٢٠٠٧-٠٩-٢٥

حديث التقاعد

منع هذا المقال من النشر في موقعي ينابيع العراق والحوار المتمدن
***


ترسخت ولمدى طويل في المخيلة الشعبية العراقية صورة القة للشيوعيين العراقيين باعتبارهم مثالا متقدما للالتزام المبدئي سياسيا والأخلاقي اجتماعيا. وكذلك عُرف الشيوعيون العراقيون، في هذه الصورة، بقدراتهم الكبيرة على التنظيم الجيد لكل شؤونهم سواء في التنظيم الحزبي او في الحياة اليومية حينما ترغمهم الظروف على التجمع، كما في السجون على سبيل المثال( مكان تجمعهم ألقسري التقليدي) مما يقتضي منهم جهدا لتنظيم شؤونهم وإدارتها.

هذه القدرة على الإدارة والتنظيم انسحبت من تجربة السجون التقليدية إلى تجربة الأنصار الشيوعيين(1979-1988) لتشابه الظروف، لكن تجربة الأنصار كانت مختلفة من حيث التركيب والإدارة وجو العلاقات، وذلك لطبيعة الحركة وتركيبها ومهامها والدور الذي أدته.

لقد قدمت هذه التجربة الكثير مما يفخر به الشيوعيون والأنصار منهم بشكل خاص. ومن بين أهم وابرز تلك الأشياء التي تدعو للفخر هي، بالإضافة إلى نكران ألذات والحميمية والحرص المتبادل بين الأنصار، حالة المساواة في الحقوق بين الجميع، وفي جميع تفاصيل الحياة اليومية. فكان جميع الموجودين هناك ينالون نفس النصيب والحصص من الطعام واللباس والفراش والمساعدة المالية وبنفس الكيفية والآلية ودون أي تمييز من ابسط نصير إلى اكبر قيادي. وذلك على العكس عما كانت عليه أوضاع الأحزاب القومية الكردية التي كانت تمارس في حياتها الداخلية قدرا واضحا ومخجلا من التمايز بين الأفراد والقيادات. ورغم أن هناك أمثلة سيئة لشيوعيين، قادة وكوادر، مارسوا نوع من الاستغلال لمناصبهم مستغلين بساطة بعض الأنصار المتحدرين من خلفيات اجتماعية وثقافية بسيطة، أو بعض المتملقين، الذين لا يخلوا منهم زمن ،الساعين عن هذا الطريق إلى نيل الامتيازات أو لأغراض أخرى غير أخلاقية على العموم. ـ وكانت هذه السلوكيات بعمومها موضع نقد واعتراض من قبل القاعدة الحزبية؛ أقول رغم هذه المظاهر الرديئة إلا انه ظهرت في مقابلها سلوكيات وشخصيات تستحق التقدير والاحترام كسلوك وشخصية الفقيد ثابت حبيب العاني( أبو حسان) عضو المكتب السياسي، على سبيل المثال، الذي كان مثالا رائعا للبساطة والصدق والالتزام الأخلاقي والروح الرفاقية العالية( وهذا الإنسان الرائع يستحق وقفة خاصة لتنصفه وتبرز فرادته). وتجنبا للإطالة أقول إن هذا السلوك المميز في حياة الأنصار لم يأت فقط نتيجة لخصلة زرعتها التقاليد الحزبية والقيم الايجابية التي تربى عليها الشيوعيون العراقيون على العموم وإنما أيضا لمستوى من الرقابة والنقد الذي كان يمارس من القاعدة الحزبية والأنصار والذي عزز بدوره من هذه الروحية وأعاق بعض التجاوزات أو على اقل تقدير لم يتركها تمارس شذوذها بجو مريح.

لكن يبدو أن هذه الخصلة الجيدة التي ميزت الشيوعيين العراقيين وبشكل اخص الأنصار في طريقها، للأسف الشديد، للزوال। إذ بدأت تبرز إلى السطح ممارسات تعكس عقلية وروحية مناقضة لما عهده الناس ورسموه في مخيلتهم عن الشيوعيين. وابرز واهم ضربة وجهت لميزة المساواة المحببة هذه جاءت مع ولادة فكرة الحقوق التقاعدية للأنصار. فقد ظهر للأسف ما يشبه التماهي والانسجام مع سلوك القوى القومية الكردية الناشئ من طبيعة عقليتها القائمة على التمايز والتفاضل بين أفرادها، تلك النظرة التي ضاعفتها مرات في العدد والنوع وصول هذه القوى إلى السلطة السياسية وتمكنها من ثروات المجتمع؛ فاستثمرتها في شراء الأصوات والولاءات والضمائر والأقلام التي طالت بعض الشيوعيين العراقيين العرب. ومن بين ابرز ملامح انتهاك عقلية المساواة التي اجترحها الشيوعيون العراقيون في حياتهم الداخلية هو منح الحقوق التقاعدية على أساس تسلسل عسكري هرمي لم يقصد منه في حياة الأنصار الواقعية حينها منح امتياز لهذا أو ذاك ممن يتبوءون هذه المراكز التي كانت في حقيقتها مهمات صعبة وحساسة وتثقل كاهل من يتحملها. وان ظهر هنا وهناك من يسعى لهذه المواقع للوجاهة أو لدور يطمح إليه إلا إنها ظلت في حدود المهام المكلفة وليست مجالا للامتيازات حتى جاءت فكرة التقاعد، فصارت الألقاب العسكرية حدا فاصلا فرق ومايز بين الأنصار الذين هم مناضلون بالأساس وليسوا جنودا في جيش بيروقراطي هرمي التشكيل. وهكذا نشأت فروقات واسعة بين المناضلين برواتبهم التقاعدية ولحدود كبيرة تصل لبضع أضعاف عما يتقاضاه نصير آخر لم يمارس مهام قيادية. والخطأ هنا لم يقتصر على ابتكار وصنع هذه الهرمية المضحكة وإنما وصل لطريقة توزيع الحقوق فحصل وفق هذا التقسيم البائس للأنصار المناضلين من لا يستحق وحرم بعض ممن يستحقون. وأكثر ما يبعث على المرارة والسخرية هو رفع رتب بعض الرفاق الذين درسوا في دورات عسكرية في اليمن الجنوبي وأصبحوا ما اصطلح عليه آنذاك ضباطا ـ كان الكثير منهم ومن بعض المسؤولين يصر على تلقيبهم بالملازمين ـ وهي تسمية أثارت بعض الامتعاض لأنها من ترسبات عقلية بيروقراطية تحتفي باللقب وتزهو بالرتبة.

وهؤلاء الملازمون رقوا تقاعديا وبجهد من احد قيادي رابطة الأنصار إلى رتبة عقيد وصار تقاعدهم أضعاف ماياخذه النصير العادي الذي تطلق عليه تسمية مثيرة للسخرية (مؤهل). وفي حين بذل رئيس الرابطة جهده ليوصل مراتب ضباطه إلى عقيد انفرد هو برتية فريق أول. مع إن هيكل حركة الأنصار لم يكن يحتمل هذا المستوى من الرتب العالية.

ولم ينته الأمر عند هذا، ففي الوقت الذي يتم فيه حذف أسماء بعض الأنصار المناضلين لاختلافات فكرية يمنح التقاعد لأفراد لم يكونوا أنصارا في حياتهم ولم ينتموا للحركة مثل احد أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي المقيمين في السويد، الذي حصل على راتب تقاعدي أنصاري، بينما هو قضى الفترة التي نشطت فيها الحركة في إحدى البلدان الاشتراكية للدراسة (متنعما) فتخرج دكتورا في الاقتصاد، وبهذا يكون قد حصد المنافع في كل الأزمنة. هذا بالإضافة إلى منح ابن احد قيادي الرابطة وأقاربه رواتب تقاعدية أنصارية وهم لم يكونوا أنصارا بطبيعة الحال. ولا يجدر بنا هنا نسيان أن هناك من اخذوا حقوقا تقاعدية أسرع من غيرهم وبعضهم مع رتبة عسكرية لمضاعفة تقاعده وهو لم يمارس أي مهمة قيادية في حياته الأنصارية. والبعض من هؤلاء كان مروره في حركة الأنصار مرورا عابرا( كان الأنصار يسمونهم ساخرين (ترانزيت)).

هنا يتحول الخطأ، بتقديري، إلى خطيئة لارتكابه إثمين مركبين، أولهم، تقسيم الأنصار وخلق التمايزات المفتعلة بينهم. وثانيهم، منح من لا يستحق هذه الامتيازات؛ والأكثر منح من ليس له الحق بالراتب ألتقاعدي أصلا كما تمت الإشارة إليه قبل قليل.

لنتساءل هنا:
هل سيجرؤ هؤلاء على الحديث والنقد للفساد والنهب الممارس على قدم وساق في مؤسسات الدولة العراقية ومؤسسات الحكم الكردية؟!!!.
سبق هذا، وربما يكون قد مهد له، سلوك مريب وغير مشرف؛ ويمثل انتهاكا صارخا لقيم نكران ألذات والإيثار التي عرف الشيوعيون بها؛ من قبل مسؤولين في الحزب بمستوى أعضاء لجنة مركزية صارت لهم مصالح تجارية كبيرة( احدهم على سبيل المثال خسر في مشروع واحد ما مقداره 15 مليون كرونة سويدية أي مايعادل2 مليون دولارا وهو شخص معروف بامكاناته المادية المحدودة قبل الاحتلال، ورغم هذه الخسارة إلا انه لا يزال يملك فندقا كبيرا في مصيف شقلاوة، هذا عدا تجارته المستمرة في السويد) ما اقصده من هذه الإشارة هو إن مصدر البلاء موجود( هناك في الأعالي).

وقبل هذا كانت الواقعة المخجلة بانفراد أعضاء اللجنة المركزية للحزب ممن كانوا في الحركة الأنصارية آنذاك بالحصول على رواتب تقاعدية بدرجة وزير في الدولة، مع قطع أراضي وإمتيازات أخرى.

فماذا تبقى من روح المساواة وتواضع ونزاهة الشيوعيين إذن؟ ولننسى المبداية التي لا مجال للحديث عنها في هذا المقام.

هناك أيضا مسالة على جانب كبير من الأهمية وهي التساؤل حول الدافع الفعلي الذي يكمن وراء موافقة الحكومة الكردية على منح رواتب تقاعدية للأنصار واهتمامها الملفت بالشيوعيين العراقيين العرب، والذي ظهرت علاماته القوية بحضور الأخ مسعود البارزاني لحفل افتتاح المهرجان الثقافي الذي عقدته الرابطة هذا العام.

قد نجد الإجابة على هذا التساؤل في مراجعة سلوك الحكومة الكردية وأحزابها التي سعت منذ البدء، على خلفية صراعاتها الداخلية ولهفتها للاستئثار بالحكم والموارد، لتوسيع رقعة مؤيديها من المثقفين والسياسيين العرب لأغراض خاصة بمشروعها السياسي القومي. حيث سعت لتحقيق هذا الهدف بشراء مباشر لبعض الأقلام لشيوعيين عرب وعينت بعض الوجوه كمستشارين وموظفين كبار في مؤسساتها وربما تكون مسالة الحقوق التقاعدية هي جزء من هذه الاستراتيجية. وفعلا بدأت تظهر بعض علامات جني الثمار كان ابسطها، مع عدم أهميته، هو تحويل الضمة إلى حرف واو في إملاء مفردتي كردستان والكرد من بعض الكتاب العرب ومن بينهم الأنصار، وهي ظاهرة تتخطى، برأيي، حدود كونها مسالة إملائية وذوقية إلى ماهو ابعد من ذلك. كما يمكن وبسهولة ملاحظة غياب أي موقف نقدي لسلوك الحكام الكرد من قبل هذه الأقلام، وإن وجد فعلى استحياء وبحدود المتاح والرسمي. ومن العلامات أيضا وجود صورة ملا مصطفى البارزاني في صدر قاعة الاحتفال بالمهرجان الثقافي للأنصار الشيوعيين بينما غابت صور قادة الحزب الشهداء كسلام عادل وفهد وزكي بسيم والشبيبي وغيرهم التي اعتاد الشيوعيون على وضع صورهم بالمقدمة في مناسباتهم وفعالياتهم. وأيضا محاولة احد الأشخاص وضع صورة الملا مصطفى في مقر الحزب الشيوعي الكردستاني في اربيل، لكن قيادة المقر رفضت. ولا احد يمكنه الجزم من أن هذه المحاولة لن تتكرر وان الرفض سيكون هو الرد مرة أخرى.

هذه أمثلة قد تكون موحية بما اذهب إليه من تعليل لسبب اهتمام الحكام الكرد بالشيوعيين العراقيين العرب. اكرر كلمة الشيوعيين العرب لان الشيوعيين الكرد للأسف تحولوا لدى الحكومة الكردية، حسب وصف احدهم لتنظيمهم، إلى ما يشبه حزب هاشم عقراوي( الديمقراطي الكردستاني) في عهد فاشية صدام حسين.

الجميع يدرك الآن إن الوقت بات متأخرا لمعالجة هذه الإشكالات، وإذا ما توفرت النية والإرادة لمعالجتها، فتجب العودة حينها للخطوة الأولى ليمكن معالجة الأسس الخاطئة للمسالة وبطريقة جذرية. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن لهذه الإشكالات والممارسات آثارا سلبية، ربما تكون وخيمة في المستقبل، على المستوى العملي والتربوي في منظومة الحياة الداخلية للرابطة وللشيوعيين، على مستوى طبيعة العلاقات الداخلية التي تنظم وتسير شؤونهم اليومية عموما، هذا دون التغاضي عن آثارها الحالية لما تركته أو سوف تتركه من إحساس كبير بالمرارة لدى الكثيرين لفقدان اعز شيء تميز الشيوعيون به ومنحهم جدارتهم في زمن ما، وهو التزامهم بقيمهم الأخلاقية العالية التي تربوا عليها.


1-9-2007

هناك تعليق واحد:

karim يقول...

للتصحيح كل 1000000 كرون سويدي يساوي 145000 دولار تقريبا و ليس كما ذكرتم في المقال 2000000 دولار
مع التحيه