٢٠١١-١٢-٠٤

كذاب.. كذاب

تعليق كتب بتاريخ: 2011/11/3        

***
 
اللحظة الاشد(عنفا) في نضال الطالباني ضد صدام حسين 

جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق، رئيس ملتبس العلاقة بدولته التي يراسها، فهو  يتنقل ببهلوانية ثقيلة، بحكم بدانته، بين طموحاته القومية، الديماغوجية، وبين الرغبة الملحة في ان يخلده التاريخ ( الاحمق) كـ (قائد) متخطى لزمانه ومكانه. لذا هو  يتقلب، بخفة، بين العالمي، والقومي، والوطني، من دون ان يكون مقنعا في اي منها.
.
 هذا (الرئيس) (الديمقراطي) حد البقاء على راس حزبه عقود طويلة، والتصرف بمقدراته كاقطاعة شخصية، و (الانساني) حد ارتكاب القتل على الهوية، له مساوئ كثيرة، اهمها؛ عدا استسلامه اللا ارادي للنوم امام الكاميرات، فهو ايضا كذاب... رغم ان لمعان هذا اللقب كان قد سرقه منه نوري المالكي، بعدما لحنه له شباب ساحة التحرير  منغما بايقاع جذاب
.
مع باقي الفريق (الثوري)  فؤاد معصوم
ونوشيروان مصطفى امين
 جذاب، جذاب... الخ، تذكرون اللحن؟!!)

كذبتان مافتئ الطالباني يصر عليهما. تركه السياسة ( السلطة) وتفرغه لكتابة مذكراته. وهذه كذبة عمرها عقود طويلة.. والاخرى، الادهى، هي نضاله الصعب والطويل، غالبا مع زلماي خليلزاد، ضد نظام صدام حسين... لكن الكاميرات لم تصدق كلامه. وقالت اشياء اخرى. والتقطت له هذه الصور الفاضحة.

 الا لعن الله مخترع الة التصوير... وكل مصور  على الكرة الارضية. 


٢٠١١-١١-٢٨

سروال المغاوجة ومحنة دكتور فارس



***

ذكريات انصارية.

***

أتساءل بشعور لايخلوا من بعض المرارة: بأي مكاييل تكيل الحياة حينما توزع حظوظها على الناس؛ حظوظ الفرح، النجاح، الغنى، الخيبة، الموت، التيه، المنفى... لمَ تخص ناس بكل جمالها وخيرها وتبخل على آخرين بما جادت به على غيرهم؟.

أتراني واهما فيما قلت؟.

لاادري.

رايته على إحدى القنوات الفضائية الكردية. أزحت الكتاب جنبا حينما تعرفت عليه وأخذت أصغي لما يقول. كان كعادته، طلق اللسان، متحمس، ذكي، و...نحيف. فهمت من كلامه، بعدما ترجم لي بعضه، بأنه يرأس لجنة الاستفتاء على استقلال كردستان، وهي منظمة أنشئت برعاية رسمية من الأحزاب القومية الكردية لتقيم خطا موازيا غير رسمي لمواقفها ولتجعل منه قاعدة شعبية عامة تنطلق منها في تحديد معالم مشروع الانفصال الذي تطمح إليه وتخطط له. عدت بذاكرتي لأيام لقائي الأول به عند التحاقي بحركة الأنصار. هو يكبرني بأعوام قليلة، لاتشكل أهمية أو فارقا مهما بيننا في زمن آخر، لكن في مقتبل العمر يكون للفوارق البسيطة، بعض الأحيان، أهمية. كان جامعيا، وواسع الإطلاع أيضا، وبهذا فهو قد تموضع رسميا وعرفيا في (سلك) المثقفين. ولتميزه هذا كان رفاقه الأكراد ينادونه (ماموستا)، أي الأستاذ، وهو لقب يطلقه الشعب الكردي، بتعميم واسع، على المثقفين والمتعلمين والملالي أيضا. كنا أندادا ،هو وأنا، في نقاشاتنا ومجادلاتنا، لم نختلف إلا نادرا، لان جل نقاشاتنا كانت ذات طابع تجريدي، نظري، وعمومي، ولأننا لم نختلف في الرأي... صرنا أصدقاء. لكني أقول أصدقاء تجاوزا لان هناك (حاجزا) تاريخيا يعزل بيننا، ويجعل الصداقة بيننا مشروعا متعثرا، هو يراه ويصنعه بعفوية وأنا أخذت مذاك اشعر به.

هو كردي وأنا عربي.

هذا هو الحاجز !!!

وهذا فارق ثقافي وعرقي، وسيغدو لاحقا فارقا وطنيا أيضا.

عرفت منه انه كان طالبا في هندسة بغداد، وعرفت عنه، لاحقا، من احد الأنصار ممن كانوا معه في الكلية، انه كان قوميا متطرفا وله مواقف متشنجة من الشيوعيين. آنذاك كان الشيوعيون في الجبهة الوطنية مع سلطة البعث، وقاتلوا إلى جانب الحكومة ضد الحركة الكردية المسلحة التي سميت حينها بـ (الجيب العميل).

(
الجميع قد شارك بإراقة دماء الجميع !!).

لكن من البادي ليكون الأظلم؟.

بعد فشل الحركة المسلحة في عام 1975 تغيرت الأوضاع النفسية والفكرية عند شباب الأكراد؛ لجأ كثير منهم لمعاقرة الخمر لكي ينسوا، بينما لجأ آسو، وهذا اسمه الحركي، إلى الشيوعيين بعدما تخلصوا من وقر الجبهة المزعجة مع السلطة البعثية وحملوا السلاح في الجبال.

سيثبت آسو لاحقا اسمه الحركي اسما رسميا له بدلا عن اسمه الحقيقي لان في الأخير اثر عربي. وهذا الأمر بات مألوفا بين بعض الأكراد، لان كثير منهم، صاروا يبدلون، في حمأة الغلو القومي وتفقع الهوية القومية، بأسمائهم التي لها رائحة إسلامية أو عربية اسماءا كردية صرفة.

عبّر آسو في سلوكه وآراءه بأكثر من مناسبة عن ميول لتعصب قومي لاتتناسب مع مااعتدنا عليه من سلوك في أجواء التربية الأممية التي تربى عليها الكثير من الشيوعيين العراقيين. رغم هذا فهو كان الفتى المدلل لقيادة الفصيل، وحظي بالكثير من (الامتيازات) وفروض الاحتفاء. ولمن لايدري أقول: إن قيادات الفصائل في بدايات الحركة الأنصارية، لمحدودية التشكيل العسكري، كانوا من الكوادر الحزبية المتقدمة، لكي لايقال إن سلوك التمييز كان سلوكا لإفراد غير واعين.

للأسف، مع سلوك آسو وآخرين سأكتشف أن الأنصار العرب كانوا (مكروهين) فقط لكونهم عربا وليس لشيء آخر، رغم انتماءهم ودورهم وسلوكهم. لقد كانت هناك تعبئة نفسية ديماغوجية تماهي العرب جميعا بأنظمة الحكم القمعية التي تصادم معها الأكراد في صراعهم القومي. قد يكون ذلك ناتجا عن تأثير الدعاية التي تشحن بها الأحزاب القومية النفوس. وبلا شك أيضا بسبب المعاناة التي عاناها الأكراد من الممارسات القمعية الشوفينية التي مارستها ضدهم الحكومات العراقية المتعاقبة. وهذا كله قد يشرح لكنه لا يبرر. صحيح إن هذا لم يكن شعورا ولا سوكا معمما لدى جميع الأكراد ولكنه كان، في المستوى الشعوري على اقل تقدير، هو موقف لكثيرين، لاسيما وسط

الأجيال المتأخرة. وهناك أمثلة عديدة لو دخلنا بها سنغرق الموضوع بتفاصيل ترهقه وتحرفه عن اتجاهه.

وبالتأكيد على الضفة الأخرى، العربية، كان هناك من يمارس سلوكا فيه ترفع شوفيني...

لكن هذا جزء من الصورة وليس كلها. هناك سوءات ونواقص ومشاكل أخرى عديدة كالمناطقية، حينما ينحاز أبناء محافظة لأنفسهم ويتخندقوا ضد غيرهم بعصبية فاضحة... وأشياء أخرى.. لكن بمنظور شامل فان أجواء علاقات الأنصار بعمومها سليمة، وفيها الكثير من الصدق والحميمية والإخلاص.

إن مفردة امتيازات التي ذكرتها في الفقرة السابقة هي تعبير شبه مجازي، لان حياة الجبل، المتقشفة والجافة، ليس فيها مايمكن اعتباره امتيازا، ولكن أيضا، ولتقشفها ولخشونتها، يمكن اعتبار ابسط الأشياء فيها بمثابة امتيازات: موقع الخيمة، بطانية مختلفة، بالصدفة، عما لدى الآخرين، وأحيانا (حظ) حمل الأغراض على بغل وليس على الظهر.. والخ.

لكن امتيازات آسو هي من نوع آخر. كان آسو الرقم المشترك في كل فعالية يُطلب من الفصيل تقديم مشارك فيها: دورة عسكرية، تنقله إلى مكان آخر، يغير جو ويعيش أياما مختلفة النكهة مع أنصار آخرين ويتخلص من ضنك ضيق المكان وتكرار الوجوه، دورة جهاز لاسلكي، دورة حزبية مصغرة، ندوة مطلوب حضور عدد معين من الأنصار فيها... وغيرها من الأشياء... لكن بالطبع ليس أن يرسل إلى الإدارة المركزية، مثلما يرسل غيره للعمل الثقيل والعزلة أسبوعا كاملا. فهذه تكون من نصيب آخرين تختبر (ثوريتهم) في مثل هكذا أعمال.

هذا التكرار والإلحاح على إرسال آسو في كل الفعاليات خارج الفصيل، التي تقدم للمشترك فيها شيئا من التميز على الصعيد المعنوي، دفعت احد الظرفاء (وهو غير مشاكس رغم ظرفه) لان يطلق عليه لقب (سروال المغاوجة). وقصة هذا اللقب هو أن قبيلة المغاوجة، ويبدو أنها قبيلة فقيرة،كانوا لا يملكون سوى سروالا واحدا فقط، وأي شخص منهم يسافر إلى المدينة، بمهمة ما، يرتدي هذا السروال... وآسو كان للفصيل مثل سروال المغاوجة هذا.

وأعود مرة أخرى إلى الفضائية الكردية وآسو ضيفها يقدم شروحا عن أهمية الانفصال وعن مهام لجنته التي ينشط فيها في إتمام هذه العملية (وهو قد ألف كراسا بالعربية بهذا الصدد أيضا). ووجود آسو في لجنة بهذا الحجم، وهي لجنة تتبع للحزب الديمقراطي الكردستاني، رغم محاولة إضفاء الصفة الشعبية والديمقراطية عليها، وجود آسو في هكذا لجنة يدلل على نوع من المكافأة له لكفاءته، وهو كفوء، ودليل على عدم السخط عليه من (ثلمة) ماضيه الذي صار فيه لبعض الوقت شيوعيا بنفس قومي صرف.
اخبرني صديق كردي حينما أخبرته عما شاهدت بأن آسو اخذ يصلي ويصوم ايضا. أي انه قد أتم مستلزمات عودته (البارتية) كلها.

هل كان في بعض من مالقيه آسو من ترحيب واهتمام خاصين لدى الشيوعيين شيئا من روحية (المؤلفة قلوبهم)؟.

تحوطا أقول: لاادري.

لكن في نهاية السبعينات كتب فخري كريم مقدمة لكتاب (تحت أعواد المشانق) ليوليوس فوتشيك، الزعيم الشيوعي الجيكي الذي اغتاله رجال الغوستابو النازيين، عنف فيه وندد بعنف بمن اسماهم (من عرف الطريق وحاد عنه). قال بعض العارفين أن تلك المقدمة كانت إدانة لمن انهار في أقبية الأمن البعثية في حملتها الأخيرة على الحزب الشيوعي أواخر السبعينات. لكن هذا السلوك، معاقبة من كان( على الدرب) سيبقى مثل العقيدة لدى الشيوعيين العراقيين، وبقوا يعاملون رفاقهم القدامى، ممن صاروا، لأسباب مختلفة، خارج التنظيم، بجفاء وتعالي غير مبرر. مع انهم يعاملون (الغرباء) بقدر كبير من المحاباة، بل واحيانا التملق.

ليس في حكاية آسو ماهو غريب أو مستهجن لو إن الحياة قد وزعت حظوظها بطريقة عادلة، ونال (دكتور فارس)، بطل السطور القادمة، ماناله آسو أو على الأقل لو مرت تجربته بدون مامرت به من ضروب الالم والمعاناة.

دكتور فارس لم يكن دكتورا !!. هو مضمد حاذق، لكن في القرى الكردية الفقيرة، التي لاتصلها الخدمات ولا يعنى بأمرها احد، لقبوه بـ(دكتور فارس) لاعتنائه بهم وتقديمه الخدمات الطبية لهم.

حينما التقينا بدكتور فارس فوجئنا بسلوكه بقدر ماارتحنا له. مارس معنا، ومع الجميع، سلوكا ديمقراطيا. كان متفتح العقل، مرن الذهنية، سهل في سلوكه، وهو كادر حزبي أيضا، لكنه لم يمارس أسلوب إملاء الأوامر. كان يطرح أي شيء يخص حياتنا اليومية أمامنا وعلينا للمناقشة، أو يدعنا ببساطة نقرره طالما هو يمسنا، على العكس مما كان عليه الوضع في الفصيل الذي كان آسو فيه (سروالا للمغاوجة) حيث كان يُمارس هناك، مع الجميع، أسلوبا امريا شبه فوقي وطرق تعامل حادة بلغت مع احد الأصدقاء حد يقترب من الاضطهاد. لأسباب اجهلها، لكنها لاتتعلق بانتمائه القومي. ربما كانت لمواقف معينة، أو حساسيات شخصية، لاادري.

ربما كان ذنب دكتور فارس انه عاش حياته السياسية زمن الاحتدامات الأيدلوجية وتجذر النزعات الراديكالية في الحياة السياسية العراقية. كان عضوا متقدما في الحزب الديمقراطي الكردستاني، فقد كان رجلا واعيا، ذكيا، ومثقفا، وقدر الأذكياء المعاناة حينما يولدون في ظروف شائكة. وفي عام 1958، أثناء المد اليساري الشيوعي في العراق، حدث عنده تحولا فكريا، فغير انتمائه الحزبي، بعدما غير أفكاره عن قناعة، وانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي.

اضطُهد كثيرا، نفسيا وجسديا، بسبب قراره هذا. لم يسامحه البارتيون على ذلك، واعتقلوه أواسط السبعينات، أيام الصراع بين الشيوعيين والبارتيين في مناطق كردستان حينما كان البارتيون قوة وسلطة هناك، وأودع سجن (رايات) الشهير. عُذب واهين. كانوا، مثلا، يوقفونه معلق اليدين اوقاتا طويلة. وحدثنا بمرارة عن الإهانات التي تعرض لها على يد بيشمركة البارتي.

بعد حملة إعلامية كبيرة خاضها الحزب الشيوعي في إعلامه أفرج البارتيون عن دكتور فارس فنقله الحزب للبصرة ليبعده، بعض الوقت، عن المنطقة المتوترة، فحل ضيفا، كما قال لنا، في بيت القاص الراحل عبدالجليل المياح الذي أعدمه البعثيون عام 1982. والمياحي هذا رجل نقي السريرة وبطيبة قلب لاتخطئها البصيرة. التقيته ذات مرة في سوق جمعة البصرة حيث كان كلانا يبيع بعض من كتبه الفائضة، وليس من معرفة شخصية بيننا، سألته متوقدا بحماسة الشباب وبتورية مكشوفة:
هل بيعك لكتبك دلالة لتحول فكري؟.

أجاب بصلابة مازجها حياء بصري:

كلا، ليس تحولا فكريا. لكنها كتبا مكررة.

ومحنة دكتور فارس هي إن البارتيين، زمن اللاتسامح، عاقبوه وحاربوه لأنه تخلى عنهم وارتمى في أحضان خصومهم. والشيوعيون كانوا بدورهم يشككون بإخلاصه الاممي، فهو عندهم ليس شيوعيا نقي الدم. وهكذا عاش محنة من لايرضى عنه قومه أينما كان وكيفما كان.

وبقيت اللعنة تطارد دكتور فارس رحيم حتى موته في عام 1982.

لااظن أن دكتور فارس قد حورب داخل الحزب الشيوعي بسبب انتمائه الحزبي القديم، أو لظنون بميول فكر قومي ( تحريفي) لديه، فهو كان من بين أكثر الشيوعيين شعورا وممارسة أممية، بمفهومها العراقي البسيط، دع عنك أن هناك كادرا حزبيا وقياديا في الحزب، في مواقع مهمة ومسؤوليات كبيرة، كانت لهم أفكارا وميولا قومية صريحة، ولم يُمسوا. لكن سبب السخط عليه، بظني، مرده لأفكاره ولمواقفه الاعتراضية الناقدة ومشاكساته المتواصلة للقياديين، وهذا أمر بديهي لأنه لم يكن ضعيف الشخصية ليقبل بما يملى عليه...

في الذكريات عن دكتور فارس أشياء كثيرة ظريفة تستحق الذكر، فهو من أهالي السليمانية المعروفين بحس النكتة والسخرية المرحة، وكانت له (صولات) مغيظة مع بعض الكوادر القيادية،(خصوصا مع الشيخ – الطفل، مام رسول، صاحب الضحكة الطفولية البريئة). لكنني لن أسترسل فيها تجنبا للإثقال ومراعاة لراحة من يقرأ.

واستمرت لعنة سوء الظن تلاحق دكتور فارس حتى بعد أكثر من عشرين عاما على رحيله.

ففي عام 2005 كنت في زيارة لمدينة السليمانية، المدينة المزدهية بجمال عزلتها الجبلية، والمستريحة في ظلال عذوبة أزمر، مررت في احد شوارع المدينة وشاهدت صورا قديمة في الواجهة الزجاجية لأستوديو (رفيق). فدخلت أشاهد واستمتع بجماليات الأسود والأبيض، وماسجلته عدسات الكاميرا المرهفة من تراث المدينة. حينما دلفت إلى الأستوديو شعرت وكأني قد مرقت من زمن لألج زمنا آخر؛ وجوه، وأحداث، وأحياء جمدتها العدسات على وجه الزمن. سألت صاحب الأستوديو، (رفيق)، وهو شيخ حيوي وظريف، ومن منتسبي البارتي القدماء، عن أسماء قديمة معروفة من مدينة السليمانية فصار يتجاوب معي، وحين سألته عن دكتور فارس قال:

اعرفه. انه شخص (حلحلي).

وهي مفردة كردية قديمة تعني، حسبما أتصور، المتقلب واللعوب.

لم اقبل التهمة، دافعت عن صديقي القديم.

سالني:

من أين تعرفه؟.

قلت انه صديقي.

نظر إلي، استغرب فارق العمر، فدكتور فارس مات مسنا منذ سنوات طويلة. قال ضاحكا، وبثقة جازمة، وبعربية جيدة يجيد الحديث بها كبقية أبناء جيله:

لا... هو صديق أبوك.



http://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن

أصوليتان تتصارعان ضحيتهما التاريخ



تشترك الأصوليات عموما، والدينية منها بشكل خاص، فيما بينها بالكثير من الطروحات والرؤى والمواقف حد التطابق في الكثير من الأحيان، رغم أنها تختلف في الظاهر عن بعضها البعض وتتعارض.

وتزداد مشتركات الأصوليين كلما تجاوروا على أرضية اجتماعية وثقافية ووطنية واحدة تضطرم فيها الصراعات وتحتدم بالتناقضات. ومشتركات الأصوليين هي مشتركات في الرؤية ومنهاج النظر لوقائع الحياة بكل تشعباتها وتنوعها، وكذلك للتاريخ وللأفق السياسي للمجتمع. بمعنى آخر إنهم ينطلقون في تفكيرهم وتأويلهم للواقع من بنية عقلية واحدة.

عندنا في مجتمعاتنا العربية تحيا، بتصارع، وأحيانا بتعايش، أصوليات عديدة، أهمها الأصولية الدينية بحكم التنوع الديني لبعض المجتمعات العربية مثل مصر والعراق وسوية ولبنان ..الخ. تصاحبها وتتلازم معها، بعض الأحيان، أصولية أخرى، قومية واثنيه، مع التعدد الديني أو بدونه كما في مجتمعات أخرى يكون تعددها قومي واثني فقط.

الملفت أن الصراع الديني الأصولي، بين المسلمين والمسيحيين، وهو ماسيُركز عليه هنا، لايدور بين النخب بصورة مباشرة، بحكم أن للنخب أوضاعها التي تجعلها تتحفظ على الخوض في هذا الصراع علانية ومباشرة، وإنما يدار عبر وسطاء، لذا أُوكلت هذه المهمة لمتطوعين جعلوا من مسالة الصراع بين الدينين محور اهتمامهم ونشاطهم. مااريد قوله إن ابتعاد النخب عن هذا الصراع في العلن لايعني براءتها وعدم تورطها فيه.

كثيرون لايشغلهم هذا الصراع، ربما لأنه عندهم ليس سوى صراع ديكة غير مسل، لكنهم يعرفون انه موجود وسيبقى طالما بقيت الأديان، غير أن مايهم هو إبعاد تأثيرات هذا الصراع وضجيجه عن وعي عامة الناس لكي لايشغلها عن أولوياتها ويحرف وعيها عن جوهر وحقيقة صراعها الاجتماعي. وما يدفع لتناول هذا الصراع هنا هو كونه يدور داخل منبر علماني وعقلاني _ الحوار المتمدن ـ يفترض في انه يعلي من قيم العقلانية والتمدن، وأيضا لان أطراف الصراع، الديني الأصولي، لاسيما المسيحي، تريد التغطي بهذا المنبر، وبإلباس منطلقاتها الأصولية لبوس التنوير والعقلانية، لتخفي حقيقة أن ماتقوم به هو في حقيقته جهد صريح للتبشير الديني.

ينبغي التنبيه هنا إلى أن هناك فارقا مهما بين الدفاع عن حقوق أقلية دينية معينة ( مع إني أتحفظ بشدة على مفهوم الأقلية، لان الوطن المعافى، برأيي، يتشكل من مواطنين أحرار وليس من ملل)،ـ في سياق هم وطني عام ومشترك؛ وبين الانغمار في صراع ديني إقصائي بطبيعته.

ليس هناك من بين ماهو منشور، على صفحات الحوار المتمدن بشكل خاص، لا نصا محددا ولا كاتبا بعينه، يمكن اتخاذه نموذجا للارتكاز عليه والاستشهاد بكلامه لمتابعة الأفكار التي أريد الحديث عنها هنا، لكن تلك الأفكار والآراء، يغثها الكثير، مبثوثة في نصوص عديدة وفي كم كبير من التعليقات التي عبرت بصورة صريحة، وان تباينت في المستوى، عن أساسيات فكرتها الأصولية. وعلى العموم إن ما اكتبه هنا هو انطباعات وتأملات وليس دراسة... وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من النصوص المبثوثة هنا وهناك لم تعبر عن دعواها التبشيرية المسيحية مباشرة، وإنما اتخذت أسلوب (نفي ضد عكسي) بمعنى أنها ركزت على ماتعتبره سيئات عقائدية وسلوكية لدى المسلمين ونبيهم، لإثبات عكسها، بطريقة مضمرة، في البديل المقترح ضمنيا، أي في الديانة المسيحية فاعتمدت إشارات تستدعي ضدها في المخيلة، مثل:

عنف/ سلام. كراهية/ محبة. تخلف/ مدنية. أصالة/ زيف. شهوانية وفحولة/ لا اعرف في الحقيقة ماهو مضادها عندهم!.

أخذ الصراع منذ البداية طابعا هجوميا من قبل المسيحانيين، ومنحى دفاعيا تبريريا من بعض الإسلاميين. وقد اتبع الجانب المسيحي في هذا الجدل لغة عدوانية تحقيرية ومهينة انتهكت مقدس المسلمين بفظاظة، فيما لم يجرؤ المسلمون على إتيان ذات الشيء، والسبب يعود، بتقديري، إلى أن المسلمين يحترمون، حسب عقيدتهم، مقدس المسيحيين، لهذا فهم قد امتنعوا عن إهانة وتجريح الشخصيات المقدسة لدى خصومهم ،مثل عيسى وأمه مريم. واستطرادا أقول: إن هذا الوضع يذكر بأساليب الصراع السني – الشيعي، حيث يستسهل الشيعة المس بشخصيات الصحابة المقدسين لدى السنة، فيما لايستطيع هؤلاء فعل ذات الشيء مع خصومهم، لأنهم يقدسون أيضا مايقدسه غرمائهم. وهذا يجعل شروط الصراع (ألشتائمي) غير متكافئة. لكن هذا شان آخر.

ركز المسيحانيون في هجومهم على المسلمين على شخص نبي الإسلام محمد بهدف واحد وحيد هو نفي النبوة عنه. وهذا أهم دليل على نفي العقلانية والتنويرية التي حاول هؤلاء أن يتلفعوا بها في (نقدهم)، أو قل هجومهم، على المسلمين. لان أي متتبع يعرف أن العقلاني لاتشغله مسالة إثبات نبوة نبي ونفيها عن آخر، ففي المنطق العقلاني، كما افهم، شيئان؛ إما توجد نبوة أو لا توجد. فحينما تنفى نبوة محمد، أو أي نبي آخر، ينبغي منطقيا نفى النبوة عن أي نبي آخر. وهكذا. وفي هذا يكمن الفارق الجوهري بين منطق عقلاني، يرى أن للأديان بنية عقلية ومنطقية مشتركة تجمعها، وبالتالي تمكن من نقدها جميعا من هذا المنطلق، وبين دعوة دينية تبشيرية تريد نفي نبوة لإثبات أخرى.

وُصِف محمد في هذه الهجمات بأنه؛ لص، ودعي، وكذاب، وجاهل، وعنيف، وشبق وغيرها من الصفات والشتائم. ووصف قومه بأنهم متخلفون وصحراويون همج لايعرفون في الحياة غير منهج الغزو والنهب لخيرات شعوب رفيعة وذات حضارة وعقائد سامية مسالمة وخيرة.. الخ.

وكان الانشغال الثاني لهذا ( النقد) قد صب في محاولة إثبات إن كل مشاكل العقل الإسلامي والإنسان المسلم عبر التاريخ تكمن في مصدر واحد هو موروثه النصي؛ القرآن والسّنة.

وفي مناقشة هذا أقول: ليس هناك وفق المنطق الجدلي، الذي أثبتت وقائع الحياة جدارته، لا فكرة ولا عقيدة ولا مذهب أو مفهوم لايخضع لحركة التاريخ وتغيرات الواقع. ليس هناك نصا أو قيما خالدة تتخطى الزمان والمكان. كل شيء يخضع للتبدل بحسب تبدل ظروفه المحيطة والزمن الذي يوجد فيه. ويكتسب كذلك كل مفهوم أو نص أو عقيدة مفاعيل جديدة ويشحن بمعان مغايرة حسب معطيات اللحظة التاريخية التي يفعل بها. ورغم أن للأفكار العظيمة قيمة كبرى، مؤثرة في مسار التاريخ وحياة الناس، مما يضفي عليها أحيانا هالات وهمية تجعلها تبدو وكأنها فوق تاريخية، إلا أن الواقع المادي، أي الظروف الاجتماعية؛ من مستويات تطور، اقتصادية وتقنية، وكذلك مستوى التطور الحضري، وكل المؤثرات الأخرى، البيئية والثقافية مجتمعة، وفي نطاق حركة مستمرة ومتبدلة. هي من يصنع تاريخ الإنسان وكيانه الاجتماعي. وليس النص ولا العقيدة، رغم ماقد يؤديانه من دور مؤثر، يمكنهما أن ينتجا ظاهرة مادية اجتماعية أو حضارية. فحياة الناس وحركة التاريخ لاتصنعها النصوص أو العقائد.

عليه، لم تتطور أوربا لأنها مسيحية، بل لأنها أخذت بالعقل وبالعلم كمصدر لمعارفها ولطرق فهمها للكون وللحياة وللإنسان، ولم تصل إلى ماوصلت إليه إلا بعدما سحبت من الدين، وكل الغيبيات الأخرى، في سياق صراع طويل ومرير، القدرة على التحكم في وعي المجتمع أو مؤسساته. وهاهي اليابان في عالمنا الحديث قد وصلت مديات متقدمة جدا في التطور، وهذه الصين في صعود حثيث نحو التطور بدون المسيحية، وكذلك فعلت الهند، رغم الفقر، وأكثريتها الهندوسية. وهذه أمريكا اللاتينية ترزح اغلب بلدانها في حمأة التخلف رغم أنها أكثر كاثوليكية من الفاتيكان، ولم يعق الإسلام سنغافورة ولا ماليزيا من الانتظام في طابور التطور والنمو ، ولم يعرقل الإسلام ،ولا الانتماء العربي، مصر محمد علي من الإقدام على مشروع نهضوي واسع، بينما لم يشفع لا الإسلام ولا المسيحية ولا حتى الوثنية لأفريقيا.

لايمكننا أن ننفي دور العقائد والأفكار أو النصوص من التأثير في مسار المجتمعات نفيا قاطعا. إلا انه ينبغي علينا أن نفهم أن هذه العقائد والأفكار والنصوص تخضع لمؤثرات البيئة التي تنوجد فيها. لهذا فان مسيحية أوربا هي غير مسيحية إفريقيا ولا مسيحية تلك هي نفسها مسيحية أمريكا اللاتينية ولا هذه هي ذاتها مسيحية العرب. وهكذا هو الوضع في الإسلام، وكذلك الشيوعية والماركسية والوجودية، وأي مذهب فكري أو منتج ثقافي آخر، لايمكن له، وفق منطق التاريخ، أن يبقى على صورته الأصلية، ويقدم ذات النتائج في كل زمان وكل مكان. لاسيما في زمننا العولمي ذي الحداثة الشمولية. حيث اكتسبت الحداثة فيه بعدا شموليا كونيا تصل آثاره وتردداته إلى كل بقعة على هذه الأرض، ولها مفاعيلها التي تفرضها حتى على من يرفضها، وما الاعتراضات عليها وردود الفعل ضد مفاعيلها ومنتجاتها إلا حشرجات موت لمن يريد أن يقف ضد حركتها.

حسب ماتقدم ليس هناك مسيحية واحدة و لا إسلام واحد ولا ماركسية واحدة وهكذا. فكل شيء سيتضمخ، شاء أم أبى، بعطر منتجات عصره العقلية والمادية.

غير ان الأصوليين المسيحيين، في إصرارهم على اعتبار النص القرآني والحديث النبوي هما مصدر البلاء، يلتقون لقاء (عشاق) مع خصومهم الأصوليين الإسلاميين الذين يصرون بدورهم، ولكن بنوايا وأهداف أخرى، على أن النص ـ كما يفهمونه طبعا ـ هو صحيح الدين. وهكذا، وبدون وعي أو قصد، يعزز الطرفان موقفهما الغيبي الساكن المشترك ويدعمان مواقع بعضهما البعض. فالإسلاميون يريدون أن يبقى النص القرآني هو هو، مقدسا، وغير متأثر لا بالزمن ولا في حركة الحياة، وانه الخير كله، وعليه ليس هناك ضرورة، ولا حتى استعداد لإعادة النظر فيه والعمل بالتالي على تكييفه مع متطلبات الحياة الجديدة والمختلفة عن سياقات نشأته وتطوره. وعلى ذات الشيء يصر المسيحانيون معتبرين إن مفاعيل النص لاتزال باقية، وتعطي نفس النتائج، وتغطي نفس الأهداف التي أتى بها ومن اجلها، وانه قادر على أن ينتج الظواهر نفسها، وأيضا والاهم ، انه شر كله. وكلا الطرفين يتقاسمان، في النظر إلى الإسلام، موقفا واحدا؛ ميتافيزيقي سكوني ولا تاريخي. ينظر إلى العقيدة، والى النصوص، بمنظار خارق، ويعطيهما دورا مقررا في الوعي، ويضفي على بنيتهما هالة من الخلود والأزلية لاتنسجم مع مايفترضه النظر العلمي من حركية وتحولات حتمية في الأشياء والظواهر لارتباطها بحركة التاريخ. والفارق الوحيد بين الاثنين هو أن المسيحانيين يأخذون واقعنا المعاصر، في الألفية الثالثة، بمنجزاته العلمية والعقلية والثقافية والأخلاقية، ويحاكمون به نصوص عقيدة المسلمين التي جاءت في ظروف تاريخية مختلفة، مجردين بذلك هذه العقيدة من شروط الزمان والمكان، مضفين عليها صفة الخلود الأبدي. بينما يجلب الإسلاميون العقيدة ونصوصها، بعد أن يجردوها من خصوصياتها، ومن سياقها التاريخي ليسقطوها على واقعنا المعاصر بكل منجزاته وحمولاته وهمومه بدعوى أن عقيدتهم تصلح لكل زمان ولكل مكان.

وهكذا بسبب هذه النظرة السكونية وغير العقلانية تنشب حرب نصوص. يدعّي المسيحانيون فيها أن النص الإسلامي هو الذي أنتج (وحشية) المسلمين وعدوانيتهم، ويأتون بسلة وفيرة من النصوص الداعمة، ويفاضلون بصورة مباشرة أو مضمرة بين دينهم( السمح، الرقيق) وبين دين( الهمج القتلة) المسلمين. وينبري لهم من الجهة الأخرى بعض الإسلاميين بإلقاء حفنة معتبرة من النصوص مأخوذة من مصادر المسيحيين تحض هي أيضا على العنف والقتل.

الطرفان يريدان تزييف وعينا بدفعنا للظن أن العنف مصدره نص ونزعة ذاتية، عرقية أو ثقافية، وهذ هو جوهر الطروحات العنصرية في كل مكان، حينما تحيل شرور معينة، افتراضية اغلب الأحيان، إلى مصادر ثاوية في ثقافة أو عرق مجموعة من الناس. بينما العنف، بمعناه الشامل وليس الفردي، هو ظاهرة تاريخية لها دوافعها وأسبابها، ولا يمكن أن تنفرد به مجموعة دون أخرى تتسم به وتمارسه طالما هي موجودة. فالعنف لايقع إذا لم تكن هناك أسباب محرضة، غير ثقافية أو عرقية، تدفع لارتكابه. والتاريخ مليء بشواهد دموية وعنيفة كان المسيحيون، رغم كل ادعاءات التسامح والمحبة، هم أبطالها. وقد ينبري لنا معترض بالقول أن ليس هناك نصوصا في كتب المسيحيين تحث على العنف والكراهية مثلما هو الأمر في الإسلام. وهذا الادعاء، رغم وجاهته، إلا انه يمكن لنا أن نجد له تفسيرا تاريخيا، خارج إطار الجواهر الثابت والمطلقات الدينية.

أكاد اجزم لو أن عيسى قد امتد به الزمن للتبشير بدعوته، ولو كانت رقعة اهتماماته الدعوية قد اتسعت مثلما حدث لمحمد لكان قد اضطر لتغيير الكثير من منطلقات مااتى به من تعاليم. فهو قد اعدم، كما مثبت في التاريخ، بعد بداية تبشيره بدعواه بسنتين أو ثلاث، وهذه فترة زمنية قصيرة بالتأكيد، لاتتيح لدعوة أن تنضج وتنمو وتتصدى لمعضلات واقع الحياة المحيطة بها. ولو نظرنا من ناحية ثانية إلى بدايات دعوة محمد، المعبر عنها في السور المكية، التي كانت تعبير تجريدي أولي عن منطلقات الدعوة العقلية، لوجدناها هي الأخرى قد حثت في الكثير من المواضع والمناسبات على المحبة والسلام وغيرها. ولم يحدث التحول في صياغات فكر الإسلام إلا بعد هجرة محمد وأصحابه إلى المدينة. حيث أخذت تتسع هناك رقعة الدعوة بعد ان امتد بها الزمن، ولهذا طرأت عليها تحولات عديدة أخذت صيغة التشريع المتصل بوقائع حياتية، وتصدت لمعضلات اجتماعية وسياسية وعرفية وثقافية وفكرية واخلاقية أملت، برأيي، هذا التحول في اتجاهات خطاب الإسلام. ولنقف هنا وقفة مع الخيال ونطرح تصورا افتراضيا ونقول: لو إن قريش قد نجحت في الخلاص من محمد بعد سنتين أو ثلاث سنوات من بدئه التبشير بدعوته، كيف كان سيكون عليه شكل الدعوة، وما ذا كان سيكون مصيرها وما هو نوع تعاليمها؟.

أضف إلى ذلك أن المسيحية، حينما تحولت، بعد قرون ثلاثة من انطلاقتها، إلى أيدلوجية توسعية للإمبراطورية الرومانية، كانت قد أخذت منحى صريحا في عنفه. وقد قضت روما على الوثنية في بلدان أوربا وضمتها إلى إمبراطوريتها بقوة السيف وبصليب عيسى.

وهذا الواقع يتفق تماما مع الطرح الذي قدمته أعلاه بأن العقائد والأفكار تتأثر بقوة بمن يحملها وبكيفية تصرفه بها، أي إنها لا تحمل صفات ومضامين مطلقة فوق تاريخية ملاصقة لها ومتضمنة فيها. وهذا نجد له أصداء حتى داخل النص الأدبي كوحدة خطاب فالنص الأدبي، شعر مسرحية رواية، حسب نظريات النقد الأدبي الحديث هو نص لانهائي ومفتوح لأنه لايمتلك سمات ومعان ثاوية وخالدة فيه. بل هو نص منفعل مع واقع تحولات البيئة التي يقرا فيها.

هذا فضلا عن ا ن أي عقيدة أو خطاب هما نتاج لبيئة محددة، يتفاعلان بها ومعها، ويكتسبان سمات( ليست خالدة) تلون بعض من خصائصها. لذا وجدت فروق بين الأديان وبين الأفكار والعقائد، وهي فروق ناتجة عن أوضاعها التاريخية وليس لطبيعة كامنة فيها أو في منتجيها. ناهيك عن أنها لن تؤدي نفس الدور ونفس الوظيفة على مدى الزمن.

وفي نفس المنطق يواصل المسيحانيون، بإصرار ملفت، التجاوز على منطق التاريخ حينما يصورون أن محمد، وبإرادة شخصية، ورغبة واعية منه، لشر كامن فيه وبقومه (الأشرار،الجياع، والمتخلفين) قد خطط، يحركه الحسد، للاستيلاء على ثروات أهل الخير والحضارة في الجوار. هذا الكلام ،ومعناه، وان جاء بدرجات متباينة من الجدية والسفه، يعبر في النهاية على إن قائليه قد تحدثوا، في الحقيقة، عن انفسم أكثر مما كانوا يتحدثون عن محمد وشعبه، فهم عبروا في هذا الكلام، ليس فقط على لا منطقيتهم ولا عقلانيتهم وحسب، وإنما بدرجة واسعة عن نزعة استعلائية وبنفس عنصري ـ ازدراء بشر( العرب أو البدو ) لهويتهم العرقية ـ ناهيك عن انه تعبير عن عواطف حقد وليس كلاما يمكن أن يصنف، ولو بغفلة من الوعي، كـ(نقد).

ومن جديد تلتقي الأصوليتان، المسيحية والإسلامية، مع بعضهما البعض، في لامنهجيتهما ولاعقلانيتهما حول هذه النقطة. فالإسلاميون، وبسبب من فهمهم الديني الميتافيزيقي للتاريخ، هم أيضا يتصورون أن اصطفاء( الله) لمحمد وللعرب هو السبب المحرك والمنتج لهذا الدين. وانه رسالة جاءت لهداية البشرية، وان تعاليمه تصلح لكل الناس، وفي كل الأزمنة.. والى آخر هذه الأطروحة غير العقلانية.

هذه الصورة، والمنطق العقلي الذي يقبع وراءها، هما أيضا نتاج نظرة لاتاريخية وميتافيزيقية تجترأ على منطق التاريخ حين تصور الظواهر التاريخية والأحداث والتحولات الكبيرة فيه على إنها انجاز فردي للشخوص الفاعلين فيها. ومع إن للأفراد دور لاينكر في صنع التاريخ، لكن الصانع الحقيقي لهذا التاريخ هو مجمل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحيطة بهذا الفرد. والفرد لاتحركه أو تتحكم بأنشطته نوايا ورغبات مزاجية وانية بقدر مايكون سلوكه ودوره استجابة معقدة ومتفاعلة مع معطيات ثقافته وبيئته وظرفه التاريخي الذي يشكله ويتشكل أو يتبلور بنشاطه هو أيضا.

والإسلام لايشذ عن ظواهر التاريخ الأخرى، لذا نجد أن السياق التاريخي الذي ظهر فيه الإسلام، وعلى العكس مما صوره (نقاده)، قد جسد استجابة عقلية، في صيغة دينية، لتحولات اجتماعية اقتصادية حضرية حدثت في شبه جزيرة العرب إبان ظهور محمد ودعوته ومهدت لها؛ وفرضت صيغة مختلفة للتنظيم الاجتماعي السائد آنذاك ـ اقتصاد البداوة المبعثر ذا النزوع المشاعي ـ استوجبت هذا الشكل من التعبير العقلي عنه. وهذا التحول في بنى مجتمع الجزيرة قد استند إلى مجموعة من المتغيرات في معاش الناس، وجاء بعد سلسلة متصلة من التطورات والتغيرات على ارض الواقع انتظم فيها عرب الجزيرة، لاسيما بجانبها الغربي
( مكة والحجاز) في نمط جديد للعلاقات الاجتماعية ارتكز على قاعدة نمو حواضر زراعية، ونشاط تجاري اخذ مدى خارج حدود الجزيرة، وارتبط باقتصادات ذات طابع اشمل (وقد صحبته بالضرورة تأثيرات سياسية وثقافية) رافقه نمو في صناعة*حرفية
( تعدين وغيره) مستقلة، أي قائمة بذاتها، مما يعني قدرتها على أن تأخذ دورا في الاقتصاد وعلاقات الإنتاج الجديدة النامية. كل هذا كان مترافقا، بحكم التطور وبتأثير الاتصال بالثقافات الأخرى أيضا، مع نمو وتحول في البنى العقلية التي كان الدين احد مكوناتها الكبرى. وهكذا جاء الإسلام ليفجر بنى علاقات هذا المجتمع، المتجزئ،من داخله، بمبدأ التوحيد وليصير القاطرة العقلية والتنظيمية لانفتاح افقه التاريخي الواسع الذي اخذ لاحقا توسعا جغرافيا تأسست على خلفيته حضارة ممتدة في المكان والزمان، هي الحضارة العربية الإسلامية، لعبت دورا مميزا في مسار الحضارة البشرية
.

في الختام ينبغي التأكيد على إن نقد الدين هو أمر جوهري لتعيين مواضع الفشل في واقعنا، وبغير النقد، للدين ولغيره، لايمكننا أن نتجاوز مانحن عليه من تخلف وتراجع. لكن ماعرضت له هنا لم يكن نقدا للدين وإنما كان مفاضلة بائسة بين دينين لاتخدم في محصلتها النهائية، المسعى الافتراضي لنهضة المجتمع ونقض واقعه المتردي.

ان مشكلة مجتمعاتنا ليست في الإسلام كدين بحد ذاته (وهناك مشاكل عديدة لدينا لها أسباب أخرى غير الدين) وإنما في علاقته بالمجتمع وبالدولة، وبتوظيفاته السياسية والأيدلوجية. والطريق الأمثل، برأيي، لحل مشاكلنا، من بين أشياء أخرى عديدة،، ليس بتغيير خرافة بأخرى، باستبدال المسيحية بالإسلام، كما يتوهم التبشيريون، وإنما بالعمل على إنتاج وإشاعة التفكير العقلاني لنؤسس بذلك مجتمعا مدنيا ينجح في فصل حقول السياسة والعلم وحياة الناس عن الدين.
***
هامش:

*-
اخترع العرب تقنية تقطير الخمور من الفواكه، وهذا، عندي، هو واحد من أعظم اختراعات البشرية، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق. فبفضله صفيت عقول ونفوس البشر، ونمت مخيلتهم.



٢٠١١-١١-١٦

حماية الديمقراطية في بلدان الربيع العربي



مثلما كان نظام العقيد الليبي نغمة نشاز، بإيقاع صاخب اغلب الأحيان، في سياق الواقع العربي المعاصر، إبان صعود وتسيد التيار القومي العروبي للساحة السياسية، فان ما قدمته المعارضة الليبية، ومعارضة الخارج على وجه الخصوص، من خطاب وسلوك أثناء اندلاع ثورة الشعب ضد نظام العقيد هو الآخر كان نغمة نشاز في سياق ثورات الربيع العربي في شكله ومآلاته. فقد قدمت هذه المعارضة ومنذ البداية خطابا ركيكا وغير واقعي أسقطت فيه رغباتها على الواقع مما عكس والى حد بعيد قصورها وتشوش رؤيتها في فهم طبيعة النظام والواقع في ليبيا. وبدا جليا منذ البداية تخبطها في تقييم الوضع الميداني والسياسي حيث اخذ بعض ممثليها يقدمون تحليلات وتوقعات خيالية للموقف على الأرض، ـ كتوقعهم سقوط النظام خلال ساعات مثلا ـ.

وعلى العكس من المسار السلمي الحضاري الذي اتسمت به الثورتان الشعبيتان في مصر وتونس فان تطورات الموقف في ليبيا قد أخذت منحى عنفيا. ورغم إن ذلك يعود في الكثير منه إلى طبيعة النظام الليبي، وما سببته طريقة حكمه للمجتمع الليبي من مصادرة لكل مستويات الحياة السياسية والمدنية، إلا أن بعض منه، ولاسيما المشهد الختامي للثورة( طريقة قتل العقيد) عكس، بدرجة واضحة، توجه القوى السياسية التي قادت مسار الثورة في مراحلها المتأخرة بعد هيمنة التيار الإسلامي فيها، وعكس أيضا بعض من طبيعة المجتمع الليبي ودرجة الاحتقان فيه لاسيما في فترة الصدامات المسلحة وما نتج عنها من خسائر وآلام.

وتوج مسار الثورة المسلحة، التي حصلت على دعم الناتو المباشر والحاسم، بلمسة مربكة أخيرة بإعلان مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني عن التوجه الإسلامي للدولة ولنظام الحكم القادم فيها.

ورغم أن بعض الإسلاميين كان قد قدم رؤيته للطابع الإسلامي للدولة ونظام الحكم فيها قبيل سقوط نظام العقيد، (دولة مدنية غير عسكرية!!!)  مستندا إلى مسلمة مفادها إن المجتمع الليبي كله مسلم، وإن خيار الإسلام هو المآل الطبيعي لسلطة الحكم فيه، فان مااعلنه عبدالجليل، يوم إعلان تحرير ليبيا من نظام حكم العقيد، يمكن اعتباره الإيذان الرسمي لصعود تيار إسلامي في طريق السلطة بطريقة مشروعة.

وقد تزامن مع الإعلان الليبي هذا فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات التي جرت في تونس، البلد المجاور جغرافيا، لكن المختلف في البنية الحضرية والإرث السياسي والثقافي. ويمكن القول إن صعود ونجاح هذين التيارين الإسلاميين في كل من تونس وليبيا، رغم الفروقات النوعية بينهما، قد يمكنهما من أن يستمدا من نجاحهما المشترك دعما معنويا يؤازران به بعضهما البعض. وبالتأكيد إن ماسيحصل في مصر ،الجارة على طرف الحدود الآخر، سيترك ظلاله بالضرورة على الوضع في البلدين. لاسيما وان انتخابات مصر على الأبواب، وهناك مخاوف جدية من صعود التيار الإسلامي، ممثلا بالإخوان المسلمين، وإمكانية هيمنته على المجلس النيابي الجديد (مجلس الشعب) في الانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية نوفمبر( تشرين الأول) الجاري، لذا باتت مسالة صعود التيارات الإسلامية وتصدرها للمشهد السياسي في بلدان الربيع العربي حقيقة واقعة ينبغي النظر إليها والتعامل معها بقدر من الجدية وبالكثير من الانتباه.

لكن السؤال المهم هو : هل إن المخاوف من صعود تيارات إسلامية في هذه البلدان، بعد نجاح الثورة فيها ـ مع احتمالات أن يحصل نفس الشيء في سورية واليمن، وان بدرجة وكيفية مختلفة ـ هي مخاوف مشروعة، بمعنى هل هي واقعية وتعبر بدقة عما يمكن أن تنتهي إليه تطورات الأمور في هذه البلدان، لاسيما تونس ومصر، من هيمنة شاملة تامة لهذه التيارات على الحياة السياسية وعلى المجتمع برمته، ينتهي بمصادرة الحياة السياسية وإلغاء الديمقراطية والاتجاه نحو دولة دينية كما هو شائع ومعروف عن هذا التيار؟.

الإجابة هي لا، و نعم في نفس الوقت.

وليس في الأمر تناقض أو استعصاء.

فهي لا، لان السياق العام، الاجتماعي والسياسي، الذي وصل وسيصل فيه التيار الإسلامي للسلطة أو للصدارة في مؤسسة الحكم والقرار السياسي هو سياق مختلف بدرجة واضحة عما كان عليه الواقع الاجتماعي والسياسي في البلدان العربية إبان صعود هذا التيار في الثمانينات. فصعود هذا التيار كان قد جاء آنذاك على خلفية سلسلة من التغيرات العالمية والمحلية التي أثمرت نجاحه في تصدر الواجهة. وكان من بين أهم الأسباب هو الفراغ الذي نشأ من هزيمة التيار القومي ومشروعه في التنمية الاقتصادية والاستقلال السياسي الذي تسببت به ودشنته هزيمة حزيران 1967 العسكرية، وبما عكسته من تداعيات على المستوى السياسي والفكري في المجتمع العربي ككل. وأيضا بسبب من تراجع التيار الماركسي والشيوعي ومشاريعه البديلة التي كانت تصب في ذات الاتجاه، التنموي والاستقلالي، لكن مع نزعة حداثية بينة ميزت اطروحاته ورؤاه عندما مزجت بمشروع الحداثة، الذي اشتركت بتبنيه مع التيارات التحديثية الأخرى، اللبرالية والقومية، مضامين اجتماعية وحددت سمات القوى الاجتماعية الحاملة لهذا المشروع.

وقد كمن وراء فشل التيار الماركسي هذا أكثر من سبب، أهمها: التحول في الواقع الدولي بعد نهاية الحرب الباردة وهيمنة القطب الواحد على الساحة الدولية، وما سببه هذا التحول من إرباك لدى الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية لتأثرها حد التبعية للاتحاد السوفيتي وانخراطها في استراتيجياته السياسية والتزامها برؤاه الفكرية والتحليلية. الخ..

ونتيجة لفشل تيارات التحديث المشار له أعلاه، ولد فراغ استثمره التيار الإسلامي، الذي كان قابعا في الظل، وباشر صعوده باندفاع وقوة. وقد رافق وعزز هذا الصعود، فضلا عما ذكر أعلاه، أشياء أخرى منها: دعم البلدان ذات التوجه الأصولي، السعودية وبعض بلدان الخليج، المادي والإعلامي لهذا التيار ومساعدته على مد تأثيره أو نفوذه على مساحة واسعة وتعزيز مواقعه، عمقيا وأفقيا، داخل المجتمعات التي نشط واكتسب مكانة ودور فيها.

وقد أسهم كذلك في تجذر هذا التيار في الواقع العربي استسلام أو استخذاء بعض الأنظمة العربية أمام اندفاعته، وذلك لأسباب متعددة، منها؛ توظيفها له في مواجهة تيارات اليسار، كما حدث في مصر زمن السادات، التي وقفت كخصم تقليدي لتوجهات الانفتاح الجديدة التي تبناها النظام. أو لتجاوزه وإعاقة منافسته لها على السلطة والشارع السياسي باحتوائه كما حدث في السودان، زمن النميري، أو من اجل مواجهته بأدواته من خلال تبني اطروحاته الأساسية كاتخاذ الإسلام مرجعية في كل شيء. وهذا حدث لدى غالبية الأنظمة العربية التي واجهت هذا التيار .

غير إن الوضع العالمي والمحلي الآن قد تغير كثيرا واختلف بشكل عام عما كان عليه إبان صعود التيار الإسلامي. وكلمة السر في هذا الاختلاف هو تعاظم حظوظ فكرة الديمقراطية والمشاركة السياسية للمجتمع بأوسع أطيافه. فبعدما أثبتت كل الأنظمة الاستبدادية فشلها في إدارة أزمات بلدانها، وبعد فشلها في إخافة العالم والمجتمع بـ(بعبع) الإسلاميين، وبعد فشل الإسلاميين أنفسهم في إقناع الرأي العام بأنهم بديل معقول بما قدموه من أفكار وممارسات هزيلة اتسمت بالعنف وبنزعة سايكوباثية للتدمير، وبزرع الكراهية وبتدخل فظ بشؤون الناس الشخصية وغيرها، أقول: إن هذه المتغيرات، التي توجت بثورات الربيع العربي، التي أزاحت بدورها الغطاء عن غوامض كثيرة كانت تغلف وعي وأمزجة الناس، قد خلقت مناخا ومزاجا مختلفين عما كان عليه الوضع إبان صعود التيارات الإسلامية.

غير انه لايجوز لنا هنا أن نتعامل مع فكرة الديمقراطية على أنها حامل للحلول السحرية، ثم نحيلها إلى إيقونة مقدسة، وإنما علينا ،بتصوري، أن نتعامل معها على إنها أداة لتحول المجتمع والسياسة فيه. غير إن حظوظ الديمقراطية في تاريخ دولنا العربية المعاصر، كفكرة وممارسة، هي اقل مايقال عنها إنها فقيرة، ونخبوية في أحسن أحوالها، ولم تتدعم بقاعدة عقلية واجتماعية تثبتها وتحميها داخل المجتمع. إذ لم ترتبط عبر مسارها المحدود عندنا ارتباطا واضحا بجوهرها العقلاني الذي كان مصدر تشكلها التاريخي، ولا ارتبطت اجتماعيا بطبقة وسطى متماسكة ترعاها وتمنحها شرعية الوجود. لهذا فان ارثنا الديمقراطي هو هجين ومرتبك.

لقد كان من الثابت تاريخيا إن الظهور الثاني لفكرة الديمقراطية، بعد انتهاء عهدها الأول مع نهاية حكم الأنظمة اللبرالية في فترة الاستعمار المباشر للبلدان العربية،ـ كان في زمن صعود الساداتية عندما اتخذت من شعار الديمقراطية غطاءا سياسيا لنهج الانفتاح الاقتصادي، بنسخته الساداتية، أي جعل الاقتصاد المصري (سداح مداح) على حد تعبير الدكتور( احمد صادق سعد)، بمعنى انفتاح دون ضوابط وبتصفية متواصلة لدور الدولة الرقابي والتوجيهي فيه. وأيضا كوسيلة لتصفية الإرث السياسي لدولة عبدالناصر القومية ذات التوجه التنموي المركزي من خلال نقد استبدادها. ورغم إن هذا النقد كان نقدا صحيحا، لكن بديله الذي قدمته الساداتية، كان تلفيقا كاريكاتوريا لمبادئ الديمقراطية بمعناها التاريخي والعلمي، أدى إلى اختزالها ببعض الحريات والممارسات الشكلية وأبقى على بنية الاستبداد السياسي بتغليفه بهالة مزيفة من الممارسات الديمقراطية. لكن رغم كل شيء فان مجرد طرح فكرة الديمقراطية، أي كان شكلها ودوافعها، سوف يعني بالضرورة وضعها أمام الشعب كخيار وكبديل، لهذا أخذت مطامح الديمقراطية تتسع وتتجذر بعدما آل وضع الأنظمة العربية إلى دروب مسدودة؛ لا تنمية ولا حريات، وانسداد تام في الأفق السياسي أبقى المعادلة السياسية مغلقة بين خيارات ضيقة ومحدودة: إما الاستبداد والفساد، مع مسحة علمانية شكلية تتيح بعض الحريات والحراك الاجتماعي، وإما بديل اسلاموي قروسطي ومغلق. وشجعت على هذا التصور تخوفات الغرب وتطلعات وممارسات التيارات الإسلامية نفسها ممثلة بالجماعات الجهادية، القاعدة وتوابعها، التي تمثل اشد الاتجاهات قسوة وعنفا وانغلاقا داخل التيار.

وغدت الديمقراطية مطلبا ملحا يتصاعد ويتبلور طوال عقد التسعينات بعد التحولات السياسية في بلدان ماسمي بالمعسكر الاشتراكي تحت ضغط المطلب الديمقراطي، ومع تراجع وفشل اطروحات التيار الإسلامي البديلة التي لم تنسجم مع التحولات الجديدة حيث لم تعد المطالب الاقتصادية كافية وحدها بغير ما قاعدة من الأسس الديمقراطية تسندها. وهذه هي الأرضية الحقيقية التي فجرت الربيع العربي وأدت إلى إنجاحه بولادة وعي جديد، وشباب برؤى وأفكار جديدة أتوا بالتغيير ووسعوا من مضامينه.

هذه صورة المشهد العام المتغير، كما وصفته باختصار، والذي هو مختلف اختلافا واسعا عن مقدمات صعود التيار الإسلامي. وهنا ندخل في الشق الثاني من الإجابة وهي مدى خطورة التيار الإسلامي ومشروعية بعض المخاوف منه.

التيار الإسلامي بإرثه وتكوينه العام هو تيار راديكالي لايؤمن كأغلبية الأحزاب السياسية ذات المنحى الراديكالي بالديمقراطية، هذا بالإضافة إلى جذوره الفكرية وسيرته السياسية والعملية التي تؤكد منحاه الشمولي والاقصائي، وهذا يضعه بطبيعة الحال في موضع شك ويجعل الهواجس منه مشروعة، ولكن إذا أردنا أن نحلل الواقع كما هو من غير أن نسقط عليه رغبات أو نوايا فسنجد إن التحولات التي أشرت لها أعلاه تضع هذا التيار الآن، مرغما، أمام مفترق طرق واضح ولا يقبل التأويل، هو: إما أن يبقى منساقا لخطه السياسي وارثه الفكري والعملي وينتهي للعزلة والفشل وبالتالي الاضمحلال، وإما أن يختار القبول باللعبة الديمقراطية والدخول فيها لأنها المدخل الوحيد والأخير له إذا أراد الاستمرار في الحياة السياسية. وهذا الكلام لا يقال عن الواقع بما هو واقع الآن، وإنما بأفق حركته التاريخية.

وهذا في الحقيقة ليس مصير التيار الإسلامي وحده وإنما هو مصير كل حزب أو قوى سياسية تريد مزاولة العمل السياسي في زمن الربيع العربي، لان الإيمان بالديمقراطية والالتزام بها باتا المدخل الشرعي لكل تيار سياسي وفكري يريد أن يثبت وجوده. الديمقراطية بمعناها الشعبي الجديد الذي فجره كمفهوم وممارسة الربيع العربي وادخله بقوة ووضوح في أبجديات وأولويات الممارسة السياسية، ليس فقط في البلدان التي وقع فيها ( حتى وان فشلت هي نفسها بذلك) وإنما امتدت روحه ومعناه إلى مديات عالمية شاملة.

ولكن الديمقراطية ليست معطى تاما وجاهزا تنتجه ظروف موضوعية أو حراك سياسي واجتماعي وحسب، وإنما هي، كما أي شيء آخر في حركة التاريخ والمجتمع، ذات سيرورة خاصة بها، وينبغي لكي تصير واقعا حقيقيا أن تمر بمراحل نمو وتطورات تقوي من أسسها. ولان الديمقراطية، التي بدأت بواكيرها في الواقع العربي الجديد كوسيلة لتحولات اجتماعية وسياسية واسعة، ليس لها جذورا اجتماعية وفكرية عميقة في المجتمع العربي، وليس لها في نفس الوقت ارث تطبيقي، ولا قوى اجتماعية أو سياسية حاملة لمشروعها، فينبغي والحال كذلك أن يبتكر المجتمع آليات لحمايتها قد تكون ذات أشكال غير ديمقراطية بحد ذاتها. فطالما أن المجتمع العربي قد عاش استلابين متتابعين لازالت مفاعيلهما سارية في نسيجه وعقله، وهما؛ الاستعمار الغربي والتبعية، والنظم الاستبدادية التي هيمنت على المجتمعات بعد مرحلة الاستعمار، أقول طالما إن هذا المجتمع ليس لديه تقاليد ديمقراطية وليس لديه بالضرورة أدوات لإنتاج وحماية هذه الديمقراطية الموعودة، بسبب من غياب منظمات مجتمع مدني، وعدم اتساع نطاق الطبقة الوسطى وترسيخ دورها في المجتمع وفي الاقتصاد مع تعزيز استقلالها عن الدولة وعدم تبعيتها العضوية لها، وانتشار الأمية، وضعف الحياة السياسية وغيرها من الأسباب،ـ بات ملحا على المجتمع السياسي، برأيي، إنتاج أدوات واليات لحماية هذه الديمقراطية.

وبما أن التجربتين الأبرز أمامنا هما التجربتان التونسية والمصرية فان مسار حماية الديمقراطية في هذين البلدين سيكون، بتصوري، من خلال تعزيز دور الجيش كمؤسسة ( فوق سياسية) يناط بها مهمة حماية مسار الديمقراطية وتعزيزها مع إكسابها طابعا وطنيا عاما، علماني بالضرورة، باعتبار العلمانية الصيغة المثلى لحماية المجتمع من أي تسلط أيدلوجي أو حزبي أو جماعتي أو غيره. ويمكن التغلب على المخاوف من تغول المؤسسة العسكرية، وبالتالي انفرادها في إدارة البلد لتنتهي مرة أخرى إلى نظام استبداد ودكتاتورية جديدة، لو وضع المجتمع بقواه الحية، أحزابا ونخبا سياسية وثقافية واجتماعية، لنفسه قواعد للرقابة المتبادلة بينه وبين المؤسسة العسكرية تحول دون تسلطها، وفي نفس الوقت تعزز من دورها في حماية الدستور والمسار الديمقراطي لحين تمكن المجتمع من بناء مؤسساته الضرورية لحماية نفسه بنفسه، وعندها سوف يتلاشى تلقائيا دور المؤسسة العسكرية.

ولو نظرنا إلى الواقع المصري والتونسي لرأينا إمكانية هذا الدور للمؤسسة العسكرية فيهما، نظرا لما أدتاه من دور مميز في حماية الثورة وإنجاحها، لكن مع إجراء بعض التعديل على تركيبتهما وطريقة أدائهما بضخ جرعة من الدوافع السياسية للمؤسسة في تونس، نظرا لطابعها المهني البحت، والتخفيف من غلواء النزوع السياسي في رديفتها المصرية الناتج عن انخراط الجيش المصري، عبر تاريخه، في الحياة السياسية المصرية.

يبقى مخاض الديمقراطية مخاضا عسيرا. ولم يبق أمام جميع القوى في الإطار الوطني لأي بلد عربي سوى القبول بصيغة توافق وطني مجتمعي يحّيد التطرفات عند كل الاتجاهات ويعزز من المشتركات بينها، لاسيما وان جميع التيارات قد قدمت ماقدمته (في مسيرة الخراب)، وان بدرجات مختلفة وبقدر متباين من المسؤولية، سواء وهي في السلطة، أو ضدها، أو على هامشها. ولكن يبقى الاستدراك الأزلي في كل تحليل عن الواقع العربي الذي يقول: بما أن مجتمعاتنا العربية مختلة بنيويا وفيها إشكالات عديدة مما يجعل من طابع تطورها، بحكم وضعها التاريخي، قابلا للارتداد، فان حلم الديمقراطية، وأي منجز آخر، يمكن أن يتبدد في أي لحظة يغفل فيها المجتمع بنخبه الطليعية عن أن يلعب دوره التاريخي ويتحمل مسؤوليته المصيرية.