٢٠٠٩-٠٢-٢٧

في إنصاف النقد



يطرح بين حين وآخر في الصحافة الالكترونية نقد موجه لسلوك ونشاط وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، واغلب هذا النقد يوجه من قبل أشخاص عاشوا تجارب هذا الحزب وعايشوا مراحل معينة في مسيرة عمله ونشاطه السياسي والتنظيمي. وطبيعي ان خلفية المعايشة تمنح هؤلاء النقاد أرضية جيدة من المعطيات والفهم العميق لما ينقدونه وتؤهلهم، كما يفترض، لهذه المهمة، وتمنح في نفس الوقت نقدهم المزيد من المشروعية. لكن للأسف ليس كل ما كتب يمكن تصنيفه وقبوله على انه نقد جاد ومسؤول. لان النقد كممارسة ثقافية وفكرية يشترط، برأيي، الموضوعية والجدية ونزاهة الدافع. وإذا فقد هذه الأساسيات سوف يتحول إلى مشاجرة وتبادل شتائم وتعبير عن أحقاد شخصية ولن يخدم في النتيجة أحدا، ولن يوصل رسالته او يبلغ أهدافه في معالجة الواقع او بلورة موقف مخالف يستند إلى أسس عقلانية.


من هنا أرى ان النقد ألذي وجه للحزب الشيوعي العراقي حركته دوافع ومنطلقات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

الأول هو نقد مبني على حقد شخصي يسعى لتصفية حساب ناتج عن مرارة شخصية او خيبة أمل، وغالبا ما يكون هذا النقد ممتزجا بموقف فكري مغاير ينتج عن تحول شامل في توجهات صاحبه ويكون مختلف اختلافا جذريا عن منطلقات الحزب الفكرية باتجاه لبرالي او روحاني كما يدعي أصحابه. ويتسم هذا النقد بأسلوب تجريحي وشخصاني وميال إلى لغة الاحتقار والاستهزاء، وهي لغة لا يمكن قبولها في دائرة النقد العلمي. كما ان هذا النقد او الرؤية يفترضان ان ليس هناك أي شيء منطقي ومقبول وسليم ليس في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والعاملين فيه فحسب، وإنما في كل تاريخ الحركة الشيوعية وفي عموم الفكر اليساري. كما يرافق هذا النقد سعي حثيث لإلحاق الأذى النفسي والمعنوي بمن يعتنق هذا الفكر. ومن بين سلوكيات هذا النقد هو افتعال المناسبة لتوجيه النقد او إقحامه في أوقات ليست هناك ضرورة مقنعة لها، او باختيار توقيت يكون النظر فيه مشدودا للحزب فيحاول ان يسيء إليه ليؤثر سلبا على نشاطه، كما هو عليه الحال في هذه الأيام على سبيل المثال، حيث ينشط الكثير من الشيوعيين ومؤيديهم للتعبئة لحملة الانتخابات المحلية. وهي فترة حرجة يكون أي كلام فيها ينال من الحزب، مالم تكن له مبررات قاهرة، سلوكا عدوانيا. في هذا التوقيت بالذات، خرج علينا شخص بمقال يسخر فيه ويفند كل جذور وقيم الحزب الشيوعي العراقي التي هي، بالمناسبة، ليست ملكا للحزب بقدر ما هي ملكا لجميع من عمل وناضل في صفوفه، وبالتالي فان الانتقاص من هذه القيم وتشكيل صورة كاريكاتورية مشوهة لها ولماضي الحزب يسيء لهذا التاريخ ولحامليه. ومع ان الرأي يحترم في كل الظروف والمناسبات لكنه يفقد، بتقديري، مصداقيته وجدارته ولن يحظى باحترام المتلقي حين يكون وراءه دافعا شخصيا غير سوي، ويكون هدفه هو مجرد إلحاق الأذى والإساءة لتاريخ يتشارك فيه كثيرون.


ان المرارة الكامنة وراء هذه الرؤية والممارسة يمكن ان تكون مفهومة لكنها غير مبررة، لان النقد هو موقف ناتج عن رؤية وفهم وتحليل وليس انفعال عاطفي ساخط يسيء بالمحصلة لصاحبه أكثر مما يسيء لمنقوده.

والثاني هو نقد ينطلق من أرضية فكرية وأخلاقية مغايرة تماما، ويأتي من أشخاص تحولوا تحولا كاملا في أفكارهم وانتماءاتهم وسلوكهم وانتقلوا إلى صفوف معادية، وارتبطوا بنظام صدام حسين قبل سقوطه، وانتظموا بعد سقوطه في اطر عمل سياسية وربما تنظيمية قريبة او متداخلة مع تنظيمات وأنشطة البعثيين. وهذه الخلفية بحد ذاتها تجرد نقد هؤلاء، برأيي، من أية قيمة. يتسم نقد هؤلاء عادة بالحدة والعنف مستعينين في طرحه بقاموس مفردات البعث البالية والشكلية كالخيانة، والعمالة وغيرها من الأوصاف الجاهزة التي لا تعبر عن أي عمق فكري ولا تقوم على أي أساس تحليلي. ويكون في غالب الأحيان طرح هؤلاء غير موضوعي وتلفيقي ويعتمد معلومات كاذبة ومشوهة هدفها تسقيط من يوجهون النقد اليه.

اما الثالث فهو الأقل شهرة لكنه الأكثر صدقا وربما تأثيرا لأنه نقد موضوعي وعقلاني وملتزم بأدب الحوار، ويكون مبنيا في العادة على معطيات صحيحة ورؤية عقلية منضبطة وأسلوب ملتزم ومنهجية ناضجة. ويكون أصحاب هذا النقد في الغالب أصحاب رؤية يسارية تتشارك مع أصول الحزب الفكرية ولكنها تختلف معه في الرؤية وفي الفهم والتحليل وبالتالي في الموقف. وهدف نقد هؤلاء هو تحقيق تطور في الرؤية السياسية لليسار وتعميق فهمه للواقع من خلال طرح البدائل والمعالجات الجادة للمشاكل والأخطاء والممارسات الشاذة التي يمارسها الحزب الشيوعي العراقي او أي جهة يسارية ما او أفراد منهما.

هذا التصنيف مهم جدا لأنه يؤدي إلى فرز ضروري بين من يمارسون النقد، ويحدد طبيعة هذه الممارسة وأشكالها وأهدافها لكي لا يقع خلط، مقصود في الغالب، بين هؤلاء الناقدين. فهناك، ممن هم من داخل الحزب، سوف يستفيدون بالتأكيد من هذا الخلط ليظهروا للملأ ان النقد، كل النقد، الموجه للحزب او لأفراد داخله لا قيمة له لأنه لا تحركه أسس موضوعية وليس لديه أهداف جادة.

ان المستفيدين من أوضاع الحزب الشاذة، وحارقي البخور من كتابه من مدمني المديح الرخيص، يهمهم كثيرا ويفرحهم هذا الخلط ليسهل لهم وضع كل النقاد في خانة واحدة لكي يفلتوا هم من تسليط الضوء على ممارساتهم السيئة، وكشف قصوراتهم السياسية وسلوكهم الشخصي والتنظيمي او الإداري.

من هذا المنطلق علينا ان نعيد للنقد صلاحيته وجدارته بتنظيف ساحته من أدران الحقد والشخصانية ونعلي من قيمته ونحوله إلى سلاح تغيير وإعادة بناء وليس أداة لتصفية حسابات

لاتفعل شيئا سوى أنها تديم الخطأ وتنقذ المخطئ।

11-1-2009

٢٠٠٩-٠٢-٢٦

إحراجات غزة




ادخل الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة جميع الأطراف المشتركة فيه والمعنية به في حالة من الحرج। فبعد ان كشفت وسائل الإعلام المرئية الطبيعة الهمجية للعدوان، وبشكل لا يمكن فيه لضمير ان يبقى في حالة سكون( إلا إذا كان ضميرا حجريا) وأظهرت ان الضحايا هم أناس مدنيون وكثرة كثيرة منهم أطفال ليسوا معنيين لا بحماس ولا باسرائبل ولم يكن لهم في هذه الحياة، التي غدروا فيها، سوى اللهو البريء.

خرجت المنظمات الإنسانية ( الاونروا والصليب الأحمر) عن صمتها وحيادها، وفضحت إسرائيل وأدانتها بعدما تكشف للرأي العام العالمي بشاعة الجريمة। وبهذا فقد دخلت إسرائيل في حالة من الحرج بعدما اهتزت صورتها المزيفة أمام العالم التي راهنت على صمته طويلا. وما ضاعف هذا الحرج هو أنها أضاعت فسحة الوقت الثمينة التي منحت لها ولم تحقق أهدافها بالطريقة السريعة والخاطفة التي عجزت عن إتيان أمثالها منذ حزيران 67. ويبدو ان إسرائيل لا تريد ان تتعظ وتتعلم من ان موازين القوى وأشكال المواجهة معها قد تغيرت، وانه أصبح عليها الآن خوض صراعاتها العسكرية مع شعوب وتنظيمات شعبية، وهؤلاء لا يمكن الانتصار عليهم ولا كسر إرادتهم كما يحدث مع جيش نظامي مستلب ومفكك ومشدود لحماية كرسي السلطة.

وبعدوانها المفتعل تكون إسرائيل قد أحرجت معها أصدقائها وحلفائها من العرب وغير العرب। فلم تعد الإدارة الأمريكية غير معنية وتدير ظهرها لما يجري كما فعلت رايس أول أيام العدوان حينما صرحت بأنها ليس لديها ما تفعله في الشرق الأوسط، ورحلت صوب الصين تاركة وراءها إسرائيل تعبث كما تشاء في غزة. وأحرجت عدوانية اسرائيل كذلك الأنظمة العربية المعنية بحل القضية الفلسطينية من الذين لم يترك لهم هذا العدوان أي خيار او هامش لمناورة سورة الغضب المكبوت التي فجرها خروج الشارع ومطالباته الصريحة والحادة بوضع حد لتهاون الأنظمة ومهادنتها.

ولمداراة هذا الحرج توجه العرب إلى مجلس الأمن علهم يحركون هذه المؤسسة المستأسدة على الدول الفقيرة والمغلوبة. ذهبوا بعدما عجزوا عن البقاء صامتين وعن الاختباء طويلا وراء مؤامرة إيران وأجندتها. ذهبوا لمجلس الأمن وسعوا لتعاون أوربي بعدما فشلوا في عقد قمة عربية اتقاءا لفضيحة التنافس والخلاف الذي يؤذي مشاعر مواطنيهم. لكن وهم هناك تداركتهم مبادرة مصرية يبدو أنها تريد إنقاذ ماء وجه كثيرين ومن بينهم إسرائيل. وإسرائيل سوف تسعى لاستثمار هذه المبادرة وتوظيفها لصالحها قدر ما تستطيع. فقد حملت المبادرة في طياتها شروط إسرائيل الأساسية، وان تضمنت بعض من شروط حماس التي يمكنها( إسرائيل)، بطبيعة الحال، الانقلاب عليها متى تشاء. وسوف تحاول اسرائيل، من خلال هذه المبادرة وغيرها، الظهور أمام العالم، بعد السخط ألذي ملأ شوارع مدن العالم على سلوكها وعدوانيتها المفضوحة، بمظهر الداعي للسلام والمستجيب لجهود حل ألازمة، ولتبرز من جانب آخر تطرف حماس التي سترفض مبادرة من هذا النوع لأنها لن تناسبها. فحماس من جانبها مستغرقة بما هو خلف هذا العدوان. هي مهتمة بما يمكن ان يعزز سلطتها المستقبلية وأجندتها المحلية أكثر مما يهمها مصير أبناء غزة، وهذا من شانه ان يدخلها مع الأيام في دائرة الحرج هي ايضا. إذ لا يمكنها ان تماطل كثيرا على حساب الأبرياء، وعليها ان تبدي المرونة الكافية لإنقاذ أبناء غزة، فهم في النهاية ليسوا ملكيتها الشخصية لتفرط بهم كيفما تشاء. وعليها، ان كانت تريد ان تحافظ على قدر الدعم الذي حصلت عليه، ان تحافظ على حياة المواطنين وتكف عن تعصبها والمبالغة في مواقفها وسقف مطالبها، وتركن إلى ما يقرره الإجماع الوطني الفلسطيني، وان تقبل دعوات الحوار مع السلطة الفلسطينية، ومع حركة فتح. وان تتعاون مع الفصائل الفلسطينية وان تكف عن اعتبار نفسها الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني وانها المعبر عن آماله وطموحاته.

فبعد قرار مجلس الأمن 1860 الصادر اليوم والداعي الى وقف إطلاق النار الفوري وسحب القوات المعتدية، والذي عكس جهودا عربية نوعية بالقياس إلى مستوى الأداء العربي الركيك طيلة السنوات الماضية، بعد هذا لا يحق لحماس ان تأخذ الشعب الفلسطيني في غزة رهينة لأجندتها. وينبغي عليها ان تحترم إرادة الفصائل الفلسطينية الوطنية. ولا يمكن وصف مواجهتها القرار الاممي بالرفض فورا، دون الركون إلى أي تشاور مع الفصائل الوطنية الفلسطينية، إلا بأنه سلوك غير مسؤول منها. لكن في نفس الوقت ينبغي التأكيد، لكي لا يساء الفهم، انه ليس مطلوبا من حماس ولا من غيرها التنازل لابتزازت إسرائيل التي ستناور وتتملص.

على حماس لأجل خدمة قضية شعبها، ولأجل سحب البساط من تحت اقدام الإسرائيليين، ان تتحلى بالحكمة، وان تسعى لاستثمار الجو الايجابي ألذي وفرته أزمة غزة لتوظفه سياسيا، وبالتعاون مع الأطراف الأخرى، لتخلق امكانات جديدة لمعالجة القضية الفلسطينية معالجة شاملة। فالوضع السياسي، بعد منعطف العدوان، يوحي بتحولات ممكنة في التعامل مع القضية الفلسطينية، ويمكن لو خلق هذا الوضع الجديد واستثمر جيدا ان يؤدي إلى تطورات تفضي إلى مفترق طرق يضع إسرائيل والمجتمع الدولي معها أمام مسؤوليات واستحقاقات الشرعية الدولية:

فإما حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية وحسب خطة زمنية مناسبة واليات تفاوض مسؤولة وبرعاية دولية، وإما انفراط لكل عقود التفاهم ، وتعم حينها الفوضى، ويغدو من الصعب لملمة الموقف وإعادة المتصارعين إلى طاولة الحوار مرة أخرى। وعندها سيكون العنف هو سيد الكلام وستتحطم آمال السلام في المنطقة ربما مرة واحدة والى الأبد.


9/1/2009

أدوات العدوان الاسرائيلي




الصمت والتواطؤ وفسحة الوقت هو ما تحتاجه إسرائيل عادة للقيام باعتداءاتها على أي منظمة مقاومة لها( لم تعد إسرائيل تواجه دولا منذ زمن بعيد). وقد قدمت لها حكومات أوربا الصمت، والأنظمة العربية التواطؤ، والولايات المتحدة فسحة الوقت من خلال سعيها بكل صلف لعرقلة أية جهود دولية او عربية( خجولة ومرتبكة بعمومها) لحث مجلس الأمن( الحكومة الدولية كما يفترض) لاستصدار قرار ( سوف لن تلتزم به إسرائيل) يطالب بطريقة باردة وقف عدوان إسرائيل وعربدتها.


لكن هناك عامل قوة جديدا، غير العوامل المذكورة، تحتاجه إسرائيل لإتمام مهمتها الهمجية وهو تبرير أفعالها ووصول وجهات نظرها، بكثافة، إلى المتلقي العربي। وهذا ينبغي ان تقوم به وسيلة إعلامية ناطقة بالعربية. وبما ان إسرائيل تدرك مقدما ان خطابها الزائف لن يمرر على المواطن العربي، المحصن بوعي غريزي ضدها، لهذا فهي لم تقم بإنشاء محطة تلفزيونية ناطقة بالعربية خاصة بها لكنها، في عدوانها الجديد على غزة، وجدت ضالتها في القناة الأمريكية الموجهة إلى المنطقة العربية، قناة الحرة الفضائية.

اتبعت قناة الحرة، مع بعض التحوير، في تغطيتها الإعلامية للعدوان الإسرائيلي على غزة الوسيلة التقليدية التي يتبعها عادة الإعلام الأمريكي الموجه في تغطية الأحداث الكبيرة، وهي الضخ المكثف لوجهة نظر محددة، وبأشكال متعددة، ثم، وتحت يافطة الرأي الآخر، يمنح بعض الوقت لوجهة النظر الأخرى لتقديم حججها في فسحة اقل من الوقت وهامش اقل من المحاور। لهذا أخذت القناة تستضيف في الأستوديو، طيلة فترة التغطية، شخصا أمريكيا مختارا بعناية فائقة من إحدى الجامعات او مراكز البحث ليقدم وجهة النظر الأمريكية ـ الإسرائيلية مقابل أي حجة او محاججة تطرح من الضيوف العابرين الذين تستضيفهم القناة عبر الأقمار الاصطناعية وتوجه لهم أسئلة قصيرة ومحددة، لتعطى بعد ذلك فرصة واسعة لضيف الأستوديو لتفنيدها بهدوء واسترخاء من خلال تكرار لازمات الموقف الإسرائيلي.

ولم تكتف القناة بضيوف الإنابة بل قدمت عدة مرات، وبشكل واسع، وجهات نظر إسرائيلية من مسؤولين إسرائيليين، كالناطقين بأسماء الجيش والخارجية ورئاسة الوزراء। فهذه القناة (من خلال متابعتي) كانت أكثر قناة تلفزيونية اتاحت لمسؤولين إسرائيليين تقديم كافة التبريرات للعدوان من خلال تقديم أسئلة عديدة لهم تغطي كافة جوانب حججهم ، وأيضا باستضافتهم منفردين لكي لا تتشابك وجهة نظرهم مع وجهات نظر أخرى مضادة لها.


لا توجد بظني وسيلة إعلام تقدم مادتها بحيادية تامة، خصوصا في وقت الأزمات، وبالذات في الملفات الشائكة। وما قدمته فضائية الحرة، (وموضوع هذه القناة يحتمل نقاش أوسع مما طرح قبل قليل) لم يختلف من حيث الجوهر عما قامت به القنوات الفضائية الإخبارية العربية. فكل قناة من هذه القنوات هي بالأصل تابعة لنظام سياسي او وجهة نظر سياسية او أيدلوجية معينة. ولهذا فقد اتبعت هذه القنوات آليات وسلوك خطاب إعلامي برز وجهات نظر الجهات التي هي تابعة لها رغم ما حاولت ان تقوم به من إيحاء بتعدد وجهات النظر. فقناة العربية مثلا ركزت في جل خطابها وتغطيتها للأزمة على الدور ( الايجابي) للأنظمة العربية بتضخيم أنشطتها الدبلوماسية القاصرة وحملاتها للتبرع والإدانة، بالإضافة إلى إبرازها لرؤية الاتجاه الناقد لحماس من قبل مسؤولين ومحللين كثيرين خلطوا الأوراق ووسعوا دائرة الهجوم لتشمل حزب الله وربطوا بتعسف ما يجري في غزة بمشروع إيران للتوسع في المنطقة. وهذا يتساوق بشكل كلي مع الخطاب الإعلامي الدعائي الإسرائيلي، حيث ركز ضيوف القنوات من الإسرائيليين على بضعة عناصر لإدانة حماس ليستخلصوا ضمنيا في النهاية ان نقد حماس ليس سلوكا إسرائيليا منفردا، وإنما هو حالة مشتركة مع بعض الانطمة العربية التي تمارس نقدا لحماس كمصر والسعودية. وبهذه المشتركات في نقد حماس تضفي إسرائيل (مشروعية) اكبر لعدوانيتها على الشعب الفلسطيني. وبتوسيع دائرة الناقدين وتنوعهم فقد شُيطنت حماس( بضم الشين) وأُظهرت على إنها قوة منفلتة وشاذة ومعزولة وغير شرعية يصح، بل ويلزم، ضربها (وتلقينها درسا قاسيا) كما عبر مرارا، وبغطرسة، الناطق باسم رئاسة الوزراء الإسرائيلي. وبشيطنة حماس وجعلها عنصر الأزمة الوحيد تتحقق عدة أهداف منها تبراة إسرائيل من مهاجمتها شعبا اعزلا بتصوير العملية العدوانية كأنها مواجهة مع الشواذ والخارجين عن خط الإجماع العام، ولا باس هنا من دمغهم بدمغة العملة الرائجة الآن (الإرهاب)؛ وفي نفس الوقت التمويه على مصدر ووجه الأزمة الحقيقي، وهو مماطلة وتهرب إسرائيل من استحقاقات الحل السلمي الشامل للقضية الفلسطينية بإنهاء احتلالها لأرضه والتحكم بمقدراته. ومنها أيضا تبرير وتهوين وقع القتل الجماعي الذي يتعرض له أهالي غزة وتصويره على انه محصلة تلقائية لقبولهم الارتهان لمنظمة متمردة وخارجة عن (الشرعية).


ويترافق مع السعي الدعائي لخلق فجوة بين حماس والشعب الفلسطيني في غزة السعي لخلق نفس الفجوة بين قيادة حماس وقاعدتها وذلك بالتركيز المزيف على مظاهر ترف غير مرئية لقادة حماس। فقد ركز مسؤولون وأكاديميون اسرائليون أكثر من مرة على سيارات الليموزين التي يركبها قادة حماس في الخارج، وفنادق الخمس نجوم التي يقطنونها ويحرضون الشعب الفلسطيني منها، والسيجار الذي يدخنونه في منافيهم المريحة. وهذه الاتهامات هي مزيج كاريكاتوري من التهم التي كانت توجهها الدعاية الأمريكية للنظام ألبعثي في العراق إبان الحصار، كالقصور وتدخين السيجار، والتهم التي يوجهها (ياللمفارقة) النظام ألبعثي نفسه، وباطلاقية وتعسف، على كل معارضيه (فنادق الخمس نجوم). وإذا كانت تهم الدعاية الأمريكية نجحت لأنها تصح على مسؤولي النظام ألبعثي، لتفاهة وسخافة سلوكهم، الذي كان مرئيا وفضائحي، فان هذه التهم يصعب توجيهها، ناهيك عن إثباتها، لقيادات حماس( وأنا من معارضي حماس) على الأقل بالشكل الذي أرادته له الدعاية الصهيوينة. فرصيد قيادات حماس في دفع ثمن مواجهتهم لإسرائيل رصيدا كبيرا لا تخطئه العين المجردة. فالعديد منهم استشهد واستشهد كذلك أبناؤهم.


في الجانب الآخر لاتقل الحجج والمحاججات الإعلامية العربية ذات المنحى الرسمي تهافتا عن منطق الإعلام الصهيوني। فقد حاولت الأنظمة العربية عبر وسائل إعلامها وعبر دفاعات نخبها السياسية والثقافية التهرب من استحقاقات الموقف السياسية بالتشبث بما يعتبرون ان له الأولوية المطلقة وهو وقف العدوان. وليس لديهم بطبيعة الحال مايوقفون به هذا العدوان سوى وسيلة واحدة هي الشجب ومناشدة المجتمع الدولي المعبأ بصورة واسعة إلى جانب إسرائيل. فعلى سبيل المثال قدم الكاتب، والوزير الأردني السابق، صالح القلاب رأيا تضمن رده على مطالبة بعض الأردنيين في الشارع وفي البرلمان بوقف عملية السلام والتطبيع مع إسرائيل وقطع العلاقات الدبلوماسية معها بان هذه الطروحات ستعالج فيما بعد لان الحكومة الأردنية، حسب طرحه، تركز الآن على وقف العدوان. وهذه أل (فيما بعد) والتأجيل لأي استحقاق هي كل ما تحتاجه إسرائيل لتؤدي مهمتها إلى نهايتها المرغوبة. ولا افهم كيف يريدون وقف العدوان من غير ان يستخدموا وسائل الضغط السياسية والدبلوماسية؟ وأي مبتدأ في السياسة يعرف ان التلويح او القطع الفعلي للعلاقات السياسية والدبلوماسية هو احد أهم أشكال الضغط السياسة والدبلوماسية، إذا ما كان خيار الرد العسكري مستبعدا كما هو عليه الحال الآن. ولم يقف السلوك المتخاذل من قبل الأنظمة التي تربطها علاقة حميمة بإسرائيل عند هذا الحد من الإسفاف بل تعداه إلى أنها عجزت حتى عن القيام بما تقوم به أي دولة او حكومة تحترم نفسها ،وهو القيام ،على سبيل رد العتب، باستدعاء السفير الإسرائيلي وتقديم احتجاج له او طلب توضيح رسمي منه.

لكن يبدو ان هذا الكلام هو ترف مفرط في ظل الوضع المتدهور للسياسة العربية। لان ما تقوم به إسرائيل هذه المرة ليس بعيدا عن التناغم والانسجام بين/ ومع تطلعات ورغبات هذه الأنظمة.


إسرائيل تريد ربح المعركة في جميع ميادينها। وهي تريد ان تستولي، بالخطاب الإعلامي الممرر عبر وسائل إعلام تطرح نفسها، بديماغوجية، على أنها قنوات إعلامية محايدة وموضوعية وحرةـ على عقل ووجدان المتلقي العربي من خلال ضخ الأكاذيب والتشويهات التي يروجها، بالإضافة إلى هذه القنوات الإعلامية، عديد من الكتاب العرب، والناطقين بالعربية، من المنضوين، بدوافع انتهازية او بسبب الوقاحة، تحت خيمة الرؤية العدوانية الاستعلائية الأمريكية والإسرائيلية، كتاب هستيريون مهمتهم غالبا هي إبراز ( شرور )حماس و(فضائل) نصيرتهم وموديلهم المفضل دولة إسرائيل العنصرية।


لكن هل ستربح إسرائيل المعركة؟



2009-01-05

غزة والعرب






بدأ الهجوم العسكري الإسرائيلي البربري على غزة وكالعادة، وكما بات معروفا، لم تحرك الأنظمة العربية ساكنا، ولم يثر احد منهم ردود فعل تقليدية، بالصراخ والوعيد، سوى الهامشيين ومن هم بعيدون عن خط المواجهة، كاليمن وليبيا.
ولكن ما لغريب في صمت العرب هذا وقد تحرك الاتحاد الأوربي قبلهم وخرج بمبادرة عملية ذات طابع إنساني تطالب بوقف مؤقت لإطلاق النار (48 ساعة). ـ مضحكة عبارة وقف إطلاق النار هذه وكان هناك طرفين متعادلين يطلقان النار على بعضهما وليس دولة غاصبة تهاجم بترسانة أسلحة حديثة شعب اعزل. ـ أقول ما لغريب في الصمت العربي وقد سبقته سلسلة متصلة من الصمت وانعدام الاستجابة حتى لأبسط أشكال الاحتجاج المعتادة، كالشجب والتنديد او بكليهما معا، على اعتداءات لاتقل وحشية وانحطاطا من اعتداء غزة؟
فقبل أكثر من عام هاجمت إسرائيل دولة مستقلة هي لبنان وهدمت عاصمتها وسط صمت وتواطؤ عالمي وعربي والحجج هي ذاتها: ان إسرائيل تدافع عن نفسها ضد الإرهاب، وهذا الإرهاب، ان صح توصيفها له، قد خلقته هي او ساعدت على خلقه بوجودها وبفرض كيانها الغاصب في المنطقة.
لكن صمت العرب لم يعد تعبيرا عن العجز والتخاذل، وفق نفس منطق الخطاب الذي اعتاشت عليه بعض من هذه الأنظمة طويلا، وإنما هو مؤشر إضافي لمرحلة دخل فيها العرب، أنظمة ونخب، مرحلة التواطؤ العلني والاشتراك المباشر مع إسرائيل في اعتداءاتها وتنفيذ أجندتها. فإسرائيل كما بات معروفا، وبعدما نجحت، بتفوق، في ان تجزئ وتفكك قوة خصومها في المنطقة، لتنفرد بأي طرف متى تشاء، لم تواجه، في سنوات ما بعد كامب ديفيد، أي طرف من خصومها إلا بعد ان تحصل على نوع من الترخيص والقبول، في الخفاء او العلن، من أطراف فاعلة ولها تأثيرها في المنطقة، كمصر والسعودية، بالإضافة طبعا إلى الطرف المحلي المنتمي لهوية الطرف المهاجم. هذا ما حدث في لبنان في حرب تموز 2006 فقد كان المستهدف سلاح حزب الله و ما سمي بالمشروع الإيراني في المنطقة، حيث جاء الهجوم الإسرائيلي وكأنه ينفذ أجندة محلية تبغي تحقيق إعادة توازن داخلية في لبنان، تقلص او تنهي دور حزب الله السياسي. بمعنى ان تناغما واضحا قد حصل بين رغبات وأهداف إسرائيل وبين رغبات خاصة لمعارضي حزب الله في لبنان. والحجة او السبب هو ما يطرح بالعلن عن طموح إيران في دور إقليمي ورغبة في التمدد في المنطقة.
وما يقال عن الدور الإقليمي لإيران هو ليس أمرا جديدا في المنطقة. ففي الماضي كان هناك حديث هستيري عن مساعي لمد نفوذ سوفيتي، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد راهنت عليه كثيرا. وهي قد بنت فعلا جزء كبيرا من قوتها المادية بفضل الدعم والمساعدات السوفيتية السخية. وكان ذاك التقاء مصالح وليس تلاقي أيدلوجي سياسي كما في بعض جوانبه فقط. فقد كان معروفا آنذاك ان المنطقة تخوض حربا بالنيابة عن القطبين العالميين المتصارعين. وما حرب لبنان الطويلة إلا فصل من فصولها. لكن في وضع حماس الآن، وليس الأمر نفسه تماما مع حزب الله، وعلاقتها بالنفوذ الإيراني هو من وزن اقل. فإيران ليست قطبا عالميا وهي دولة بقدرات محدودة، وكذلك ليست حماس منظمة التحرير الفلسطينية المدعومة بقوة عالميا وعربيا. لذلك تسهل عملية فك تشابكات هذا التداخل في الأجندة وفك طلاسم التمدد والإشارة إليه.
ومن الواضح ان مشروع التمدد الإيراني يبدو أكثر إخافة لأنظمة المنطقة من أي شيء آخر، أولا لخلفيته، باعتباره ذي طابع إسلامي يلقى قبولا لدى الشارع العربي، ولخلفية الأنظمة نفسها المشحونة بقدر كبير من التوجس ألامني والقلق الطائفي. فحتى العروبيون والبعثيون في العراق، مثلا، قد غيروا من موقفهم إزاء الاحتلال الأمريكي بحجة مقاومة النفوذ الإيراني الأكثر خطورة، (ولكن هذا موضوع آخر له تفصيلات مختلفة). ولهذا نشهد الآن نوع من التحشد المعلن وشكل من الاصطفاف العلني هذه المرة مع إسرائيل ومن قبل مصر بالتحديد. فقد أعلنت ليفني( وزيرة الخارجية) قرار مهاجمة غزة من القاهرة وليس من مكان آخر، ولم يكن غلق معبر رفح طيلة فترة حصار غزة إلا جزء من عملية الهجوم على حماس وتفكيك قدراتها. وهذا بالنسبة لإسرائيل، والى حد ما لمصر أيضا، لا يعني مقاومة النفوذ الإيراني ووقف عمليات حماس العسكرية فقط، وإنما وبشكل أساس لإسكات أي صوت معارض للمشروع الإسرائيلي او الرؤية الإسرائيلية لحل القضية الفلسطينية. فإسرائيل، وهذا لم يعد سرا، أرادت، ولا تزال، من السلطة الفلسطينية ان تكون حزاما حاجزا لها يجنبها مشاكل إدارة الضفة والقطاع المتعٍبة ويحميها بنفس الوقت منهما لكونهما السكينة التي توخز خاصرتها على امتداد تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فإسرائيل أرادت ولا تزال من اتفاقات اوسلو ان تجعل من السلطة الفلسطينية جدار حماية يقيها المواجهات. أرادت من السلطة الفلسطينية ان تكون جيش جنوب لبنان بمواصفات جديدة، لهذا كانوا يلهجون وينحبون طيلة فترة إدارة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لشؤون السلطة الفلسطينية على عدم وجود شريك مؤهل لعملية السلام. مع ان الرجل كان في منتهى المرونة بتعامله في حل المشكلة؛ وهو بطبيعة الحال كان يبغي ان يستثمر اتفاقات اوسلو لأقصى مدى يحقق فيه مصالح لشعبه، لكنه لم يستطع، رغم مرونته وحرصه على إنجاح عملية السلام والوصول إلى حلول، ان يصل إلى أي اتفاق معقول مع الجانب الإسرائيلي، لان ما كانت تريده إسرائيل، ولا تزال، هو شكل علني ومفصل من التفريط بكل الحقوق الوطنية والقانونية للشعب الفلسطيني، وهي لا تريد الالتزام حتى باتفاق اوسلو وبنتائجه. لهذا السبب وبسبب من وقوف الراحل ياسر عرفات عند حد لم يعد ممكنا تجاوزه، ولدت حاجة ملحة للتخلص منه، فحاصرته إسرائيل طويلا وأخيرا استطاعت ان تتخلص منه بتسميمه (وهذا حديث مؤلم وذو شجون).
نحن الآن أمام مرحلة جديدة باتت فيها الاصطفافات في المنطقة تأخذ شكلا مباشرا وعلنيا تمتزج فيها مصالح إسرائيل الاستراتيجية مع مصالح الأنظمة العربية، ولن يكون غريبا بعد الآن وقوف هذه الأنظمة والنخب التابعة لها مع إسرائيل ضد أي طرف في المنطقة تريد إسرائيل تصفيته. بالأمس كان حزب الله واليوم حماس وغدا سيكون طرفا آخر جديدا ستفرزه تطورات الصراع. ولكن هذا الصراع سوف لن ينتهي بالضرورة كما تشتهي له أنظمة فاسدة متواطئة مع عدو غاصب ومستهتر، فللتاريخ منطقه ولمسار الأحداث جدوله الخاص لهذا ستبقى، ولمدى طويل، الجبهة مفتوحة وسيبقى الجرح نازفا.

31/12/2008