٢٠٠٧-٠٩-٣٠

اضحوكة المناضل




(بمناسبة تبرع جلال الطالباني بمبلغ مائة ألف دولار من مخصصاته لجامعة بغداد)



من يذكر منكم كلاما قيل ذات يوم، ومن أي عدو كان، عن الثروات الشخصية أو المخصصات المالية لكل من جيفارا وهوشي منه؟

لا احد بالطبع! لان هذين الرجلين كانا ببساطة مناضلين حقيقيين، ولانهما مناضلان مخلصان بحق، فقد بقيا خالدين في وجدان الناس، وفي صفحات التاريخ البيضاء. ولكن لماذا نذهب إلى امثولات بعيدة واستثنائية، فعندنا في العراق، كان هناك ذات زمن، رجل عسكري عليه موآخذات السياسة والحكم، لكنه بقي خالدا في ذاكرة الناس، ولم يغادر البقعة البيضاء من مدونات التاريخ التي وضعه حب الناس له فيها، ليس لأنه سياسي داهية، بل لأنه انتمى بصدق للفقراء، وكان حاكما نزيها، يعيش على مرتبه، فأحبه الناس ورفعوه بأحلامهم إلى القمر.

أظن أنكم أدركتم من إنني كنت أتحدث عن عبدالكريم قاسم، الرجل الذي صمدت صورته النقية في وجدان الناس رغم كل النقد لمرحلته ولشخصه السياسي.

بدوره وحين طال به مقام السلطة، حاول المأبون صدام حسين أن يتشبه بعبدالكريم قاسم بتفقده لأبناء الشعب الفقراء، فمسخ التلقائية التي كانت تغلف سلوك الزعيم بعدما حول ـ صدام ـ، بسحنته السمجة، الناس المرعوبين أمام الكاميرات، إلى واجهة لدعاياته التي لم يقنع بها إلا من هم خارج الحدود، فاخذ لهذا الافتعال والكذب مكانه الحقيقي الذي يستحقه:

عثر عليه مختبئا في جحر، أشعث, قذر، يعبث برأسه القمل، يعاني صرعات استيعاب عزلته ومقت الشعب له.

وتاريخ السياسة والحكم يعيدان، بمكر، أنتاج النموذج السيء أكثر من النموذج البطولي. وكأن وجود مثل هؤلاء الناس الاستثنائيين، أمثال جيفارا وعبدالكريم قاسم، في مسيرة التاريخ والحكم هو من اجل إثارة أعصاب المحتالين من لصوص السياسة، وليدفعهم إلى تقليد هذه النماذج بطريقة ستفضحهم، لان سليقة الناس وفطرتهم تشتعل كمجس < رادار> متطور يميز الزائف من الصادق فتنكشف أمامهم الألاعيب البهلوانية.

أيضا علمتنا تجارب الحياة أن السلوك حين يفقد اصالته يصير عتيقا، وغير ذي قيمة ولايقتننع به أي مخلوق إلا إذا اختار هذا المخلوق أن يكون أحمقا. وأكذوبة السياسيين العراقيين، المشتغلين بالعملية السياسية الآن، المدعين بأنهم جاءوا لأجل هذا الشعب، تفضحها بعض العلامات التي قد لا ينتبه لها البعض. فخروج أي مسؤول أمام شاشة التلفاز ـ بعضهم أدمن هذا الظهورـ سيظهر في خلفية المشهد، بعض العلامات البسيطة عن الهوة ـ<الاجتماعية ـ الطبقية> التي تفصل هؤلاء عن سواد الناس الأعظم، الذي يرزح تحت حالة من ضغط الفقر والجوع الحقيقيين. ويكفي لمن لا يريد أن يصدق أن يذهب إلى إحدى مدن الجنوب، ليرى بنفسه صورة لمدن من القرون الوسطى، يعيش في مستنقعاتها العراقيون. تظهر على شاشة التلفاز، مثلا لاحصرا، شخصية نسائية كل رصيدها السياسي هو أن أبيها شهيد، وان زوجها متنعم بالكنف السياسي الكردي، فجعلها هذا تتنعم بالدلال السياسي والرفاه المادي الذي <لا يليق> في ظروف العراق الحالية إلا بساسة فاسدين. وما يظهر أمام كادر التلفاز من أثاث لبيت هذه <المناضلة> يكفي ثمنه، لمدة أسبوع على الأقل، من إطعام حي < الحياتية> الفقير في مدينة البصرة، الذي يعيش منذ أن تشكل على هامش الحياة. أما المقررة في لجنة الدستور< مريم الريس> فالمصيبة في حالتها اكبر، فقد ظهرت هذه الآنسة الجذابة واحدى يديها مليئة بالذهب والأخرى مشحونة بالماس ـ وهذا تنوع رفاهي بهرجي نادرـ هذا ما يظهر عفويا وبالعلن أمام الناس، أما ماهو مخفي فأكيد انه مخيف، لاسيما إذا عرفنا أن نسبة الفساد في العراق بلغت مستويات هائلة جاوزت ال70%. وآخر فضيحة علنية لفساد مسؤول عراقي لحد الآن كانت بكشف لصوصية أمين بغداد < علاء التميمي> الذي سوق نفسه إعلاميا كبطل في إعادة اعمار البلد.

قد يعترض احد ما، أو يحاول أن يهون من الأمر، فيقول إن هؤلاء هم من هامش السياسة. حسنا ولكن المتن مصائبه اكبر. فهذا رئيس العراق رقم خمسة< كم محرج هذا الرقم في مخيلة العراقيين> جلال الطالباني الذي تملكته <الخفة التي لا تحتمل>، وركبه المرح بعد عبوس لازمه طيلة أيامه السالفة، بعدما صار رئيسا، < بالانتخاب ـ المحاصصي، وليس الديمقراطي> كما تلهج بذلك وسائل الإعلام المساندة له، اخذ يؤسطر شخصيته بمساندة مفضوحة من أقلام رخيصة، ومؤسسات إعلامية وحزبية ممشغولة لحد الخبل، لإظهاره بصورة المناضل. الصورة التي يدرك زيفها ألعراقيون ممن اتيحت لهم فرصة الاقتراب من هذا الحاكم. ولا تزال ذاكرة الكثير من المواطنين الذين هربوا بعد فشل انتفاضة آذار < التي أسهم الطالباني بتكتيكاته الانتهازية بدور في إفشالها> إلى الأراضي الإيرانية، وشاهدوا موكبه <النضالي> بعد هربه< في الوقت الذي كان خصمه اللدود مسعود البارزاني يقاتل بنفسه قوات الحكومة في مناطق أخرى> يحيط به الحراس من كل مكان ويطبخ الخدم له ولزوجته< فاصوليا خضراء، نادرة ألوفرة في ذاك الموسم> بينما كان الناس لا يجدون ماياكلونه أو يتدثرون به. هذه الواقعة وأشياء غيرها هي التي دفعت ببعض الشباب، ممن كانوا يؤلهون الطالباني، لحماستهم القومية العمياء، يغيرون رأيهم به جذريا.

اذكّر بهذا الآن لان هناك محاولة تزييف أخرى لتقديم< أضحوكة المناضل> التي يراد تكريسها في وعي الناس بالضخ الإعلامي الكاذب وبالإصرار على ابتكار صفة <المناضل ـ التي عبر من تحتها عتاة السفلة والدكتاتوريين> المراد إلحاقها وترادفها ب /ومع شخصية الرئيس رقم خمسة. مثل محاولة إظهاره، كما سجل لسيرته احد الأدعياء، وكأنه كان مقاتلا مغوارا يشارك < البيشمه ركة> العيش بالكهوف ويشاركهم شظف العيش، بينما هو، وبشهادة شخصية عيانية، كان يسكن خيمة <هاي لايف> صيفا، وبناية محصنة ومريحة شتاءا، في< كه لي ناوزنك> على الحدود الإيرانية، تفصله عن المقاتلين مسافة في المكان، لضرورات هيبة السلطة، مع خدمه الخاصين وأطعمته الخاصة وبعض الويسكي. وفي الحقيقة أن صفة المناضل بحاجة إلى تدقيق موضوعي ووقائعي يحاكمها كمفهوم وممارسة، ليس لهذا المخلوق وحسب وإنما لكل من يحاول ارتداءها، لأنها أصبحت سهلة الركوب واخذ يمتطيها كل من يشاء.

والمضحك - المبكي إن هذا الرجل صدّق، كسابقه المابون صدام، انه مناضل. واخذ يكرر هذه الأكذوبة < بعدما عجز عن إثبات أكذوبة الدكتور التي روجتها وسائل الأعلام في بداية ركوبه منصب الرئيس >وآخر لحظة مضحكة وهزيلة الحق بها هذه الصفة بشخصه هي حينما قال، بخفته المعهودة، في مؤتمره الصحفي مع سيده السفير الأمريكي< زلماي خليل زاد> انه كان يعرف زلماي من أيام النضال المشترك ضد النظام الدكتاتوري. ولكم أن تتصوروا خشونة حياة ونزاهة وصدق النضال المشترك مع شخص كزلماي خليل زاد.

مصيبة هذا الرجل انه يتشبه بصدام. والمابونون، غالبا، يتشابهون بالفطرة. وهو، أي رقم خمسة، مغرم في تثبيت فضائل ما يفعل، ويحاول تكريس صورة انه شخص صاحب مآثر، كان اخرها تبرعه، وباسمه الشخصين لاحظوا ذلك، بمبلغ مائة ألف دولار لجامعة بغداد، في محاولة منه لتكريس صورة الرجل المحب للعلم، والمحترم لمؤسساته، ولكنه لم ينتبه، كعادة المغرورين، إلى تساؤل مرير يمكن أن يخطر في ذهن المواطن مفاده:

من أين له هذا المبلغ؟ وكم هي كثيرة مخصصاته التي يستطيع أن يتبرع منها <بخردة> قدرها مائة ألف دولار؟

نقول: الايحفز هذا السلوك من هو معني بشان الوطن، أن يلح بإعادة طرح السؤال، بضرورة إلزام الحكومة الإعلان، وبشفافية، عن رواتب ومخصصات المسؤولين الفعلية كما هو الحال في النظم الديمقراطية الحقيقية في العالم؟ أيبقى جلال الطالباني وأمثاله، وقبلهم صدام، يتصدقون على الشعب العراقي من أمواله وخيراته. ثم أليست هناك آلية وأسماء لمؤسسات يمكن أن ينسب إليها التبرع، إذا لم يكن من جيبه الشخصي< وهو مليء بلا شك> ولماذا يقدم باسمه؟

هكذا أذن وكالعادة. ساسة نهابون يتصدقون على الشعب من أمواله، ليجمعوا بها رصيدا سياسيا لهم.


إنها دائرة مغلقة تلك التي ندور فيها إذن!

*****


هامش

الطرفة التي أوردها هنا كان يمكن لها أن تثقل على المتن، فآثرت أن أدونها في هذا الهامش للاستئناس بها:

ذات مرة في عام 1979 زار وفد من أنصار الحزب الشيوعي العراقي مقر< الطالباني> في <ناوزنك>، وكان من ضمن الوفد الكاتب الشاب< آنذاك><محمد ره نجاو> وكان مسلحا ببندقية جديدة، هي واحدة من 16 بندقية قدمتها قيادة الاتحاد الوطني هدية إلى أنصار الحزب الشيوعي:
فسال< الطالباني > متذاكيا <ره نجاو>

من أين لك هذه البندقية؟

آملا بطبيعة الحال في أن يحصل على إجابة مشفوعة بالمديح وكلمات الشكر ليحقق هدفين من ذلك.

أولا. مديح يكرس صفة المتفضل ليرضي غروره.

ثانيا. إذلال الشيوعيين بإظهارهم كشحاذين ومحتاجين وتابعين.

لكن حظه العاثر رماه أمام هذا الشاعر المتمرد والصعلوك فأجابه بذكاء وجرأة.

إنني محتفظ بها منذ عام 1966.

وكانت إجابة مفحمة، لأنها تذكر بأيام كان الطالباني فيها< جاش>، أي مرتزق لدى السلطة الشوفينية في بغداد ـ وأدرك
< الطالباني> إيحاءاتها فغضب واشتكاه للقيادة.

السويد
29-7-2005

العراق... طريق الانتفاضة ام الحرب الاهلية؟




تستنتج بعض الطروحات التي تتناول الشأن العراقي بكثافة إمكانية التحول الجذري في مزاج الشارع العراقي نتيجة مراكمة الغضب والعنف وانتقاله إلى حالة الانتفاض، أو بتعبير قديم <الثورة> يقضي بها على الاحتلال و بالضرورة على أتباعه من حكومة وطبقة سياسية مرتبطة بمشروعه وبسياساته، و كذلك على من يتكأ على جهد ومشروعية <المقاومة> ـ حسب وجهة النظر تلك ـ التي تستثمرها بقايا النظام من بعثيين وغيرهم. ورغم إن أصحاب هذه التحليلات ينطلقون غالبا في تحليلاتهم من أرضية خيالية وافتراضية، ويصوغون أحلامهم من رغباتهم وإسقاطاتهم الورقية إلا أنهم يستندون، في استنتاجاتهم، إلى بعض المعطيات الواقعية. وهذه الأحلام، والحق يقال، هي أحلام جميلة يتشوق إليها كثيرون ولكنها بالمحصلة الأخيرة أحلام لاتغني ولا تسمن. أما الوقائع الحقيقية التي يستند عليها هؤلاء، ويراها كل متابع للشأن العراقي، فهي متمثلة بالكم الهائل من السخط والقلق والضيق الذي يكتنزه الفرد العراقي، ويطوق تفاصيل حياته اليومية محولا إياها إلى كابوس ثقيل متواصل. وحالة الغضب والخوف تلك التي يعيشها المواطن العراقي بكثافة اليوم ناتجة من الاحتلال بصورة أساسية، ومن حالة فقدان الأمن وغياب وتغييب الخدمات الحيوية < ماء وكهرباء>، ومن مصادرة القوى الإسلامية للحريات الشخصية الأولية للمواطنين، وغيرها الكثير مما هو غائر بالتفاصيل الصغيرة التي لم تعد تلاحظها ولا تتوقف عندها العين المجردة لسعة وبشاعة مشهد الدمار الشامل الذي يلحق بأبنية الحياة يوميا.

بالتأكيد أن هناك الكثير مما يلفت الانتباه في بعض الحالات التي تبدو وكأنها تنذر بتوجهات للانتفاض على الأوضاع بمجملها. منها، للمثال لا الحصر، مظاهرات الاحتجاج على شحة المياه وغياب الخدمات بقطاع الزراعة التي حدثت في مدينة السماوة، والتي هددت بأهازيجها بإعادة أمجاد ثورة العشرين، ولكنها فعليا لم تفعل، أو لم تستطع أن تفعل أي شيء، حتى بعد اعتداء الشرطة في اليوم التالي على متظاهرين آخرين من نفس المدينة كانوا قد خرجوا يطالبون فيها بحقوقهم المشروعة، وقُتل فيها شخص وجرح آخرون، مع أن ألتظاهرة كانت تحركا سلميا متطابقا مع الأعراف الديمقراطية التي تصك بها الجهات الرسمية أسماع ألناس.

الأمر الأكثر إثارة هو إن توقعات الانتفاض ـ وهي تطرح هنا وكأنها قدر قادم لا محالة ـ لم تنظر، بتقديري، الى الواقع من جوانبه الأخرى الأكثر قدرة على التحقق. فهي لم تنتبه إلى أن بنية المجتمع العراقي وتركيبته السياسية والاجتماعية المتشكلة أو المعاد تشكيلها حديثا، وما يمر به الآن من حالة واسعة من التفكك والتبعثر والتوزع المشوه، القائم على أسس طائفية ودينية وعرقية، لا يستطيع أن ينتقل بغضبته المتراكمة تلك إلى حالة الانتفاض. لان هذا التشكل المشوه والنشاط المبرمج والمكثف لتصعيده وتكريسه، مع غياب البديل الوطني الديمقراطي، وهشاشة تكوينه وخفوت صوته، ومع التراجع في البنية الحضرية للمجتمع، والأكثر خطورة حالة الترقب السلبي والخنوع التي صيغ بها المجتمع والفرد في زمن الفاشية البعثية الطويل، هذه العوامل مجتمعة هي قادرة على أن تحرف عناصر الغضب المعتملة في المجتمع وداخل الفرد باتجاهات أخرى، مغايرة تماما لتوقع الانتفاضة المفترض. لاسيما وان الواقع ألان قد تقلصت آفاقه وأصبح مفتوحا على الاحتمالات السيئة فقط. فالاحتقان الطائفي والسياسي الدائر الآن في الواقع العراقي والذي تغذيه بقوة وحنكة، وسائل إعلام وأجهزة مخابرات وقوى سياسية ومذهبية متعددة، يرحل أسباب الضغط اليومي والاحتقان التي يعيشها ويعانيها الفرد العراقي إلى غير مسبباتها الفعلية. حيث سيجري إفهام المواطن الفرد وإيهامه، بالتضليل وشحذ العصبية، إن معاناته سببها خصمه الطائفي ابن المذهب الآخر أو القومية الأخرى. خصوصا وان أفعال التخريب والقتل اليومي العشوائي التي تقع يوميا على الأرض قد لبست ثوبا طائفيا صريحا < رغم تصنع نبذ الطائفية المعلن > وهناك أيضا الكم الكبير من الضخ الأيدلوجي التكفيري، مذهبيا ودينيا، أو الاقصائي قوميا، الماثل والمتحكم بالوعي الجمعي وبالذاكرة التي يعاد تشكيلها بطريقة أحادية تجتزأ الوقائع فيها وتوظف بكثافة. كل تلك العوامل ستنتقل، بتقديري، بغضبة المواطن ومراكمات سخطه إلى الحرب الأهلية وليس إلى الانتفاض لبعد الشقة بين الحالتين وعوامل تحققهما. وبالتدقيق البسيط نجد أن عوامل إذكاء اتجاه الحرب الأهلية قائمة في الواقع اليوم بقوة. فبعد فشل سياسة الحكومة الأمنية بـ (خطة البرق) في تدمير بنية الإرهاب وارتداد نتائجها إلى <مؤخرة> وزير الداخلية <باقر صولاغ> وسيول التهم الطائفية التي تنهال على الحكومة ومحاربتها دمويا لذات الأسباب، بقتل أبناء مذهبها على الهوية وبالجملة، هي وقود جاهز للاشتعال وبحاجة فقط إلى شرارة تفجره. ثم إن الارتباك والتراجع المستمر في حياة المواطن اليومية نتيجة سياسات الطبقة السياسية باجمعها، أخذت تدخله بخطوات عريضة في دائرة اليأس ـ واليأس أوسع الطرق العدمية المفتوحة على الحرب الأهلية ـ وصار يغطي حياة العراقي الآن < حسب مجاز فني مبدع > لون الدم الأحمر، بالتفجيرات والقتل، في النهار، والظلام، لغياب الخدمات، في الليل. ويبدو أن شمعة <حكومة الشمعة> أكثر عجزا من أن تستطيع إضاءة ليل العراق الدامس، وستفتح الباب برحابة، هي وخصومها، لنار الحرب الأهلية لتغمس العراق بمطهرها.

السويد
17-7-2005

٢٠٠٧-٠٩-٢٩

موت غير مدفوع الثمن






ليست هناك لحظة في الحياة أكثر عبثية من لحظة الموت. ليس بمعناه الوجودي كفكرة فقط وإنما حتى في كونه واقعة مادية. وداخل عبثية الموت تلك تقبع عبثية أكثر ضراوة هي فجائعية الموت قتلا وبالمصادفة، أي موتا غير مقصود لذاته ، موتا عابرا وبلا مقدمات. والمرء ان كان غيبيا لاستطاع العثور بسهولة على تفسير لهكذا ميتة يريحه ويطمئنه ولأحال أسبابها إلى القدر المكتوب. وهذه الإحالة تقدم تعليلا سهلا ولكنه لن يكون كافيا ولا مقنعا عقليا لمن لايستطيع استيعاب حتى مسالة دور الحظ والصدفة في الحياة، ويحاول أن يعثر لكل شيء على تأويل علمي يفسره.

والموت بالقتل، الذي ترسم ملامحه ومقدماته، غالبا، مجموعة من المصادفات الذكية، يدفع العقل للتأمل كثيرا في كيفية وقوعه. فهل ندرك مأساوية وغرابة وعبثية أن يتساءل امرئ ما يسير في احد الشوارع ـ كشوارع مدينة مثل بغداد، في هذه الايام، تنتفض تحتها مراجل الجحيم ـ أي شارع او منعطف او زقاق سيحمل اليه مصادفة الموت غير السعيدة؟

نستطيع أن نأخذ ماوقع في تفجيرات لندن الأخيرة كمثال مميز لما أحاول أن اطرحه هنا للتأمل.

كانت مهمة احد الإرهابيين الأربعة ممن قاموا بأفعال القتل العشوائي في محطات لندن يوم 7-7 هي أن يفجر احد قطارات الإنفاق ولكن المصادفة، أو شيء آخر لا اعرفه، عطل هذا القطار <في تلك اللحظة وذلك اليوم بالذات!!>مما دفع بالإرهابي إلى ركوب حافلة دفعتها قوى ما، خفية، إلى أن تمر< بهذا التوقيت بالذات> في المكان وتكون هدفا بديلا صالحا للعملية من غير أن تكون مقصودة لذاتها ولامخططا لتفجيرها. وبهذه المصادفة أو < اعثروا لها على تسمية> أنقذت حياة راكبي القطار لتستبدلها بحياة راكبي الحافلة حيث قتل ثلاثة عشر إنسانا< ثلاثة عشر حلما إنسانيا>.

أليس ما تحمله مصادفة كهذه هو عبثية مضافة للحظة الموت المخبولة؟!!

.أكيد إن هناك من يتساءل< محقا> وبسخرية:

وماذا عن العراقيين الذين يقعون يوميا بمصادفات أكثر عبثية في فخاخ القتل المحمول على متن الفتاوى ويذهبون ضحايا لميتات مجانية بمصادفات أكثر عبثية تجترحها اجتهادات النص المقدس؟.

كم هو قاتل هذا المقدس!!

لكن قد يمكن الاستدراك هنا والقول، بان أي ميتة من تلك التي ذكرت حتما ان لها مخطط يسبقها، وان من يقتل من ضحاياها انما قصد لجنسه وانتماءه إن لم يكن لشخصه. فالعراقي يقتل بعشوائية لأنه <خون> وصار دمه مباحا بشعار حب الوطن ـ السلطة، وأوهام نهضة امة في طور الذبول قوميا، وبدجل حب الله ـ الجنة، وفوز الفرقة الناجية دينيا. والبريطاني، وان كان غير إنكليزيا،هو يحمل وزر وقوعه تحت سيوف تكفير من يكفر الناس أجمعين. لكن ليس هناك مثال أكثر فضائحية لمجانية الموت كما هو مثال الشاب البرازيلي ـ جان تشارلز مينيسيز 27 عام ـ الذي قتلته الشرطة البريطانية يوم 22-7 لشكوكها، كما قيل، بإرهابية لايعرف لها أي معنى لا في ثقافته ولا في بلده.

كيف نتصور أن تقود مصادفة بليدة رجلا لاينتمي لأي طرف من أطراف الصراع < الغرب ـ الإسلام> إلى أن يدفع حياته ثمنا لتقاتلهما. فهو لم يكن بالبريطاني ليستحق عقوبة< مجاهدي الإسلام > ولاهو بالمسلم حتى يدفع ثمن جرائم إرهابيين تقنعوا بالدين لينتقموا من بني البشر.

هل كان ضحية للإرهاب وان لم يقتل بيده ؟
أم كان ضحية لغضبة اللامساواة وفقدان العدل الغربية؟

قد تكون هناك قصة بسيطة وسبب تافه وراء مصادفة وقوعه تحت أعين شرطة الإنكليز القاتلة، فقد يكون كل ذنبه انه اخطأ تقدير العواقب في سلوك بريء لايؤذي أحدا قام به، كعدم قطعه تذكرة مترو الانفاق مثلا، وهو ما يفعله الكثير من الشبان في البلدان الأوربية، فقرا أو عبثا لافرق. فهل هناك ماهو ارخص وأكثر غرابة من هذه الميتة ومسبباتها؟!!.

كان يمكن ببساطة لهذا الشاب أن يبقى حيا ويواصل نسج أحلامه في بناء حياته لو لم يجّرم مهووسون ساديون باسم الدين مجتمع بريطانيا بأكمله، دون أن يكترثوا لمفارقة أنهم جميعا، هم وأساتذتهم من فقهاء الظلام، قد تمتعوا بفضائل كفره وفجوره. وكان يمكن لهذا الشاب ان يستمر في الحياة لو لم يهيج الارهاب سلطات الأمن البريطانية لتعبر عن وحشية رجل الشرطة الكامنة وسقوطه الأخلاقي< كما جزم برناردشو في مقولته الشهيرة>.

كانت وقائع قتل الشاب قد تمت بطريقة تعكس وحشية ومزاج حاقد أكثر منها ضرورات للموقف أو المهنة. فقد ذكر شهود عيان إن رجال الشرطة، وهم ثلاثة، قد استطاعوا القبض على الشاب بعدما طاردوه لعدم امتثاله لأوامرهم بالتوقف< ربما ظنهم من مفتشي القطارات> وطرحوه أرضا ليصوب احدهم، بدم بارد، لرأسه خمسة رصاصات < فقط لاغير> ويقتله.

لم يكن الشاب البرازيلي لاارهابي ولاحتى مسلم، لكنه قتل بدم بارد وبأسلوب خطة إسرائيلية اسمها <كراتوس > استعارتها الشرطة البريطانية من المخابرات الإسرائيلية< اكبر آلة لصنع الموت والدمار في العالم> تقضي باطلاق النار الفوري على من يشك فيه، وطبقتها بحرفية عالية على البرازيلي المسكين.

سوف لن يدفع احد دية هذا الشاب< وهل تعيد أي دية حياة الإنسان التي لاتقدر بثمن إليه؟!!> وسوف لن يحاسب أي موظف أو شرطي ولاحتى سياسي على ذلك، والسبب، ببساطة، إن العالم كله الآن مشغول بالمهمة المقدسة الكبرى

: الحرب على الإرهاب.

قد يحدث كل شيء في هذا العالم المليء بكل غرائب فنون الموت لكن أكيد أن ليس ثمة أمل في أن يتحقق مااهجس به من حلم قديم ومتواضع في أن يمر يوم واحد، يوم واحد فقط على الكرة الأرضية لايقتل فيه إنسان..

يوم واحد لااكثر!!


24-7-2005

مـرآة




قصة قصيرة


الأرض تقعرت، لها اهتزازات زورق عند جرف، وأعمدة الشارع تراكبت فوق بعضها وأنوارها اختلطت مع الظلال الناعمة، مغبشة، صفراء. ركن الرصيف يتموج، يقترب تارة ويبتعد أخرى. هناك، في الجهة الأخرى، كل الأشياء متماثلة، الأعمدة والأنوار والرصيف. لم يستطع سعيد سوى ان يفتح ذراعيه ويحني رأسه محاولا التوازن تجنبا للسقوط، وكتلة مرة، حامضة، حارقة تموج في أحشائه تصعد إلى فمه فيصدها اللسان وتردعها شهقة عالية. كانت عيناه الصغيرتان الزرقاوان الداكنتان تحدقان بغموض مبهم في الأرض وفي الأشياء، وتجحظان مع صعود الريق الحارق الذي تضغطه الكتلة الصخرية الحامضة من أسفل المعدة وحتى خط البلعوم. دمدم بصوت متقطع وخافت أغنية نائحة، تقطع صوته مع الشهقة وتقطع اللحن واندثرت الكلمات فصارت دمدمات مندغمة ببعضها. انحرف الرصيف من قدميه فوقع على جنبه، تلقى الأرض بيده فشعر بألم في مفصلي وعظام رسغه وساعده. همهم وأطلق أنين خافت وزفرات قصيرة متتالية. حاول الوقوف، لم يستطع ذلك فعاود الجلوس.

الليل رخيم وهادئ، ذلك ماشعر به. بعض العرق يتسرب من شعيرات راسه القليلة المحيطة بصلعته السمراء تدغدغ هامته المتخدرة من الخمر ومن الذكرى. تنبه لعمود قريب منه يُهطل نورا باهتا على الارض مشكلا بقعة ضوء صغيرة تحيطها العتمة. زحف بيديه مجرجرا جسده بضعة أمتار، واتكأ على العمود بكتفه وألقى برأسه عليه باعياء محاولا الاسترخاء. ردد بذهول وبصوت مخنوق ومخمور:
- هاي شصار بيك ؟.
مرر يده على فمه وذقنه فمسح لعابا متسللا سائحا، احأح بصوت حلقي مشروخ بالبلغم:
- شسويت بنفسك سعيد! هاي تاليها، تموت بالشارع ومثل... آه... ما يكلك رحيم هأ... هأ ت..ز دفنك... هأ البل.. هأ .. البل.. د.. ية.
زفر بقوة ملتقطا أنفاسه مع الكلمات:
- ياللا.. البل..البلدية.لدية ...البل... لد..ية... من بعد.. روحي.. شنو الفرق... اوووف... يمة بطني.
تنفسه ثقيل، يموج الإسفلت المتدثر بالتراب تحت عينيه، اتكأ برأسه على العمود، أحس باسترخاء وراحت أنفاسه تهدأ وتنتظم، والتقط ببصره غبشة المصباح أعلى العمود، سرحت عيناه تنظران بذهول موحش. هبطت أيام في قاع ذاكرته، يوم كان رشيقا قوي الجسد يعمل طيلة النهار مثيرا حوله صخبا كبيرا من الفوضى والمرح، كان مزاحه مع زملاءه ملاذا يوميا يعيد التوازن لروحه الجياشة وجسده الصاخب. كان يجهر بأغان داعرة متضاحكا مع زملاءه مشاكسا اياهم، ولم يغفل عن نظرات القلق والذبول في عيونهم المرهقة. هو يعرف إنهم كذلك لان هناك أفواه وأجساد تنتظرهم، طابور من الأطفال والمسؤوليات والمتاعب، هو وحده كان طليقان حرا، يقضي يومه كما يشاء، لااحد يسائله ولاهو يسائل أحدا... كانوا يحسدونه.
الضوء الشاحب في محيط العتمة الواسعة لحم سعيد بالعمود في كتلة رفيعة طويلة مثلثة الشكل من الأعلى، مكورة من الأسفل حيث كان يجلس ويرتمي حول حوافي جسده ظله الضئيل. لهاثه يتناقص وأنينه ينخفض مع ثقل تنفسه.
سكران!.
الرأس يتصدع من ضباب وارتعاشات وضوضاء صاخبة ودوار يعقد اللسان. من بعيد، من هناك، من عمق ما، يتسرب فحيح هامس ممزوج بلهاث مبتل وبعرق ينضح مع اللذة.
كل الأشياء: الذكريات والآمال المبهمة، والرغبات والرعشات تتكور في ذهنه ملتاثة تعصف برأسه وتطوح برقبته النحيفة المجعدة. قالت له أمطار السماء مرات ومرات ان يعكف على نفسه، ان يهجر الماضي الساخر ويُقبل على ضعضعة زمنه الآتي، وان يدعوا الدفء للتدفق في الفجوات المنسية. فسقف الغرفة لم يعد يحتمل إدمان التقابل...ارحل!.. ودع النَفَس الآخر يدفئ الغرفة المحاطة بالأمطار والعتمة، فوحشة الليل قاتلة والوحدة موت مبكر.
اخذ يسائل لامبالاته بالم في تلك الساعة التي تعصف براسه في الانحدارات العشوائية لليل. تحط الذكرى عليه كنسمة ناعمة تندي الليالي الخشنة، ولكنه كان يقهر الصخب المدوي لدورة الذكريات المغلقة، المفعمة بالحسرة وبلهفة الفوضى المخبوءة في تسائل:
كيف صارت الأيام هكذا؟!
يتسقط قلبه النبض الخافق في زاوية مضيئة تذكر الحب الذي مر عابرا مسرعا في حياته. لم يتوقف أمام سؤال الحياة والمصير عندها، تلاعب بمشاعره قبل ان يتلاعب بمشاعر الفتاة. ثم قتل احساسه بالحب شغفه الملحاح بالعاهرات. واستدرك أمام نفسه وأمام الآخرين ورفض الارتباط وداهن نفسه، وواصل سوق أيامه في تهويمات الخدر المفضي إلى نسج كتلة الزمن التي اسمها عمره.
هز رأسه وتأفف. نظر إلى الإسفلت والى العتمة والى ظله المتخثر تحته. استعان بالعمود ونهض، تمهلت أقدامه المتلعثمة بالخطو وراح يسير مترنحا، يداه إلى جانبيه بغير اتساق وجسده كتلة متموجة تندغم في الظلام.
* * * *
طرقات خافتة متوالية وملحاحة على الباب. لم تتبين للوهلة الاولى ان الصوت كان طرقا على الباب، خلته صوتا قادما من أعماق النوم، من خفق الأحلام. صَحت، لملمت نفسها داخل الغطاء وأحست بالاضطراب وتسلل الخوف مع البرد إلى جسدها فارتعشت. الطرقات تتواصل. ملحاحة لكنها ودودة، لايمكن لصحبها ان يريد الأذى. نهضت بتباطؤ وحذر فوقعت عيناها على شحوب الباحة المضاءة بضوء الليل الخافت. رفعت رأسها. السماء صافية والليل هادئ ورخيم. وأصوات كائنات الليل الخفية تبدد وحشة الصمت. اقتربت من الباب وهمست بصوت متقطع:
- منو؟
انهمر إليها صوت مرهق ومخمور.
- أنا سعيد... سعيد... سعيد رزاق.
- منو؟.
- سعيد ما تتذكريني.. أبو عيون الزرق.
- أصابها الاسم وذكراه بالذهول. استجمعت شتات ذهنها وسالت:
- وشعندك بها لليل.. الوقت متأخر.. أنت...
- أريد اشوفج.
- الله يخليك أنا كبرت على هاي الشغلات... روح ينطيك العافية.
- مو.. هذا .. قصدي.
ساد صمت تخللته أصوات الليل.
- أريد أنام... تعبانة.. عود...
قاطعها بنبرة حانية وملحاحة:
- افتحي لا تخافين.. انت.. تذكر .. تيني؟
ـ اي اتذكرك.. بس أنا ما اكدر..
ساد صمت آخر.. قطعه هو بإلحاح مبحوح:
ـ شوفي عندي.. كلام أريد. اﮔَوله ألج..
ردت بصوت احتضنته الطمأنينة ومال للهدوء:
ـ عود تعال باجر.. ياللا الله يخليك.
ساد صمت جديد.
ـ دفتحي الباب.. لا.. تخافين.
ـ آني ماخايفة.. بس..
ـ بس شنو؟ ... لميعة تذكرين أيام ﮔبل ؟
ـ اي سعيد.. ﮔبل راح وي سنينة..<بحسرة> وهسة غير أيام.
ـ زين دفتحي الباب هسة خو.. مانحجي من ورا الباب!
ـ بس شتريد؟
ـ لتخافين ما يصير إلا.. الخير
ـ محد شافك من الجيران؟
ـ الدنيا برد والناس نايمة منو يشوف!
أزاحت الرتاج الصغير وأدارت قبضة الباب، فتحت ببطء وأطلت بعينها من خلل الفجوة الصغيرة التي يشكلها الباب مع الدرفة. وجدته متكئاً بإعياء ظاهر على الحائط وينظر إليها من طرف عينه بمودة ظاهرة. لمحت طيف ابتسامته. فاطمأنت أكثر. وسّعت فتحة الباب وتنحت جانبا، امسك بالباب مستندا اليه ودخل، وقف منتظرا ومستفهما. أغلقت الباب وبدأ الاضطراب يتسلل إليها فأسرعت أمامه تدعوه بصمت إلى الغرفة. دخل وعيناه نصف مغمضتين، أشارت إلى كرسي قرب السرير. جلست هي ململة ثوبها ومنكمشة على نفسها وراحت تنظر بشرود إلى جوانب الغرفة المظللة بضوء القمر المتسلل من الشباك.
سادت فترة من الصمت. أجال ببصره في إرجاء الغرفة، نظر إليها وابتسم.
ـ دائما على بالي.
أجابت بشرود:
ـ أنت هواي متغير!
ـ ايه دنيا ما تخلي حال على حاله.
مرة أخرى صمت.
ـ كنت تريد تكَول شيء.
نظر إليها بحنو ظاهر. ابتسم، أحس وكأن الزمن لم ينقطع، كأن الزمن في تلك اللحظة كان متصلا به، بالتفافات ماضيه.
ـ اي .. أنا صحيح سكران شوية، وتعبان، بس متأكد من اللي اﮔوله..
سكت.. فرنت اليه بعينيها مستفهمة، تحثه على ان يواصل.
ـ عاشرت نسوان هواي... وشفت ناس هواي، بس أنت الوحيدة اللي حبها ﮔلبي..
ابتسمت هي بصمت... واصل هو بعينين ملتمعتين.
ـ اليوم بس عرفت هذا.. نسيت كل الناس.. بس أنت اللي اجيتي على بالي.
عادت تنظر إلى اللاشيء.
امتزجت أضواء الغرفة بابتسامتها الفرحة وبلمعان نشوة متسربة إليها.
أحس ان كلماته تلك تصحح أخطاء عمره كله.
- أنت شلون أمورﭺ هالايام؟
كان السؤال متأخرا.. لكنه لم يعن شيء لكليهما.
ـ ماشية.. الحمد لله.
نهض بهدوء واقترب من السرير، جلس بقربها، جفلت هي قليلا.
ـ أنت هم تغيرتي.. بس أنا اشوفج مثل ماﭽنت اشوفج ﮔبل، أيام زمان، الأيام الحلوة.
ابتسما معا بصمت.
مد ذراعه وأحاط بكتفيها.. انكمشت هي أكثر وراحت تعبث بتوتر بطرف الشال المنسرح من رأسها. اقترب منها بأنفاسه المخمورة، قبّل رأسها، وقبّل وجنتها.. استكانت هي.. ضم كتفيها إلى صدره. أراحت رأسها ببطء على صدره.. تنهدت والتمعت دموع ناعمة على خديها.. تنهد هو بارتياح وراح ينظر بهدوء إلى صورتهما، متكورين على بعضهما، في المرآة.


السويد
2002


٢٠٠٧-٠٩-٢٧

عاصفة

قصة قصيرة


كان يوما لاهبا!
بدأت الحرارة تشتد باقتراب النهار من منتصفه، أحسست بإرهاق وعطش فتوقفت عند بائع عصير، وطلبت عصير رمان. تحسست بيدي الكيس ألورقي، وكنت أتواصل مع فرحي خائبا. لم احقق شيئا في رحلتي! لكنني عثرت على اللعبة التي طالما ألحت عليها ابنتي الصغيرة. كنت أتخيل فرحتها وكيف ستحتضن اللعبة بيديها الصغيرتين الدافئتين وترقدها معها في الفراش، حينما وضع البائع أمامي قدحا مليئا بسائل اخضر مائل إلى الصفرة وتطفو عليه بثور دقيقة، سوداء وفضية لماعة. نظرت إلى البائع باستغراب. حين واجهت عينيه ونظراته الحديدية تبددت لدي كل نأمة للاحتجاج. لكني تمالكت نفسي وقلت بصوت هدجه التعب والقلق:
-أنا طلبت عصير رمان.. ما هذا؟
أجابني البائع بغلظة:
-هذا ما طلبت وستدفع ثمنه.. نحن هنا على باب الله..!
عجبت للهجته المتعالية والواثقة. رفعت عيني بلمحة سريعة إلى وجهه. واجهتني نظرات ساخرة من عينين بلا لون. أخافتني عيناه فأطرقت. تمالكت نفسي في اللحظات الأخيرة، فلم أُظهر هلعي... مددت يدي ببضع قطع نقدية، نظر إلي بتحد وأوشك أن يغضب:
- لست شحاذا يا هذا..! ثمن العصير أكثر من هذه الخردة. ثم عليك أن تشرب ما نقدمه لك. مفهوم!.
تحيرت في كيف أرد، وكيف أتخلص من هذا المأزق.. نفخت صدري رغم إحساسي بالخواء، تحسست شاربي لأتأكد من أنهما مازالا في مكانهما.
- أنا لااريد أن اشرب هذا الشيء، وأنا أقدم الثمن حسب ما مكتوب في لائحة الأسعار. وهذه تسعيرة دولة.
ظننت أني قد أفحمته.
أجابني ببرود وهو يقوم بحركات لا معنى لها:
-أنا أتقاضى مااقول وليس ما مكتوب. ولا تذكر اسم الدولة !
صرت أكثر ذهولا. أدركت بحدسي الذي لا يخيب باني مقبل على موقف صعب... هكذا أنا، أشم رائحة الخطر، رغم لعنة الجيوب الانفية الملتهبة ابد. واعرف أن لكل شيء رائحة. أردت أن أتوعده بابتسامة ساخرة. لكني ابتسمت بتخاذل رغما عني. قلت له:
- كم تريد ثمنا لهذا العصير؟.
قلت الكلمة الأخيرة بتقزز ظاهر.
أجاب باقتضاب وهو يتشاغل بالحركة:
- كل ما تحمله من نقود.
رمقني بنظرة حادة من طرف عينه وظلال ابتسامة غامضة كانت تطوف بزاوية فمه.
حاولت أن أجيب بهدوء لكن صوتي تهدج.
- لكني لست من هذه المدينة وأريد العودة إلي مدينتي في هذا اليوم. كيف سأستطيع ذلك بغير نقود؟
وأردفت محاولا تملقه:
- وابنتي الصغيرة بانتظاري فقد وعدتها بهذه اللعبة( أريته الكيس) وسوف لن تنام إذا لم اعد الليلة.
أجاب بتشف غريب ونبرات حادة:
- لا نامت طول عمرها. هيا اشرب العصير وادفع الثمن وانقلع من أمامي. سوف لن احتملك أكثر.
التصق لساني بسقف فمي الجاف. مددت يدي للقدح لأشرب وأنا انتظر ردة فعل أخرى منه. فكرت:
أنا لااستطيع أن أعطيه كل النقود، ولكني كيف سأتخلص من غضبه. حين قربت القدح من فمي شعرت بقشعريرة، رغم الحر الخانق، من منظر البثور الطافية على سطح السائل الغريب. أغمضت عيني ورشفت رشفة صغيرة. أحسست بحرقة لاذعة وخدر مزعج في شفتي. هربت نظراتي تلقائيا إلى البائع. كان يحدجني بعينيه الصقريتين. انتبهت لأول مرة إن وجهه كانت تغطيه البثور ولونه كالح وأبقع. شفتاه ترتعشان وتكشفان عن لمعان لأسنان مذهبة. حين أعدت القدح وقعت نظراتي على شاربين غير مشذبين ينسرح فوقهما انف غليظ تغطيه هالة سوداء. جاءني صوته المبحوح.
- يبدو إن العصير لم يعجبك... ها؟.
لم اعرف كيف اجيب، ولم اعرف كيف انطلقت أقدامي بالجري السريع وأنا احتضن كيس اللعبة ألورقي. وسمعت حفيفا قويا مرق من جانب راسي. لم اعرف بماذا قذفني... ركضت بكل ما امتلك من قوة. توقفت متقطع الأنفاس بعد أن ركضت مسافة كافية لتبعدني عن البائع. مشيت بضع خطوات، وعرق غزير يغطيني.
المدينة فارغة، ليس فيها بشر!.
أدركت اني أضعت الطريق إلى محطة الحافلات. تساءلت: من سأسأله ليدلني؟ سرت بضع خطوات. عند المنعطف شاهدت شرطي يقف فوق دائرة إسمنتية مرتفعة قليلا عن الشارع. كان منهمكا في تنظيم المرور، ويصفر بصافرة مع إشارات باتجاهات مختلفة بيديه. لم أر أي سيارة في الشارع ! أخافني المشهد، فالمدينة فارغة وهذا الشرطي كالمجنون ينظم سيرا غير موجود. اقتربت منه وسألته عن طريق المحطة.
أجابني بنفور:
- لا توجد هكذا محطة هنا.
قلت له بلهفة، فقد أوشك أن يستدير إلى الجهة الأخرى.
- كيف لا توجد، لقد أتيت منها هذا الصباح.
رأيت ارتعاشة غضب على شفتيه، فأشار بيده دون أن يقول شيئا، سرت باتجاه إصبعه دون أن أفكر. ولم انظر باتجاهه... دخلت طريقا جانبيا بغير منفذ. كان الطريق ينتهي بأرض خربة مليئة بأكداس عالية من التراب. تتبعثر حولها جذوع نخل مقطعة. المكان مغبر وباهت اللون يثير إحساسا مؤلما بالوحشة. برز رأس قط رمادي قذر من بين الأكداس، نظر إلي للحظات وأخفى رأسه بلامبالاة. عدت إلى الشرطي مرة أخرى. حين رآني أدار لي ظهره، حاولت أن أساله فلم افلح، كلما أواجهه كان يستدير إلى الجهة الأخرى. يئست. وسرت كيفما اتفق. عند منعطف صغير أوقفني صوت. كان لرجل طويل القامة. لباسه أنيق لا يناسب وحشة المكان. ابتسم لي وقال:
- يبدو انك غريب! علمت انك تبحث عن محطة الحافلات. اذهب من هنا!.
أشار بإصبع طويلة نحو الغرب. تلعثمت من الفرحة حين شكرته. حينما استدرت لأذهب لمحت أن وجهه كان نفس وجه بائع العصير. لم أعاود النظر لأتأكد، مشيت بخطوات طويلة وسريعة وأنا اكتم ارتعاشة تهزني من الداخل، ثم تحولت إلى الجري وأنا احتضن الكيس ألورقي.
كان هناكاه صحيحا، ووصلت إلى محطة الحافلات. كان هناك رجل ينادي بصوت عال على الراكبين. حين رآني صمت ودخل إلى السيارة. تلكأت قليلا. صار يزمر بمنبه السيارة. اتجهت إلى السيارة. قال السائق وهو رجل بدين أصلع:
-هيا أسرع! فالحر لا يطاق.
من فرحتي مازحته
- وكيف عرفت باني ذاهب إلى هناك؟.
نظر إلي باستخفاف وزفر بهمهمة ساخرة. انطلقت السيارة قبل أن اصل إلى المقعد.
كان الركاب متجهمين وواجمين. تحسست جيبي لأطمئن على النقود وأطلقت تنهيدة ارتياح. أغمضت عيني ورحت في حلم يقظة لذيذ وخدر ناعم يتسرب إلى جسدي. كم ستفرح ابنتي حين تلقاني. تبسمت في داخلي لمرأى الطفلة وهي تضع اللعبة في فراشها وتطوق وجهي بيديها الصغيرتين حين اقبلها وتحك انفها بأنفي كما اعتادت أن تفعل قبل أن تنام...
صحوت على رجة مؤلمة في راسي فأدركت انه ارتطم بالمقعد. نظرت بعينين نصف مغمضتين من حولي فتذكرت إني ماازال في الحافلة، أردت أن أعود إلى النوم فتنبهت مذعورا إلى انه لايمكن رؤية أي شيء من شباك السيارة. رفعت راسي وصحوت تماما فلم أجد أي إنسان في الحافلة، والسائق واقف قبالتي يحدق بي ويكشر عن أسنان بأنياب بارزة. اقشعر بدني خوفا. سألته:
- مالا مر، ماذا حدث؟
أجاب:
- عاصفة!
كان الجو اصفرا مغبرا، ورياح رملية تهب من كل الجهات، عدت بنظري إلى الحافلة، اصطدمت نظراتي بعيني السائق المحمرتين وهو يمد يده يطالبني بالأجرة. مددت يدي إلى جيبي، لم أجد أي شيء. وشيء حاد لا اعرف ماهو وخز إصبعي الوسطى وخزة حادة آلمتني، فندت عني آهة. أخرجت يدي فارغة، نظر إلي وقد اتسعت عيناه وازدادت احمرارا، وبرزت أنيابه، وحين فتح فمه ليتكلم أطلق عواءا حادا مخيفا. هلعت، فحملت الكيس وقفزت من الحافلة بخفة لم أتصور في يوم ما أني امتلكها. صرت اركض واركض واركض. لم تكن الاتجاهات واضحة.
كان المغيب يوشك أن يهبط، فاختلطت سمرته بالغبار.
شعرت بشيء ثقيل يهبط على صدري. جلست فلم اعد أستطيع المشي ولااريده. مرهقا وحيدا وسط قفر معتم ومغبر، وكان فمي جافا ومرا ولساني ثقيل... اغرورقت عيناي بالدموع. سالت دموع دافئة على وجهي وأخذت أحدق من خلل الدموع بالسماء المعتمة والمغبرة.

*****

تنبهت لصوت ارتطام أمواج خافت قربي. لم أشأ أن افتح عيني. رائحة زيتية لمياه وطحالب أشعرتني بالراحة، وصوت مجداف يطرطش على صفحة الماء، وأصوات آدمية تبتعد مع دندنة رخيمة خافتة في غناء حزين... فتحت عيني، كان هناك في السماء قمرا ذهبيا، وحيدا ومهيبا يفضض ضوءه موجات الماء المترجرجة، مع نسمات هواء ندية. رفعت راسي، رأيت قاربا يندفع بانسياب إلى وسط المياه، إلى حيث البقعة العريضة من ضوء القمر الذائب في الماء، وسط دكنة صافية، وتلاطم لأجنحة بط يهرب فزعا من أمام القارب... هناك عند الحافة الأخرى للقمر المذاب كانت أضواء ساطعة بوهج لامع تضيء بخفوت حافة الجرف.
شعرت بوهن وذبول ولزوجة دبقة تغطي جسدي.. عيناي فيهما حرقة، ولم يوقف لهيب الحر قشعريرة الخوف في بدني. نهضت بتثاقل، خلعت ملابسي وحملت الكيس ودخلت إلى الماء. كان ماء النهر منعشا، وشعرت بليونة في أعضائي كلها، رفعت الكيس عن سطح الماء وأنا أعوم بيد واحدة وادفع بقدمي الماء بقوة. وكنت اقترب من ظل القمر في الماء وعيوني تنظر بشغف إلى كدس الأضواء في الضفة الأخرى...
وعند جزيرة الضوء تلك كانت تهجع هناك مدينة..
هادئة ورخيمة..
وأنا أعوم
وأعوم..
وهي
بعيدة..
بعيدة..
بعيدة.

***


2002

استراتيجية بعثية

استراتيجية بعثية
بسيطة واضحة ومفهومة




قيل كلام كثير وسيقال أكثر في المستقبل عن دور البعثيين الكبير في الأزمة الأمنية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها العراق الآن، الأمر الذي يجعل الكلام في هذه الموضوعة مكرور ولاياتي بجديد. ولكن لان نشاط البعثيين، بل وجودهم بحد ذاته، خطر على مستقبل الوطن ينبغي إذن التأكيد والتذكير المستمر بأدوارهم، وكشف مكنونات عقليتهم وما يغلفون به نواياهم للوصول إلى أهدافهم، وذلك لقطع الطريق عليهم بتحصين الوعي وتنوير الرأي العام لكي لا يمروا مرة أخرى بغفلة من المجتمع. وهذا الجهد، برأيي، هو أول واهم ادوار القوى السياسية وكل وطني متطلع لمستقبل ديمقراطي لبلده.

بتنا ندرك من خلال الوقائع وتواصل الأحداث، بعد سقوط النظام البعثي، بان هناك استراتيجية مخطط لها بشكل جيد تحكم سلوك البعثيين من اجل إستعادة مقاليد السلطة والقرار إلى أيديهم. والتحكم مرة أخرى في مصائر وحياة الناس انتقاما بالدرجة الأولى، ولهوى مزمن أدمنوا فيه على السلطة لا يجعلهم يرون أفقا معقولا لوجودهم بخارج أطرها. ويمكننا ان نستدل على طبيعة تلك الاستراتيجية ليس فقط من خلال النظر بطبيعة ممارساتهم الحالية المغلفة والمتخفية ب/ ووراء الكثير من اليافطات والواجهات وحسب وإنما من خلال عطفنا كل ذلك على خلفيتهم العقلية وتاريخهم السياسي الدموي الاستبدادي .

ينبغي علينا هنا، قدر المستطاع، بعد تحديد أهداف هذه الاستراتيجية، الكشف عن أدواتها ووسائلها والقوى الحاملة لمشروعها التخريبي.

لابد ان المتتبع للأحداث بعد سقوط النظام قد لاحظ منذ البداية ذلك الاختفاء المريب لكل قوى البعثيين، بل للدولة باجمعها وبكل قدراتها اللوجستية تحت الأرض. بعدها سعى البعثيون، كمرحلة أولى، لجس نبض الشارع وتلمس ردود فعله واتجاه مسار الأحداث فيه، واخذوا في لم شملهم مرة أخرى بعدما لاحظوا تراخ في متابعتهم وضعف للقدرة على تشخيصهم ومعرفة تحركاتهم، وبالتالي توجيه ضربة قاصمة إليهم. وبطبيعة الحال فان سلوكهم هذا جاء نتيجة لخبرتهم وحدسهم الأمني المتطور وقراءتهم للواقع بعد تجربة انتفاضة آذار ومعرفتهم بردود فعل الشارع والقوى السياسية الانتقامية ضدهم. فكانت المرحلة الأولى هي تفادي الضربة، لينتقلوا وبسرعة إلى مرحلة أخرى هي إظهار رؤوسهم، بصلافة، بعدما امنوا العقاب، واخذوا، مستغلين الظروف بكل ملابساتها وعدم قدرة المواطن على كسر حاجز الخوف كليا، والذي يعملون جاهدين من اجل إعاقته على كسره، برفع أصواتهم والمطالبة بقبولهم، مدعومين باليافطات والشعارات، كحالة طبيعية في الحياة السياسية تمهيدا لانقضاضهم الكامل على السلطة من جديد.

وأكيد ان هكذا استراتيجية مبنية على هكذا حسابات ونوايا لم يتم وضعها بين عشية وضحاها، إذ لايمكن للمتتبع هنا ان يستبعد بعد النظر الذي يحركه الهاجس الأمني ألعصاباتي< من عصابة> لدى البعثيين، فأملى عليهم هذا الواقع وضع خطط احترازية تتناسب مع متغيرات الأوضاع تؤمن لهم بقاء في السلطة أو عودة إليها في حال انتزاعها منهم. ودللت خبرة الصراع معهم أنهم قد سعوا دائما لدس عناصرهم في تنظيمات المعارضة السياسية. لكنهم وبعد تدويل قضية العراق على خلفية غزو النظام لدولة الكويت و اثر التفكك في قواه وسعي قوى دولية لإبعاده عن السلطة قد لجا إلى نوع آخر من الاندساسات يكون في هذه المرة وبشكله الجديد داخل قوى المعارضة وليس تنظيماتها فقط، عن طريق تنظيمات وأشخاص ظهروا وكأنهم منشقون عن النظام ويعادونه.

وهكذا وجدنا الآن بعد سقوط النظام وبروز دور المعارضة في حياة البلد السياسية ان هناك كم لا يستهان به من الأفراد والتنظيمات السياسية التي تشكلت بعيد السقوط، مستثمرة حالة الفوضى وجو الحرية، فشكلوا جميعا الأدوات الرئيسية لاستراتيجية عودة البعثيين إلى الواجهة ثم إلى السلطة.

من بين ابرز واهم ابتكارات البعثيين من وسائل يراد لها ان تقوم بالتهيئة العقلية والنفسية للشارع السياسي للرضوخ لهم وقبولهم هو ابتكارهم لمصطلح <الصداميين>، وسعيهم لترويجه ، وذلك للفصل بين البعثيين <والصداميين> واظهارهما وكأنهما حالتين مختلفتين جوهريا. بينما البعث، كعقلية ومفاهيم، ان لم يكن بالمنطلقات النظرية، فبالممارسة العملية، هو تنظيم عنصري فاشي. والعقلية التي أنتجت عقائده بالإضافة إلى ظروف تشكله التاريخي توصلان الى أنهما هما المنتج الفعلي لظاهرة <الصدامية>. بل أكثر من هذا ان <الصدامية>، مع كل التحفظ على هذا الاصطلاح، هي أكثر الصور جلاءا لعقيدة البعث وأكثر النماذج تحقيقا لذهنيته وقيمه.

ولم تكن عملية الترويج لهذا المصطلح ـ المفهوم بدعة جديدة، وإنما هي بدأت قبل سقوط النظام بسنوات وحمل رايتها صاحب جريدة الزمان ألبعثي< سعد البزاز>. وقد تركزت مساهمة هذا الشخص وتوسعت بعد سقوط النظام من خلال محطته الفضائية< الشرقية>< الحيادية في طرحها>< والتي لا تخشى في الحق لومة لائم>< هكذا> التي صارت منبرا للعروبيين والبعثيين.

الابتكار الثاني لهذه الاستراتيجية هو الربط حد التماهي بين سنة العراق العرب وبين تنظيمات البعث ومؤسسات قمعه ضمن بقعة جغرافية محددة هي غرب العراق. فابتكروا مصطلح <المثلث السني> في محاولة لإلباس الصراع الدائر بين قوى الشعب من جهة وبين بقايا النظام ألبعثي من جهة أخرى لباسا طائفيا لتحشيد وتضليل سنة العراق العرب. لهذا ينبغي، بتقديري، إبدال هذا المصطلح التضليلي
< المثلث السني> بمصطلح <المثلث ألبعثي> لأنه اقرب للواقع. أما إذا كان السنة العرب في هذا المثلث قد اختاروا البعث ممثلا أيدلوجيا وغطاءا سياسيا لهم، فعليهم ان يتحملوا نتائج ذلك، وان يقبلوا إقصائهم من الحياة السياسية لأنهم، في تلك الحالة، ينضوون تحت راية الفاشية والاستبداد ويضعون أنفسهم في الجانب المضاد والمعادي للشعب العراقي بمختلف مكوناته.

استكمالا لادوار هذه الاستراتيجية تشكلت تنظيمات جديدة ـ كجماعة الحوار الوطني< لصاحبه صالح المطلك. وتنظيم أيهم السامرائي ومشعان الجبوري وبعض التنظيمات العروبية الأخرى > انظمت بجهودها إلى تنظيم أياد علاوي الذي عاد إلى أحضان < الحبايب> الأولى بعدما عجز عن تجاوز بعثيته واخذ يروج لإلغاء فكرة البعث مع الإبقاء على البعثيين. وهذه مفارقة محيرة فكاننا بتغيير عنوان البعثيين نكون قد غيرنا جوهرهم وتخلصنا من آثارهم في حياتنا.

استدراكا للفكرة نقول: لاباس لمن حمل التفكير ألبعثي من تغيير أفكاره وتبني طروحات عصرية إنسانية تنسجم مع تطورات الحياة والعصر، ولكن هذا لا يكون بضغطة زر، فهذا التغير يتطلب جهودا ومراجعات ومدة زمنية ربما تتجاوز عمر جيل بأكمله. فمسالة قدرة البعث على تغيير طروحاته وتقديم نفسه من جديد ـ إذا استطاع البقاء على قيد الحياة ـ تفترض مرور مدة زمنية طويلة جدا وبحاجة إلى براهين عملية كثيرة وكبيرة مشكوك في أهلية هذا الفكر وهؤلاء الأفراد على امتلاكها وتقديمها، ناهيك عن إقناع الناس بها، وبالتالي الأفضل لهم الانسحاب من الحياة السياسية والقبول بمصيرهم الحتمي:

الزوال والانقراض.

لا يمكننا بعد ما تقدم إلا ان نصف الاستراتيجية البعثية بالاستراتيجية التدميرية لأنها لاتحمل أي وازع أخلاقي أو قيم إنسانية أو وطنية. فهي كما خبرناها في كل الظروف ولاسيما الحالية، تريد إشاعة الرعب ونشر الخوف بتعمدها القتل العشوائي، وتخريب البنية التحتية، والاغتيالات وبإحالة حياة المواطن إلى جحيم لا يطاق وبترهيب من يتفاعل مع العملية السياسية ممن يحسب على معسكرهم.

والمتابعون حتما يدركون ان هناك أدوات وعناصر متعددة متوافرة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، من تنظيمات سياسية اشرنا لبعضها وقدرات مادية < مبالغ ضخمة من أموال البلد هربت إلى الخارج> وامكانات لوجستية< قدرات أجهزة دولة بأكملها هربوا بها تحت الأرض> وهناك ايضا كتاب و< مثقفون> صلفون يدافعون عن النظام ورموزه.وايضا فضائيات عربية وعراقية، صحف، وحتى مطربون، وأكثر من ذلك ان رموزهم موجودون على قيد الحياة، ويطالبون بكل وقاحة بإخراجهم من السجن. لايمكن اغفال مااتاحه لهم الظرف الحالي الشاذ من قدرة على التحرك لنشر سمومهم بين الناس واعانهم على تعطيل فاعلية المجتمع باشاعة السلبية والترقب خوفا أو عدم ثقة بالبدائل. وهنا، بالبدائل، يجب ان يأخذ الموضوع انعطافته. فاستراتيجية البعثيين لم يكن لها ان تنجح، وبأي مستوى كان، لولا غياب الاستراتيجية البديلة في مواجهتها. وهذا الأمر تتحكم به عدة عوامل. منها تشتت القرار وضعف استقلالية الحكومة والقوى السياسية على العموم بسبب الاحتلال، الذي يعمق الاختلالات الدائمة في أبنية وأنشطة الدولة والمجتمع. ولكن الخلل الأكبر الان، برايي، يأتي من تخبط الدولة في إتباع الإجراءات المناسبة لردع هذه الاستراتيجية. فالخبرة التاريخية تؤكد ان على أي دولة، مهما أوغلت في ديمقراطيتها وإنسانيتها، بل بسبب ذلك، ان تواجه مثل هذه الممارسات بالمزيد من الحزم والشدة للدفاع عن نفسها وعن المجتمع. فما هو حاصل الآن من إبقاء للمجرمين دون عقاب وإبقاء رؤوس النظام دون حسم في مصيرهم يمد البعثيين بالأمل في تواصل تنفيذ خططهم.

والأمل بالعودة هو المداد الذي يمد البعثيين بالثقة ويجرئهم على الإيغال في تنفيذها.< وما يتناقل من أخبار هذه الأيام عن مفاوضات للبعثيين في الخارج مع الاحتلال يدلل على أنهم تقدموا كثيرا في مخطط عودتهم >. فهم حتى بعد إلقاء القبض عليهم وإظهار توبتهم الزائفة < جميعهم يظهر ندمه بعد إلقاء القبض عليه> يأملون في تحول بالظروف سيخرجون فيه من السجن ويحصلون على المكافأة. ولازال حتى صدام، بكل حمق وسفاهة، يأمل بالعودة إلى السلطة. فهل يكون الآخرون اقل غرورا وبلاهة منه؟.

ان تشديد الحزم وتنفيذ عقوبات قاسية جدا بحق من تثبت إدانته وبدون تأخير، هو، بلا شك، احد أهم الإجراءات الضرورية الكفيلة يردع البعثيين ويوقف زخم عنفهم المسلط على المواطنين.

نقول هذا لان الحكومة العراقية قد بالغت، بلينها، لإظهار نفسها بالمظهر الديمقراطي والحريص على حقوق الإنسان. الأمر الذي يدفع بتساؤل مشروع يحق للمواطن ان يطرحه:

أليس بالأمر العجيب أن الحكومة تحفظ حقوق مجرم كصدام فيما هي تخرق حقوق كل العراقيين من خلال تهاونها برد الصدمات عنهم، وتركهم فريسة سهلة لأعدائهم؟. اوليس غياب الخدمات بحد ذاته هو حالة من الانتهاك لحقوق الإنسان العراقي تتسبب به الحكومة بتهاونها مع البعثيين؟.

ان البعثيين يأملون بالعودة لأنهم يؤمنون بالمثل الغجري القائل:

من السجن تستطيع الخروج لكنك من القبر لن تخرج أبدا.!.!

فلا تدعونهم يدخلون السجون إذن.


31-7-2005

٢٠٠٧-٠٩-٢٦

وحدة العراق الوطنية



بدت فكرة المطالبة بحكومة وحدة وطنية، التي طالب بها البعض بعد أول انتخابات للجمعية الوطنية في العراق، متهافتة ومغالية في حلميتها لأنها كانت، وستبقى في المستقبل، إن استمرت الدعاوى لها، تتعارض كليا مع معطيات الواقع السياسي الجديد الذي تبلورت بعض من أبعاده في مسار العملية السياسية بعد سقوط النظام ألبعثي في نيسان 2003। كما إن تشكيل الحكومة العراقية الحالية، وأي حكومة في المستقبل القريب، لم ولن يكون بسبب استحقاق انتخابي وحسب وإنما، بالدرجة الأولى، نتاج لاستحقاق سياسي. والاستحقاق السياسي هذا لا يرتبط مباشرة بالمعادلة الرقمية التي توفرها شرعية الانتخابات، بكونها الإطار الرسمي للشرعية، وإنما في القدرة على التحرك داخل العملية السياسية بحلقاتها الدولية والإقليمية، وفي منظومة العمل والحراك السياسي في المجتمع العراقي. وقد أوصل مسار هذه العملية إلى مفارقة ـ تبدو منطقية في واقع سياسي واجتماعي متحرك وفي طور التشكل كما هو حال العراق الآن ـ مكنت قوى سياسية عجزت أو امتنعت عن المشاركة في الانتخابات من لعب دور متنامي في العملية السياسية، بينما أعجزت أطراف أخرى حصلت على شرعية انتخابية ومشروعية سياسية من التأثير في القرار السياسي والإداري. والواقع الجديد هذا يدعو الجميع لإثارة النقاش في قضية الوحدة الوطنية العراقية التي يعتبرها البعض أمرا بديهيا وتحصيل حاصل. بينما الواقع يؤيد القول بان الوحدة الوطنية هي ليست معطى نهائي يأتي مرة واحدة والى الأبد، كما إنها ليست قرارا سياسيا تتفق على محدداته الأطراف والقوى السياسية الفاعلة في المجتمع، وإنما هو نتاج وانعكاس لمخاض قد يكون عسيرا ومكلفا في بعض الأحيان، ولا يتحقق فعليا ويترسخ بغير ما دورة من التشرذم التي قد يرافقها الكثير من العنف الذي قد يبلغ حدود الحرب أو الحروب الأهلية بحسب خلفية ونوعية القوى والصراع الدائر بينها. والوحدة الوطنية كمفهوم وممارسة يختلف شكلها وتتباين مضامينها من طور إلى آخر، ومن دورة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال إن مفهوم وصورة الوحدة الوطنية التي حملتها القوى الوطنية العراقية، كمشروع سياسي قبل سقوط النظام البعثي اختلف شكلها وتباينت أبعادها بعد سقوط هذا النظام. ونستطيع أن نلمس هذا الاختلاف إذا ما نظرنا إلى طبيعة ما يجري الآن من تصارع سياسي في الساحة العراقية. فقد تكشف أن كل القوى السياسية الأساسية هي في الواقع تحمل مفهوما خاصا بها عن معنى الوحدة الوطنية يوظف في إطار مشروعها الحزبي ـ الفكري والأيدلوجي، بل إن مجمل أنشطة وطروحات هذه القوى أخذت تكرس المفهوم الفئوي الضيق قوميا أو مذهبيا،المتنافر مع مفهوم الوحدة الوطنية العقلاني الذي يضم الجميع تحت مظلته الواسعة. وهذا الأمر يؤكد إن التصارع والانقسام الاجتماعي والسياسي الجاري الآن على أسس قومية وطائفية، بعد التشرذم الفضائحي للهوية الوطنية العراقية، والذي أخذت ممارساته ومعانيه تتكرس بشكل مكثف مع تصاعد وتيرة العملية السياسية وتعقد استحقاقاتها، هو من الناحية العملية يجسد حالة من الصراع بين مشاريع سياسية متعددة تحمل مفاهيمها الخاصة للوطن وللوحدة الوطنية. فالأحزاب السياسية الشيعية ترى إن دولة شيعية تتحقق فيها مفاهيم دولة الحق والعدل الإلهي على بقعة جغرافية صغيرة < إن لم تتم مصادرة العراق كله لهذا المشروع> لهو أفضل بكثير من دولة عراقية ديمقراطية تحاول أن تساوي بين مواطنيها وتحقق عدلها الأرضي الواقعي المستند على متطلبات الحياة وليس على النص المقدس. ولايبتعد المشروع القومي الكردي عن ذات الإطار، إذ برزت لدى قواه الرغبة الجامحة في إقامة مشروع دولة كردية صغيرة، حيث تجسدت هذه النزعة في مجمل أنشطة القوى القومية الكردية، على حساب مشروع دولة عراقية كبيرة متماسكة بالديمقراطية وحقوق المواطنة. ولا يختلف عن هذا المنظور ما تقدمه الأطروحة السنية ـ إن جازت التسمية، إذا اعتمدنا تصنيف الكاتب العروبي<هارون محمد> حين ادعى إن السنة< مستهدفون من الحكومة والاحتلال الأمريكي لأنهم عروبيون ووطنيون> ـ التي تتضمن الإصرار على عروبة العراق، بنفس عنصري واضح، والتي لا تزال تعتبر قوى سياسية معينة ـ كالبعثيين وبقايا النظام ومؤسساته ـ هي عماد مشروعها ولا يمكن للوحدة الوطنية أن تتحقق، حسب اعتقادها، بدون تحقق هذين الشرطين. ولم تتاخر هذه القوى في تثبيت دعائم هذه المشاريع على الارض فقامت ببناء أسسها ودعائمها المادية وبشكل يتنافر تماما مع ما تعلنه من خطاب عن حرصها على وحدة العراق ووحدة شعبه. اذ تجري الان، بشكل متواصل، مقدمات تثبيت اسس الدولة الشيعية وقواعدها المادية في أبنية مؤسسات الدولة ككل وفي مدن الجنوب بشكل خاص، تمهيدا لفرضها كأمر واقع في أي لحظة تفترق فيها سبل العراقيين. ولا تزال القوى القومية الكردية تمارس تشكيل دولة الانفصال المستقبلية في اكبر تحشيد وتعبئة للطبقة السياسية الكردية وللمثقفين الكرد من اجل تثبيت دعائم هذا المشروع على ارض الواقع ليحمل نواة الدولة الانفصالية، متعكزين في ذلك على كل ما يسعفهم به التاريخ وفلسفة الحقوق من ممكنات. كذلك القوى السنية، بمشروعها العروبي، وان بدت حظوظها اقل في تشكيل كيان مادي لان طبيعة التفكير العروبي والقوميين العرب هو الاستيلاء على الأمة كلها، إلا أن ذلك لم يمنعها من تكريس وجودها وفعاليتها بالمناطق التي ترى انه من الممكن لها أن تشكل فيها كيانا ماديا مناسبا، وهي مناطق غرب العراق والموصل وجزء من العاصمة إذا ما استحال الحصول عليها كلها. ولا يخفى أن حرب الاتهامات المتبادلة والتشكيك المتواصل للإطراف ببعضها البعض يجعل الناظر يشكك بكل ادعاءاتها من حرص على الوحدة الوطنية. ويمكن حينها إدراج دعاواها للوحدة الوطنية ووحدة التراب العراقي في إطار محاولة ابطال اتهامات الآخر ونكاية الأطراف ببعضها البعض. وأكاد اجزم بأنه إذا ما لم تحصل معجزة ما، تحقق لنا وحدة وطنية حقيقية بطرق سلمية، فان حلم الوحدة الوطنية الوردي لن يتحقق واقعيا إلا بعد المرور بأعلى ذرى العنف باشتعال حرب أهلية نسمع الآن هسيس اشتعالها بخفوت ولكن بوضوح. فهل ستأتي هذه المعجزة لتنقذنا من زمن لاهب آخر يزحف نحونا؟
23-7-2005

٢٠٠٧-٠٩-٢٥

مخلوقات فدرالية

حفل الأدب العالمي والعربي بنتاجات أبداعية تصور بشكل تحليلي عميق شخصية الانتهازي والمتسلق والوصولي। وتنوع هذا التصوير والمقاربة الجمالية تنوعا كبيرا وصور تلك الشخصية من زوايا مختلفة وحاول رصد تجلياتها وتصنيف ممارساتها والغور في الأبعاد النفسية والأخلاقية لتكوينها الاجتماعي. كذلك حذت السينما والدراما التلفزيونية حذو الأدب فصورت بدورها هذه الشخصية المتعددة الأشكال وقدمت للمشاهدين نماذج مميزة منها. وبالتساوق مع هذه المعالجة كانت السياسة والمقال السياسي قد أدليا بدلوهما في هذا المجال حسب المناسبة والزاوية في الإطارين النظري، الاجتماعي والسياسي، أو في الحالات المحددة والملموسة. لكن ورغم كل هذا الكم الغزير في التناول إلا أن إمكانية الاحاطة بشخصية الانتهازي كانت شبه مستحيلة لأنها شخصية عصية على التصنيف، ليس لقوتها، فالانتهازي هش بطبيعته، وإنما لتلونها وتقلبها، ولأنها تتحرك بسرعة تفوق قدرات النظر المجرد على رصدها بوضوح. وشكل من جانب آخر، هذا التنوع الغزير في مراوغات هذه الشخصية، سببا في العجز عن إمكانية حصرها في عمل نظري علمي يستطيع تصنيفها وتحديد ملامحها ليمكن المجتمع الحد من تداعياتها وآثارها الضارة ، وذلك لاستحالة مواجهتها ومعالجتها جذريا.
نحن ندرك إن الكثير منا يلتقي يوميا بهؤلاء الانتهازيين ولكنه لا يستطيع معرفتهم بسهولة وان عرفهم فهو لا يستطيع أن يثبت أنهم انتهازيون لأنهم يغلفون سلوكهم ويؤطرون اطروحاتهم بغطاء كثيف، ناعم وجذاب في شكله، ليموهوا نواياهم وأهدافهم الحقيقية।

والانتهازيون أصناف وطبقات( يبدو إن أسلافنا من مثقفي الحضارة العربية الإسلامية قد فاتهم التأليف في طبقات الانتهازيين كما ألفوا في طبقات الشعراء والأطباء والفلاسفة ). فمنهم من هم أصحاب خبرة، ومنهم من يعتمد على سليقته، ومنهم من هو خائب ولا يجيد فنون اللعب الانتهازي فينفضح في أول حركة له. والاخيرون مساكين يثيرون الرثاء أكثر من الاستهجان. أما الحاذقون.!.. الله!!.. فهؤلاء لهم ابتكاراتهم الخاصة ولمحاتهم الشخصية التي تؤهلهم لان يكونوا بحق... < أصحاب طريقة>।
شعار الانتهازي الرئيسي هو حكمة عمر الخيام( القافلة تسير فلتنبح الكلاب) فهو لايبالي بما يوجه إليه من نقد وتقويم ولا يقف عند هذه( الخزعبلات) أبدا। فهو يرسم هدفه ويضع خطته وينطلق، ولا يقيم اعتبارا إلا لمن هو ولي لنعمته أو من يمهد له الطريق لأهدافه। وحين نقول انه لايبالي بالنقد فهذا لايعني انه يسكت عمن يدين ويفضح سلوكه ويتركه بسلام، أبدا، فهو سيحاول، من اجل إزالة المعوقات المحتملة من طريقه، إزاحة هؤلاء المنتقدين وإيذاءهم إن اقتضت الحاجة. كما إن مسافة النقد هذه هي التي تحدد الانتهازي الخائب من ذاك (الحريف). فالخائب هو من نوع ركيك سيهتم لما يقال عنه ويرد عليه ويتصارع، بينما المحترفون لا يبالون بأي شيء فالمهم عندهم هو التسلق والوصول إلى الأهداف. وبالمناسبة ليس بالضرورة أن تكون أهداف الانتهازي هي مكاسب مادية ومنافع مباشرة فقد تكون لإشباع رغبة معنوية ونفسية كإشباع حاجة حب الظهور والاستعراض أو ميل غريزي بالتقرب من أصحاب القرار والقوة والتمسح بهم حتى دون مقابل كبير. ويبقى، مهما حاولنا القول والوصف، فإننا سوف نعجز عن الإيفاء في توصيف هذه الطبقة لان عالم الانتهازيين واسعا ودوافعهم وتسلكاتهم كثيرة ومتعددة بتعدد كثرتهم...

ومااكثرهم!!!

قبل أن نتحدث عن آخر طبقة من الانتهازيين تم اكتشافها ينبغي أن نذكر القارئ بما يعرفه من إن في المنعطفات وأوقات جني المكاسب < كما هو الحال في العراق الآن> تهب عادة موجة من الانتهازيين بمختلف المشارب والنوعيات يتزاحمون فيما بينهم ويزاحمون الكل على كل شيء ويقصون بالضرورة الآخرين، من هؤلاء< السذج> الذين اعتادوا أن يتقدموا في الملمات والظروف الصعبة। وأمر شائع كذلك إن الانتهازيين يرفعون، في هذه المنعطفات، عقيرتهم بالصراخ والهتاف لخلق تشوش لا يسمع فيه سوى أصواتهم وهتافاتهم وماركاتهم التجارية। وبديهي أنهم يتسللون عادة بخفة وشطارة لايمكن رصدها وبالتالي مواجهتها وفضحها مع إنها تدرك وتحس. لهذا سنحاول هنا الحديث عن مجموعة ممكنة التشخيص واعني بها( طبقة الفدراليين العرب) وهي آخر طبقة من الانتهازيين تم اكتشافها. ولمقتضيات التحديد نقول، إنها ليست منظمة أو اتحادا وإنما هي مجموعة من الكتاب والساسة السابقين والحقوقيين العاطلين يسعون في غايات مختلفة. بعضهم يبحث عن مكان له تحت الشمس وبعضهم الآخر يسعى مستكلبا للحصول على مكاسب مادية كوظيفة مستشار قانوني لحكومة إقليم كردستان مثلا، وبعضهم الآخر أدمن المديح والتملق فرماه مسعاه هذا على ضفاف الفدرالية. وهؤلاء إجمالا لا يدافعون عن حقوق الشعب الكردي، فهذه مسالة فيها اجتهادات وزوايا نظر، وهم لا يدانون هنا لأنهم يدافعون <ظاهرا> عن حقوق الشعب الكردي، وإنما لأنهم يدافعون عن مشاريع لساسة قوميين أكراد رهنوا القضية الكردية لرغباتهم وجعلوا منها معبرا لمصالحهم (وأمجادهم ). وتنبغي هنا ملاحظة أن هناك فرق مهم بين الحقوق كما هي في الجوهر وبين طروحات من يدعي تمثيلها. فالتاريخ قدم لنا حالات كثيرة تحولت فيها الحقوق إلى مشاريع فئوية وشخصية وبتفويض شرعي من أصحابها أحيانا.< هنا تتجسد حذاقة ومكر الخطاب الأيدلوجي> ولكي لا يساء فهمنا بتعمد، كما فعل احد الموتورين الذين ركبهم التعصب القومي فأعمى بصيرتهم ليجعلهم يقدمون، ذات يوم، أطروحة دكتوراه وهمية عن سينما كردية كل إنجازاتها حسب الاطروحة العتيدة هي فلمين للمبدع( يلماز غوناي). فنقول إن حقوق الشعب الكردي في تقرير المصير ليس لها شكلا واحدا محددا، وإذا اتفقنا على أن تكون الفدرالية هي شكلها ( التاريخي ) لهذه المرحلة فهو ليس بالشكل المتناقض والنفعي والمتحايل الذي يحاول أن يرسمه ويحدد أبعاده السياسيون الكرد الآن، وان الاعتراض على طبيعة هذا المشروع وكيف يدار هي ليست ضد حقوق واماني الشعب الكردي في الاستقلال وتقرير المصير. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما يفعله غالبية الكتاب والساسة الكرد من سعي للدمج ولخلق تماه مفتعل بين القضية وبين الساسة < الزعماء> هي محاولة مقصودة لمواجهة أي رد أو اعتراض على هؤلاء الساسة ومشاريعهم وتصويره وكأنه هجوما( شوفينيا قوميا) ضد حقوق الشعب الكردي.

ما علينا، لنعد الآن إلى انتهاز يينا الفدراليين।

فهؤلاء وبعد أن من الله عليهم بأضواء الفضائيات حيث صاروا ضيوفا شبه دائمين لها مما دفعهم لوقف إسهالهم الكتابي الذي أرهقوا القارئ به، قد اخذوا يروجون بالإعلام بطريقة ممجوجة لما نذروا أنفسهم إليه وهو الدفاع، بمناسبة وبلا مناسبة، عن مشروع القوميين الكرد السياسي، وهو مشروع بعيد عن الانتماء للوطنية العراقية، فصاروا حين تقول لهم < صباح الخير> يجيبك( الفدرالية للكرد) وحين يسأل( بضم الياء॥ ويفضل مط الهمزة كما يفعل الملالي) عن موضوع يخص حالة أو موقف سياسي يخص الوضع العراقي بعمومه يحرف إجابته ليكرر رأيا صار مملا من كثرة ترداده حول حقوق الكرد والفدرالية والى آخر اسطوانة اللغو المعروفة। وكثيرا ما يتلعثم هؤلاء ويقعون في التناقضات حينما تتم مناقشتهم بمسائل حساسة في الموضوع كقضية كركوك مثلا.
البعض من هؤلاء صار يحارب، بأشرس مما يفعل الكتاب القوميون الأكراد أنفسهم، كل رأي يحاول أن يناقش أطروحة الفدرالية، مما حدا باحدهم لوضع تصنيفه (الشهير) لمنتقدي الفدرالية وفندهم جميعا بلا رحمة، واخذ بعد ذلك يدبج الرسائل التفصيلية والتوجيهية (للزعماء) الكرد لينصحهم بما يجب أن يفعلوه। قبل ذلك كان احدهم قد بذل جهودا هائلة مستغلا توسطات زوجته وانتماءها القومي ليحصل على منصب، وقد حصل عليه، وصار قوميا كرديا أكثر من غلاة القوميين الكرد أنفسهم ووضع العلم الكردي (وهو علم أيدلوجي) على المكتب أمامه وليس وراءه كما يفعل كل الساسة الكرد। والأخير هذا كان بطبيعة الحال من الطبقة الراقية<الحريفة> من الفدراليين العرب الذين يعرفون من أين (تقضم) المناصب وليس كما هو حال صاحبنا قاضي قضاة الفدرالية المسكين الذي لم يحصل على شيء، غير الظهور الإعلامي، يمكن أن يعوضه فقدان ماء الوجه على الأقل.

هناك فدراليون كثر ولكننا لا نريد أن نثقل على القارئ بأكثر من هذا فهموم الحياة والوطن كثيرة ولا يجوز لنا أن نزيد على هموم الناس هموما أخرى।!!

ولكن... ارجوكم ! لا تنسوا ابدا الفدراليين العرب !!
السويد
2005

حديث التقاعد

منع هذا المقال من النشر في موقعي ينابيع العراق والحوار المتمدن
***


ترسخت ولمدى طويل في المخيلة الشعبية العراقية صورة القة للشيوعيين العراقيين باعتبارهم مثالا متقدما للالتزام المبدئي سياسيا والأخلاقي اجتماعيا. وكذلك عُرف الشيوعيون العراقيون، في هذه الصورة، بقدراتهم الكبيرة على التنظيم الجيد لكل شؤونهم سواء في التنظيم الحزبي او في الحياة اليومية حينما ترغمهم الظروف على التجمع، كما في السجون على سبيل المثال( مكان تجمعهم ألقسري التقليدي) مما يقتضي منهم جهدا لتنظيم شؤونهم وإدارتها.

هذه القدرة على الإدارة والتنظيم انسحبت من تجربة السجون التقليدية إلى تجربة الأنصار الشيوعيين(1979-1988) لتشابه الظروف، لكن تجربة الأنصار كانت مختلفة من حيث التركيب والإدارة وجو العلاقات، وذلك لطبيعة الحركة وتركيبها ومهامها والدور الذي أدته.

لقد قدمت هذه التجربة الكثير مما يفخر به الشيوعيون والأنصار منهم بشكل خاص. ومن بين أهم وابرز تلك الأشياء التي تدعو للفخر هي، بالإضافة إلى نكران ألذات والحميمية والحرص المتبادل بين الأنصار، حالة المساواة في الحقوق بين الجميع، وفي جميع تفاصيل الحياة اليومية. فكان جميع الموجودين هناك ينالون نفس النصيب والحصص من الطعام واللباس والفراش والمساعدة المالية وبنفس الكيفية والآلية ودون أي تمييز من ابسط نصير إلى اكبر قيادي. وذلك على العكس عما كانت عليه أوضاع الأحزاب القومية الكردية التي كانت تمارس في حياتها الداخلية قدرا واضحا ومخجلا من التمايز بين الأفراد والقيادات. ورغم أن هناك أمثلة سيئة لشيوعيين، قادة وكوادر، مارسوا نوع من الاستغلال لمناصبهم مستغلين بساطة بعض الأنصار المتحدرين من خلفيات اجتماعية وثقافية بسيطة، أو بعض المتملقين، الذين لا يخلوا منهم زمن ،الساعين عن هذا الطريق إلى نيل الامتيازات أو لأغراض أخرى غير أخلاقية على العموم. ـ وكانت هذه السلوكيات بعمومها موضع نقد واعتراض من قبل القاعدة الحزبية؛ أقول رغم هذه المظاهر الرديئة إلا انه ظهرت في مقابلها سلوكيات وشخصيات تستحق التقدير والاحترام كسلوك وشخصية الفقيد ثابت حبيب العاني( أبو حسان) عضو المكتب السياسي، على سبيل المثال، الذي كان مثالا رائعا للبساطة والصدق والالتزام الأخلاقي والروح الرفاقية العالية( وهذا الإنسان الرائع يستحق وقفة خاصة لتنصفه وتبرز فرادته). وتجنبا للإطالة أقول إن هذا السلوك المميز في حياة الأنصار لم يأت فقط نتيجة لخصلة زرعتها التقاليد الحزبية والقيم الايجابية التي تربى عليها الشيوعيون العراقيون على العموم وإنما أيضا لمستوى من الرقابة والنقد الذي كان يمارس من القاعدة الحزبية والأنصار والذي عزز بدوره من هذه الروحية وأعاق بعض التجاوزات أو على اقل تقدير لم يتركها تمارس شذوذها بجو مريح.

لكن يبدو أن هذه الخصلة الجيدة التي ميزت الشيوعيين العراقيين وبشكل اخص الأنصار في طريقها، للأسف الشديد، للزوال। إذ بدأت تبرز إلى السطح ممارسات تعكس عقلية وروحية مناقضة لما عهده الناس ورسموه في مخيلتهم عن الشيوعيين. وابرز واهم ضربة وجهت لميزة المساواة المحببة هذه جاءت مع ولادة فكرة الحقوق التقاعدية للأنصار. فقد ظهر للأسف ما يشبه التماهي والانسجام مع سلوك القوى القومية الكردية الناشئ من طبيعة عقليتها القائمة على التمايز والتفاضل بين أفرادها، تلك النظرة التي ضاعفتها مرات في العدد والنوع وصول هذه القوى إلى السلطة السياسية وتمكنها من ثروات المجتمع؛ فاستثمرتها في شراء الأصوات والولاءات والضمائر والأقلام التي طالت بعض الشيوعيين العراقيين العرب. ومن بين ابرز ملامح انتهاك عقلية المساواة التي اجترحها الشيوعيون العراقيون في حياتهم الداخلية هو منح الحقوق التقاعدية على أساس تسلسل عسكري هرمي لم يقصد منه في حياة الأنصار الواقعية حينها منح امتياز لهذا أو ذاك ممن يتبوءون هذه المراكز التي كانت في حقيقتها مهمات صعبة وحساسة وتثقل كاهل من يتحملها. وان ظهر هنا وهناك من يسعى لهذه المواقع للوجاهة أو لدور يطمح إليه إلا إنها ظلت في حدود المهام المكلفة وليست مجالا للامتيازات حتى جاءت فكرة التقاعد، فصارت الألقاب العسكرية حدا فاصلا فرق ومايز بين الأنصار الذين هم مناضلون بالأساس وليسوا جنودا في جيش بيروقراطي هرمي التشكيل. وهكذا نشأت فروقات واسعة بين المناضلين برواتبهم التقاعدية ولحدود كبيرة تصل لبضع أضعاف عما يتقاضاه نصير آخر لم يمارس مهام قيادية. والخطأ هنا لم يقتصر على ابتكار وصنع هذه الهرمية المضحكة وإنما وصل لطريقة توزيع الحقوق فحصل وفق هذا التقسيم البائس للأنصار المناضلين من لا يستحق وحرم بعض ممن يستحقون. وأكثر ما يبعث على المرارة والسخرية هو رفع رتب بعض الرفاق الذين درسوا في دورات عسكرية في اليمن الجنوبي وأصبحوا ما اصطلح عليه آنذاك ضباطا ـ كان الكثير منهم ومن بعض المسؤولين يصر على تلقيبهم بالملازمين ـ وهي تسمية أثارت بعض الامتعاض لأنها من ترسبات عقلية بيروقراطية تحتفي باللقب وتزهو بالرتبة.

وهؤلاء الملازمون رقوا تقاعديا وبجهد من احد قيادي رابطة الأنصار إلى رتبة عقيد وصار تقاعدهم أضعاف ماياخذه النصير العادي الذي تطلق عليه تسمية مثيرة للسخرية (مؤهل). وفي حين بذل رئيس الرابطة جهده ليوصل مراتب ضباطه إلى عقيد انفرد هو برتية فريق أول. مع إن هيكل حركة الأنصار لم يكن يحتمل هذا المستوى من الرتب العالية.

ولم ينته الأمر عند هذا، ففي الوقت الذي يتم فيه حذف أسماء بعض الأنصار المناضلين لاختلافات فكرية يمنح التقاعد لأفراد لم يكونوا أنصارا في حياتهم ولم ينتموا للحركة مثل احد أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي المقيمين في السويد، الذي حصل على راتب تقاعدي أنصاري، بينما هو قضى الفترة التي نشطت فيها الحركة في إحدى البلدان الاشتراكية للدراسة (متنعما) فتخرج دكتورا في الاقتصاد، وبهذا يكون قد حصد المنافع في كل الأزمنة. هذا بالإضافة إلى منح ابن احد قيادي الرابطة وأقاربه رواتب تقاعدية أنصارية وهم لم يكونوا أنصارا بطبيعة الحال. ولا يجدر بنا هنا نسيان أن هناك من اخذوا حقوقا تقاعدية أسرع من غيرهم وبعضهم مع رتبة عسكرية لمضاعفة تقاعده وهو لم يمارس أي مهمة قيادية في حياته الأنصارية. والبعض من هؤلاء كان مروره في حركة الأنصار مرورا عابرا( كان الأنصار يسمونهم ساخرين (ترانزيت)).

هنا يتحول الخطأ، بتقديري، إلى خطيئة لارتكابه إثمين مركبين، أولهم، تقسيم الأنصار وخلق التمايزات المفتعلة بينهم. وثانيهم، منح من لا يستحق هذه الامتيازات؛ والأكثر منح من ليس له الحق بالراتب ألتقاعدي أصلا كما تمت الإشارة إليه قبل قليل.

لنتساءل هنا:
هل سيجرؤ هؤلاء على الحديث والنقد للفساد والنهب الممارس على قدم وساق في مؤسسات الدولة العراقية ومؤسسات الحكم الكردية؟!!!.
سبق هذا، وربما يكون قد مهد له، سلوك مريب وغير مشرف؛ ويمثل انتهاكا صارخا لقيم نكران ألذات والإيثار التي عرف الشيوعيون بها؛ من قبل مسؤولين في الحزب بمستوى أعضاء لجنة مركزية صارت لهم مصالح تجارية كبيرة( احدهم على سبيل المثال خسر في مشروع واحد ما مقداره 15 مليون كرونة سويدية أي مايعادل2 مليون دولارا وهو شخص معروف بامكاناته المادية المحدودة قبل الاحتلال، ورغم هذه الخسارة إلا انه لا يزال يملك فندقا كبيرا في مصيف شقلاوة، هذا عدا تجارته المستمرة في السويد) ما اقصده من هذه الإشارة هو إن مصدر البلاء موجود( هناك في الأعالي).

وقبل هذا كانت الواقعة المخجلة بانفراد أعضاء اللجنة المركزية للحزب ممن كانوا في الحركة الأنصارية آنذاك بالحصول على رواتب تقاعدية بدرجة وزير في الدولة، مع قطع أراضي وإمتيازات أخرى.

فماذا تبقى من روح المساواة وتواضع ونزاهة الشيوعيين إذن؟ ولننسى المبداية التي لا مجال للحديث عنها في هذا المقام.

هناك أيضا مسالة على جانب كبير من الأهمية وهي التساؤل حول الدافع الفعلي الذي يكمن وراء موافقة الحكومة الكردية على منح رواتب تقاعدية للأنصار واهتمامها الملفت بالشيوعيين العراقيين العرب، والذي ظهرت علاماته القوية بحضور الأخ مسعود البارزاني لحفل افتتاح المهرجان الثقافي الذي عقدته الرابطة هذا العام.

قد نجد الإجابة على هذا التساؤل في مراجعة سلوك الحكومة الكردية وأحزابها التي سعت منذ البدء، على خلفية صراعاتها الداخلية ولهفتها للاستئثار بالحكم والموارد، لتوسيع رقعة مؤيديها من المثقفين والسياسيين العرب لأغراض خاصة بمشروعها السياسي القومي. حيث سعت لتحقيق هذا الهدف بشراء مباشر لبعض الأقلام لشيوعيين عرب وعينت بعض الوجوه كمستشارين وموظفين كبار في مؤسساتها وربما تكون مسالة الحقوق التقاعدية هي جزء من هذه الاستراتيجية. وفعلا بدأت تظهر بعض علامات جني الثمار كان ابسطها، مع عدم أهميته، هو تحويل الضمة إلى حرف واو في إملاء مفردتي كردستان والكرد من بعض الكتاب العرب ومن بينهم الأنصار، وهي ظاهرة تتخطى، برأيي، حدود كونها مسالة إملائية وذوقية إلى ماهو ابعد من ذلك. كما يمكن وبسهولة ملاحظة غياب أي موقف نقدي لسلوك الحكام الكرد من قبل هذه الأقلام، وإن وجد فعلى استحياء وبحدود المتاح والرسمي. ومن العلامات أيضا وجود صورة ملا مصطفى البارزاني في صدر قاعة الاحتفال بالمهرجان الثقافي للأنصار الشيوعيين بينما غابت صور قادة الحزب الشهداء كسلام عادل وفهد وزكي بسيم والشبيبي وغيرهم التي اعتاد الشيوعيون على وضع صورهم بالمقدمة في مناسباتهم وفعالياتهم. وأيضا محاولة احد الأشخاص وضع صورة الملا مصطفى في مقر الحزب الشيوعي الكردستاني في اربيل، لكن قيادة المقر رفضت. ولا احد يمكنه الجزم من أن هذه المحاولة لن تتكرر وان الرفض سيكون هو الرد مرة أخرى.

هذه أمثلة قد تكون موحية بما اذهب إليه من تعليل لسبب اهتمام الحكام الكرد بالشيوعيين العراقيين العرب. اكرر كلمة الشيوعيين العرب لان الشيوعيين الكرد للأسف تحولوا لدى الحكومة الكردية، حسب وصف احدهم لتنظيمهم، إلى ما يشبه حزب هاشم عقراوي( الديمقراطي الكردستاني) في عهد فاشية صدام حسين.

الجميع يدرك الآن إن الوقت بات متأخرا لمعالجة هذه الإشكالات، وإذا ما توفرت النية والإرادة لمعالجتها، فتجب العودة حينها للخطوة الأولى ليمكن معالجة الأسس الخاطئة للمسالة وبطريقة جذرية. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن لهذه الإشكالات والممارسات آثارا سلبية، ربما تكون وخيمة في المستقبل، على المستوى العملي والتربوي في منظومة الحياة الداخلية للرابطة وللشيوعيين، على مستوى طبيعة العلاقات الداخلية التي تنظم وتسير شؤونهم اليومية عموما، هذا دون التغاضي عن آثارها الحالية لما تركته أو سوف تتركه من إحساس كبير بالمرارة لدى الكثيرين لفقدان اعز شيء تميز الشيوعيون به ومنحهم جدارتهم في زمن ما، وهو التزامهم بقيمهم الأخلاقية العالية التي تربوا عليها.


1-9-2007