى بنى أيدلوجية، وهذه البنى تفرض عليهم محدداتها من نظرات جامدة للواقع أو تفسيرات وهمية لمساراته ليس أسوؤها نمط المفاهيم التي تفلق الواقع وصورته إلى متقابلات تنعدم في ظلها الخيارات وتغلف العقل فيها معادلة فقيرة تنحصر في ثنائيات شائعة من مثل خير وشر، ابيض واسود وما يشتملان عليه من تلاوين متعددة، فتضيق الخناق عندها على الوعي لترغمه على الانتماء والانحياز لأحد القطبين المتجاذبين.

يمكن رد أشكال الوعي هذه إلى كسل عقلي ينتج رؤية فقيرة للواقع تميل إلى السهل من المواقف والخيارات، وتحكمها نزعة عاطفية وعصبية قبلية جاهلية تدفعها لمحاباة خصم من تكره أو العكس। فخصومة نظام صدام حسين مع أمريكا، قبل سقوط النظام، على سبيل المثال، لم تكن لتلزم المثقف بالانحياز إلى جانب احد الطرفين أو الوقوف معه. كما وقع من إرباكات في المواقف حينها. لان تصارع قطبين لا يعني إن الحق ( أو الخير) عند احدهما. فكلا الطرفين المتصارعين( أمريكا ونظام البعث في مثالنا) هما خصمان وعدوان للشعب العراقي ولحقوق مواطنيه وبالتالي يكون من المنطقي الوقوف ضد الطرفين معا. أي الجمع بين مخاصمة الطرفين. وكذلك هو الحال في ظروف العراق الحالية، فطالما أن لإيران مطامع وتدخلات مؤذية في الشأن العراقي، لا يعني ذلك أن العداء أو الرفض لهذا التدخل يستلزم إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين ولنظامه.كما فعل البعض، فرفض العملية السياسية والمشتغلين بها لأنهم سيؤون وغير أكفاء أو عملاء ولصوص، وقل بهم ما شئت، لا ينبغي أن يفضي إلى إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين أو لنظامه أو لحزبه الفاشي. لان التاريخ قال كلمته الأخيرة، مرة واحدة والى الأبد؛ في شخص صدام حسين ونظامه وحزبه. وعليه مهما يختلف المرء مع البدائل التي جاءت على أنقاض نظام صدام حسين لا ينبغي أن يسمح لنفسه بموقف يعيد فيه الاعتبار لهذا النظام. كما أن صدام حسين، بصفته الشخصية وبصفته ممثل النظام ورمزه، لم يغير من مواقفه ولم يبد أي شعور بالندم أو التراجع عن ما قام به، بل على العكس كان يفاخر بصلافة بما ارتكبه من جرائم ويبرر أفعاله وكأنها تحصيل حاصل وأمر بديهي. وكذلك لم يفعل البعثيون شيء يعبر عن ندم أو تراجع لكي يفكر من فكر بالتراجع عن حكمه عليهم بسبب صراعه مع النظام الجديد ونقمته عليه. ولان العراق، الوطن والإنسان، اكبر من كل هذه الأقطاب التي تتصارع لمصادرة حقوق إنسانه وسلبه إرادته، عليه فان موقف المثقف الحقيقي هو في الانحياز الدائم لهذا الإنسان ولهمومه، ولا ينبغي - حسب هذه الرؤية ـ لأي مثقف أن (يشطر) مواقفه بطريقة كاريكاتورية ويتقلب في المواقف من أول خيبة أمل في واقع كان من المفترض به، لكونه مثقف يمتلك أدوات معرفة، أن يستشرفه ويفهم خفاياه. كذلك ينبغي التذكير هنا بان هوية صدام حسين العراقية لن تبرئه من أي جرم ارتكبه، كما ان عراقية صدام حسين لم تكن مثار نزاع بين العراقيين أو سببا لحكمهم وتقييمهم عليه وعلى نظامه، لهذا لن يضير العراقي أي شتيمة تطلق على صدام حسين لان عراقيته، بتقديري، ليس فقط لا تشرف العراقيين بل وتخجلهم أيضا. لكن يبدو أن عقلية الموقف الذي تخلقه الخصومة وليس المبادئ والتحليل العلمي تستريح كثيرا لأحكامها العاطفية المنفلتة من عقال المنطق، ولا تجد لمواقفها منطلق ابعد من غضبة المزاج المنفعل، ولا تستريح او تشعر بأمان إلا في ظل حائط حزبي تستفيء به وكأنها بهذا كطفل تائه يبحث عن حضن دافئ يهدئه. لذا لا يستغربن احد أو يبتئس إذا ما عثر بين فينة وأخرى، ولدى هذا التيار أو ذاك، على شخص يمارس نوع من الارتداد العقلي والعاطفي يدفع البعثيين، المنقبين في قمامات المواقف الرديئة، على الابتهاج به والفرح بعودته لأحضانهم (الدافئة).