٢٠٠٧-١٠-٢٥

رسالة مفتوحة




رسالة مفتوحة الى ادارة موقع ينابيع العراق


أظن أن الكثيرين، إن لم يكن الجميع، يتفقون على أن تشكيل رابطة الأنصار كان خطوة مميزة وإنجازا كبيرا. ذلك أن الأنصار شكلوا بتجربتهم حالة خاصة في واقع الحياة السياسية العراقية. وهذا إن كان يمنحهم تمايزا عن الآخرين إلا انه لا يعني امتيازا لهم على غيرهم. فليست هناك نية للمفاضلة بينهم وبين غيرهم، فللجميع تميزهم وخصوصيتهم التي يحبون. ولكن على الآخرين أن يقروا بحق الأنصار الذين عاشوا تجربتهم المبهرة في أن يحتفوا بأنفسهم بطريقتهم الخاصة.
كان تشكيل الرابطة مع كل ما رافقه من إرهاصات وعثرات هو واحد من أشكال احتفاء الأنصار بتجربتهم وتاريخهم. وبعد تشكيل الرابطة تطلبت تطورات الحياة من الأنصار تطويرا لأساليب حضورهم بين الناس لنشر فكرهم والتعريف بتجربتهم، فكانت فكرة إنشاء منبر إعلامي يختص بشؤونهم فكرة خلاقة بحق. وكانت صفحة ينابيع العراق فرحة الأنصار وأداة تواصلهم فيما بينهم. لكن ومنذ البداية بل وقبل البداية حتى (على الاقل لي شخصيا) كانت هناك آمال كبيرة في أن يكون هذا المنبر منبرا حرا ومنفتحا وان يكون متخلصا من عقد الأيدلوجية وتكلسات العقلية الحزبية الضيقة. وتمنيت شخصيا أن يكون المنبر المنشود منبرا يعبر عن عمق تجربة الأنصار بشكل حقيقي ومؤثر. منبر يستطيع فيه الأنصار أن يعبروا عن أفكارهم وشجونهم. وان لا يكون كما أراد له البعض( ويبدو انه قد نجح) في أن يقولبه ويجعله صدى باهتا لمواقع حزبية فقيرة شكلا ومتكلسة فكرا يعبث بها الجمود والشكلية والادعاء الفارغ. لكن يبدو، وأتمنى أن أكون مخطئا، إن ينابيع العراق في طريقها لان تدخل في دائرة اللغة الخشبية وتتحجر فكريا بأتباعها أولا أسلوب الحجب والمصادرة لأراء تتعارض مع توجهات حزبية ضيقة، ليست الرابطة أو منبرها الإعلامي معنيين بها على الإطلاق. وتحولها ثانيا ودون مبرر مقنع إلى واجهة إعلامية لجهة حزبية علاقة الرابطة بها مثار جدل بين الأنصار.

ولكي لا يكون كلامي عاما ومبهما سوف اذكر ما وقع لي مع إدارة الموقع واترك أمر الحكم عليه للقراء।

كتبت موضوعا بعنوان ( حديث التقاعد) عرضت فيه لممارسات ارتأيت أنها غير لائقة لا بالانصار ولا بتاريخهم أو خلفيتهم। ومع إن المقال لم يتضمن أي شتيمة أو إهانة لأي شخص ( فالشتم ليس من أسلوبي)، ولم يتعارض، بتقديري، مع أي من شروط النشر في الموقع। واعتمدت فيه على وقائع ازعم أني عارف بها. إلا أن إدارة الموقع لم تنشر المقال. وحين استفساري عن السبب تعللوا بان مقالي تضمن وقائع غير حقيقية. وهذا السبب أو الذريعة بحد ذاتها تشكل إجحافا وتجاوزا على حقي وحق القراء. فمن ذا الذي يقرر إن ما ذكرته حقائق أم لا؟ هل هي إدارة الموقع أم الهيئة أو الأشخاص المعنيين؟. ثم لماذا حجب الموضوع؟ لماذا لا يكون هناك تصحيح أو تكذيب لما ذكرت؟. أما منع المقال فاعتقد بان القراء يدركون من أن ذلك يعني ببساطة نوع من الوصاية على عقولهم وحجر على آرائنا. فالقراء لا ينقصهم الذكاء أو الخبرة التي يستطيعون بها تمييز الحقائق أو جيد الكلام من رديئه. واعتقد أن زمننا الآن هو زمن انفتاح وديمقراطية وتعدد في الآراء حتى داخل التيار الفكري أو السياسي الواحد. ثم ألا يبدو أن عدم نشركم للمقال، أيها الأحبة، وكأنه نوع من التستر أو الحماية للأشخاص أو الجهة موضوع النقد؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل تريدون حقا حماية من يسيء لكم ولتاريخكم؟.
لم ينته الأمر للأسف عند هذا। فقد أرسلت مقالا ثانيا نشرتموه مشكورين لكن بتصرف। وقد تضمن المقال رابطا للمقال الذي أنا بصدده( نفس المقال الذي امتنعتم عن نشره) فمن حق القارئ ان بعرف عما أتكلم، لكنكم أزلتم الرابط الذي فيه। وهنا أحب أن أذكركم بان تصرفكم هذا فيه تجاوز وعدم احترام لي وللقراء في نفس الوقت. فقد يكون من حقكم أن لا تنشروا( فانتم سلطة نشر في النهاية) لكن أن تتصرفوا بالموضوع بما يناسبكم ودون الرجوع إلي فهذا.... سوف اترك أمر توصيفه لذكاء القراء.

وبالمناسبة، وللتذكير فقط، أقول: إن إمكانية حجب الآراء باتت الآن في ظروف تطور تكنولوجيا الاتصالات امرأ شبه مستحيل. فأي شخص يستطيع اليوم بفضل هذه التكنلوجيا من أن يوصل آرائه وأفكاره بيسر ودون أي رقابة إلى الناس. ولهذا يبدو لي أن سلوك حجب آراء الناس هو ليس اكثر من محاولة حجب الشمس بغربال. وهو سلوك لا يليق بنا على الإطلاق.

بناءا على هذه الوقائع اقترح أن تكون مسالة صفحة ينابيع العراق مطروحة للنقاش لقرائها وكتابها. وللأنصار بشكل خاص أن يقدموا وجهات نظرهم بما ينبغي أن تكون عليه صفحتهم. وأرجو من الإخوة في هيئة التحرير أن يقدموا بيانا يوضحون فيه المنطق الذي يرسمون فيه سياسة النشر والتعامل مع الآراء المختلفة بشكل واضح ودقيق لكي لا تترك المسالة إلى تقديرات فردية ومزاجية.

23-10-2007

٢٠٠٧-١٠-٢٤

هموم انصارية





من البديهي إن من يكتب ينبغي عليه بالضرورة أن يكتب عن أشياء يعرفها وتثير اهتمامه واهتمام الآخرين في نفس الوقت. وبهذا يجعل من كتابته شهادة موضوعية عن الموقف الذي يعالجه. وبالتأكيد أن صدق الكتابة يمنحها شهادة اعتراف وقبول من المتلقين. كذلك ليس هناك كتابة صادقة تتجنب أو تبتعد عن هموم الناس ولا يهمها كشف الزيف الذي يراد به سلبهم وعيهم وحقوقهم. لكن الكتابة تبدو في مخيال الكثيرين وكأنها حاجة ذاتية لقول أشياء يراد منها منافع شخصية أو على اقل تقدير أن دوافعها شخصية. يمكن ملاحظة هذا التصور من خلال بعض المناقشات والملاحظات التي يوردها بعض القراء كتعليقات على المواضيع في بعض المواقع الالكترونية. ويبدو لي أن هذا التصور والسلوك هما ثمرة لذهنية نمطية عامة. وهذا ما لمسته شخصيا من ملاحظات بسيطة قيلت في موضوع كتبته (يمكن الإطلاع عليه من هنا) انتقدت فيه بعض الممارسات التي تمارس داخل دائرة اجتماعية سياسية محددة، هي رابطة الأنصار الشيوعيين. فالبعض اعتبر أن ما قلته هو تصفية حسابات شخصية مع جهة حزبية معينة. وهو أمر لم اشعر به على الإطلاق، ولم يكن يوما محركا لا لكتابتي ولا لسلوكي إزاء هذه الجهة. ولم تشكل هكذا دوافع يوما ما خلفية لما أناقش. لان نقاشي مع هذه الجهة أو غيرها هو ضمن مناقشة هموم الوطن وانشغالات السياسة فيه. على الأقل هذا ما اشعر به وادعيه.

كان الموضوع الذي طرحته بمجمله مناقشة لسلوك أفراد وجهات في مسالة حقوق الأنصار التقاعدية। ومناقشتي لم تكن ضد حق التقاعد بحد ذاته وإنما ضد ممارسات بعض الأشخاص ومحاولتهم استغلال امكاناتهم الشخصية لجني منافع ذاتية، وتصرفوا بطريقة منافية للأخلاق والأعراف وللمبادئ التي يفترض أنهم يتحلون بها. وشمل اعتراضي وانتقادي ما جرى من منح لهذه الحقوق بطريقة مبتذلة لأشخاص لم يستحقوها لأنهم ببساطة ليسوا أنصارا، فيما حرم بعض الأنصار الحقيقيين منها لأسباب لااستطيع الجزم بها. والأمر الأكثر إزعاجا في هذا التصرف هو خلق تمايزات بين الأنصار تجسد في حجم ونوع حقوقهم التقاعدية. فالأنصار كمناضلين لم يكونوا، حسبما أظن، في يوم من الأيام يطمحون للحصول على مكافأة لنضالهم وتضحياتهم لأنهم أصحاب قضية ومبادئ، ومن لديه استعداد للتضحية لا اعتقد بأنه يكترث لمكافأة أو ينتظرها. ومن هذا المنطلق يكون سلوك خلق تمايزات بينهم موضع اعتراض وانتقاد بالضرورة. كما تضمن الموقف أيضا شكوك حول الدوافع الحقيقية التي دفعت سلطات الإقليم الكردي، المشكوك بنواياها، لمنح هذه الحقوق، مع العلم أن هناك تحفظات كثيرة لدى الأنصار أنفسهم على الآلية التي تم بها استحصال هذه الحقوق، إذ تمت بجهود شخصية وهذا بحد ذاته سبب كاف لإلقاء ظلال من الشك على حصانة عدم استغلال هذه الحقوق ومسالة منحها لأغراض شخصية وسياسية، سواء من قبل الشخص الذي قام بجهوده من اجلها أم الجهة التي منحتها. وليس هناك وراء هذا الموقف أي مزايدة، كما تبرع احدهم بالاتهام، حيث لايمكن العثور على أي نوع من هذه المزايدة في هذه الملاحظات أو أي دافع لها. ثم ليس هناك شيء يستوجب المزايدة عليه.

من جانب آخر وفي ذات السياق يؤاخذ بعض القراء الكاتب على مصدر استقائه لمعلوماته معتبرين أن السماع ليس مصدرا موثوقا। أو إن الكاتب، وهذه حجة أخرى، لا يعرف شيء عن نشاط هذا الشخص أو تلك الجهة ليستطيع أن يقيم سلوكها وينتقد مواقفها. ولمناقشة هذا الرأي أقول: إن الكتابة هي نشاط حر ويعتمد على الوقائع العامة والاستنتاج من نتائج السلوك الذي يمارسه شخص معين أو جهة سياسية أو اجتماعية معينة. وهو أمر يدخل في معنى الفهم الاستقرائي للواقع. على العكس مما هو عليه الحال عند الهيئات القانونية والرسمية التي تتعامل مع الأحداث والأشخاص ببيروقراطية والية تتطلب الإثبات ألتوثيقي وغيره. ففي السياسة تقوم الآراء والمواقف على أساس القراءة للوقائع، وعلى أساس معرفة خلفيات المعنيين بالأمر، وأسس تشكل القوى والجماعات، وطبيعة تفكيرها وخلفياتها العقلية وأسسها النفسية وغيرها من الأمور التي لايمكن إثباتها بالوثائق بقدر ما يمكن الاستدلال عليها بالاستنتاج المنطقي. كما إن الكاتب ليس ملزما، وهو غير قادر على آية حال، لان يكون شاهدا عيانيا على كل واقعة أو موقف يكتب عنه، لان هذا أمر مستحيل ومن شانه إلغاء الكتابة ومصادرة التحليل. فالإنسان لا يمكنه أن يوجد في كل الأمكنة ولا ان يشهد كل الأحداث. ومن هنا تأتي أهمية المعلومة القادمة عن طريق السماع. فللكاتب أيضا مصادره التي يثق بها ولكن عليه للأمانة أن يعاين ارجحية ما تقدمه له هذه المصادر وحجم الموثوق منها. كما أن حجة معرفة أو عدم معرفة نشاط الآخرين هي سيف ذو حدين. فهي بالوقت الذي تمنع فيه أي تقول أو ادعاء بحق أي شخص أو جهة ما لم تقم على أسس ووقائع، فإنها تسمح للكثيرين بان يفلتوا بفعلتهم وبجرائمهم بذريعة عدم إمكانية إثبات ما يدعى عليهم. وكما تعرفون فأن هناك الكثيرين ممن يريدون بهذه الحجة إخفاء ما يقترفون وراء الكواليس من آثام، ويحجبون حقائق سلوكهم ومواقفهم عن الآخرين. لكن إذا كانت هذه الذريعة ممكنة في حدود الأشخاص العاديين فأنها غير ممكنة، على الإطلاق، مع الأشخاص الذين ينضوون تحت فئة الشخصيات العامة، سواء كان ذلك بسبب من طبيعة نشاطهم أو فعاليتهم، أو بسبب من موقعهم في هيئة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية. فهذه الشخصيات هي هدف مباشر للمراقبة، وبالتالي النقد والتعرية، ولا ينفعها أو يحميها حجة إن الآخرين لا يعرفون عن نشاطها شيئا.

ينبغي التذكير في الختام من أن لا احد يمكنه أن يدعي بأنه يمتلك الحقيقة، أو انه يعرف دواخل كل الأمور. وأكيد أن الكتابة كنشاط ثقافي اجتماعي هي اجتهاد، منها ماهو صائب ومنها ماهو خاطئ أو ناقص. ولكن هناك فرق بين حقيقة ناقصة، لأنها مبنية على معلومة خاطئة، وبين تلفيق أو ادعاء، وفي هذا الفرق يكمن جوهر صدق الموقف من زيفه. وبالتأكيد إن كل رأي أو ملاحظة تهدف إلى تصحيح المعطيات وبالتالي الآراء، دون اتهامات وسوء ظن مسبق، هي موضع ترحيب، بل إنها ضرورية لأجل استكمال صورة الحقيقة وتنقية وجهها وهو، بلا شك، الهدف النهائي لكل كتابة صادقة.

21-10-2007

٢٠٠٧-١٠-٠٣

خلفيات النقد الحاد






في المحافل والمناسبات الحوارية التي يلتقي فيها اليساريون العراقيون، يدور في غالب الاحيان نقاش حول تجربة الحزب الشيوعي العراقي، ومصائره في المراحل القادمة في خضم التحولات السياسية المستمرة في العراق. ويستند هذا النقاش في كثير من تاويلاته على النظر في الحقبة المتأخرة من تجربة الحزب، والتي يمكن تحديدها بفترة التحالف مع البعث وماتلاها، وتداعيات انهيار هذا التحالف الذي ارتبكت على خلفيات عقده وانفراطه كل حياة الحزب الداخلية، إذ أثيرت وما تزال، بشكل واسع ومفتوح كل أنواع الأسئلة ذات الطابع الجذري، حول ما اذ كان من الممكن أن يستطيع الحزب الإبقاء على كيانه كحزب ثوري راديكالي مفتوح على أفق إنساني عميق وصادق، مع إبقائه على نهجه السياسي، وكادره التنظيمي الذي اختط له توجهاته الفكرية والتنظيمية التي أدت إلى انتكاساته، والذي خلق كتلة حزبية ونسق تنظيمي يكرس هذا التوجه ويصر على الاستحواذ على الحزب وعلى قدراته المادية، وعلى ارثه التاريخي الكبير. وكان بعض هذا النقد، الذي يتضمنه النقاش في تلك المحافل، يختزن ويعكس إحساس عميق بالمرارة، ولا يخلو من بعض الحدة والخشونة، وبشكل خاص من قبل الذين عاشوا تجربة الكفاح المسلح في حركة الأنصار، التي امتد نشاطها منذ أواخر السبعينات، بعد السقوط المدوي لتجربة التحالف مع البعث، إلى انتهاء الحركة في عمليات الأنفال في اواخر1988. وكان بُعد المرارة في النقد الموجه لمسيرة الحزب الشيوعي مثار امتعاض لدى الكثير ممن يمكن وصفهم بأنهم من اولئك الذين لم يستطيعوا إدراك الأبعاد، والخلفيات الذهنية والنفسية، لمرارات هؤلاء المنتقدين، فدفعهم هذا القصور بالنظر لإصدار أحكام وتقييمات جزافية، وإلصاق تهم منتقاة من حالات محدودة لتمييع وجهة هذا النقد، ومحاولة تصويره وكأنه قائم على حس الثأر، وانه تصفية حسابات ورغبة بالانتقام الشخصي تحكم دوافعه طموحات فردية أو رغبة بامتياز ما يعوض به المنتقدون من الأنصار نضالهم وتضحيتهم. وهذه الخلفية وأشياء أخرى غيرها تدفع، بتقديري، لفتح ملف حركة الأنصار، وماتداعى ويتداعى من سلوكيات ومواقف على أفق حضورها في حياة وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي.

لم يجئ تشكيل حركة الأنصار عفويا رغم عشوائية خطواته الأولى، وإنما كان رد فعل وموقف احتجاج مزدوج، على سطوة النظام ألبعثي ودمويته من جهة، ومن جهة اخرى ضد سياسات الحزب، والى حد كبير ضد قيادته التي آلت تكتيكاتها السياسية، وتشبثها بالتحالف مع البعث، دون أية خطة سياسية وتنظيمية تأخذ احتمالات التحول في الواقع السياسي، وفي موقف وسلوك السلطة، رغم كل المؤشرات الأولية الكثيرة على نية الانقلاب، الى انتكاسة في حياة الحزب اذته ودفع ثمنا كبيرا بسببها. وما ساعد على بلورة هذا الموقف الاحتجاجي، والسلوك العملي الذي أحرج قيادة الحزب عندها، هو وجود حركة مسلحة للأحزاب القومية الكردية في الإقليم، حفزت أفراد من تنظيم إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي على المبادرة والانسحاب من المدن إلى الجبال، وتشكيل النواتات الأولى لتشكيلات الأنصار، التي تلقفتها بعض العناصر القيادية للحزب، لأسباب ليس كلها لغرض خدمة الحزب وقضيته ـ احدها سد الطريق على أن تأخذ هذه المبادرة دور واسم الحزب وتجرد الفئات المتنفذه فيه من مواقعها ـ بعدما أدركت ولمست قدر الحماسة لدى الكثير من الشيوعيين على تعزيز اتجاه الكفاح المسلح كشكل أساسي للرد على قمع السلطة.

وهكذا ابتدأت الدفعات الأولى من الأنصار الشيوعيين، ومن كل القوميات والمذاهب والاديان العراقية بالتوجه إلى كردستان، لرفد حركة الأنصار وتعميق اتجاهها السياسي وتعزيز قدراتها. ومنذ تلك اللحظة ستصير حركة الأنصار اتجاها وتيارا قويا داخل الحزب، شكل ضغطا كبيرا على القيادة بنقده وتدقيقه لتوجهاتها السياسية وتعليلاتها الفكرية.

لكن حركة الأنصار، كحال كل مجموعة بشرية، ليست كتلة متجانسة في التوجهات، ولاافرادها متسقون في تفكيرهم وتطلعاتهم، لهذا شهدت الحركة في حياتها الداخلية، وداخل دائرة السجال السياسي والفكري الذي دار داخلها، بروز عدة اتجاهات وتصورات لتقييم الاوضاع، اختلفت فيما بينها بالقدر نفسه الذي اختلفت فيه مع قيادة الحزب. ولأن الانتماء للحركة يشكل عمليا خطر على حياة كل فرد فيها ـ ماعدا نفر نادر معروف للجميع ـ ولأنها تشكل خط مواجهة عنيف مع النظام ألبعثي، ولأنها، وهذا الأهم، حركة مسلحة وقريبة من الداخل، وفيها طاقات حزبية كبيرة، فقد كانت لهذا كله تثير قلق قيادة الحزب أو المتنفذين فيها لئلا تتجه هذه الحركة باتجاه بعيد عما تريده لها هذه القيادة، أو أن تتوفر لها قدرة ايجاد البديل المحتمل، فتجرد القياة من مواقعها وتأخذ المبادرة من يدها لهذا سعت هذه القيادة جاهدة لكي لا يتبلور أي تيار في الحركة، ولا أن ينجح أي فرد ـ من القيادة ـ يستطيع أن يستقطب مجاميع الأنصار حوله، فيشق عصا الطاعة ويقسم الحزب. وبهذا دار وبأشكال مختلفة، معضمه مبطن وخفي، صراع، هو الأشق والأكبر والى حد ما الاعمق في حياة الحزب في تلك المرحلة وربما في تاريخه. لكن نهاية هذا الصراع، والمآلات التي انتهى إليها، قللت من اهميته ومن ادراك قوته حتى في وجدان ووعي مناضلي الحركة أنفسهم.

في الواقع إن هذا الصراع، ومن خلال بعض التسريبات، وما كان يشاهد على السطح بوضوح، لم يكن صراعا صرفا بين القيادة والقاعدة كما يمكن، أو يراد له، أن يصور. فجزء ومستوى من هذا الصراع كان يدور داخل قيادة الحزب نفسها فهي أيضا كانت منقسمة إلى عدة اتجاهات، وجميع هذه الاتجاهات كانت تريد أن توظف الحركة باتجاه نواياها أو توجهاتها. وبمستوى هذا الانقسام، مهما أٌختلف حول طبيعته، انقسمت القاعدة الحزبية. وقد لااكون مغاليا إذا ما قلت، إن قيادة الحزب استطاعت، بجهود حثيثة ومحنكة، أن تجرد كل طاقة النقد الموجه لها وحولت كثير من الأنصار إلى( باطنيين) أو صامتين، بعدما اتبعت وسائل عديدة لمواجهة هذا الاتجاه النقدي الناقم وامتصاص طاقته واندفاعه، ومن هذه الأساليب:

العزل والتهميش، الحرب النفسية، الإبعاد بواسطة النقل إلى آماكن معينة، العقاب الفردي والجماعي، الإغراءات ــ بالمناصب والمنح الدراسية وغيرها ــ لمن لديه استجابة، الإجراءات القمعية ـ كالإبعاد والطرد، السجن (حالات نادرة لكنها مورست) والتعذيب حد الموت (وهي نادرة أيضا لكنها وقعت). ومع تكثيف هذه الإجراءات بعيد الاجتماع الاعتيادي للجنة المركزية في عام1984عقمت حركة الأنصار من أي توجه يمكنه أن يشكل طاقة مادية لمواجهة أوضاع القيادة. وحوصر من بقي حاملا لتوجه نقدي للأوضاع، ومورست ضده أوسع ما يمكن أن يطلق عليه حربا نفسية أدت إلى تعميق الجروح وتوسيع الشقاق داخل الحزب. هذا الواقع أدى، بعدما انتهت الحركة بعمليات الأنفال، إلى اكبر حركة انسحاب من التنظيم وقعت في تاريخ الحزب، كان جسدها المادي الأكبر هم الأنصار. وقد حمل هؤلاء الأنصار معهم مرارات تجربة صعبة وفشل متكرر، هذا عدا الخسارات الشخصية، فالكثير منهم إن لم يكن جميعهم، لاسيما أولئك الذين بقوا حتى نهاية الحركة، كانوا قد ضحوا بأشياء كثيرة لعل اقلها هو مستقبلهم الشخصي، من تعليم أو بناء حياة أسرية. وبديهي إن أي انتكاس أو تراجع سيحمل لمن عاشه شعورا كبيرا بالمرارة، والأنصار عاشوا انتكاسات الحزب بشكل مكثف وعميق بحكم تماسهم مع الكثير من الوقائع وكانوا شهودا على الكثير من الأمور التي خفيت، أو خفي معظمها، على من كان يمارس حياته الحزبية في الخارج. من هنا ياتى بتقديري حجم المرارة الكبير الذي وشم ممارسات الأنصار وتلبس رؤاهم النقدية، وهو أمر، بتقديري، مشروع، فلا يمكن لأحد، أو يحق له أن يصادر حق أي إنسان في أن يشحن مواقفه ورؤاه بمشاعر مرارت كابدها من تجارب كبيرة وصعبة.

فيما بعد انسحب الانقسام داخل حركة الأنصار ولحق بالأنصار حين تحولوا إلى المنافي، سواء للدراسة بالمراحل المبكرة من حياة حركة الأنصار، أي قبل انتهاءها، أو بعد ذلك حين تحول معظم الأنصار إلى المنافي. وعندها نشأ عنصر جديد في دائرة الانقسام والتي هي، بشكل وبآخر، شكل للصراع الداخلي، أقطابه الأنصار ككل من جهة، والحزبيون ممن عاشوا في الخارج من جهة أخرى. ولااغالي إذا ما قلت إن جميع الأنصار كانوا يعتبرون أنفسهم أفضل من ابناء الخارج وأكثر تضحية منهم، وإنهم هم الأجدر بالمواقع القيادية للمنظمات وبعض منهم أخذه الزهو لحد التصور بأنه أجدر من الجميع وبكل شيء. من ناحية ثانية شكل وجود الانصار في تنظيمات الخارج بعدما التحقوا بها تحديا نفسيا وسياسيا لأبناء التنظيمات. فمن ناحية لا يستطيع أبناء الخارج إغفال أو إنكار حقيقة ان الأنصار مضحون، وإنهم خاضوا الاختبار الأصعب بالصلابة والتضحية، ومن ناحية أخرى هم لا يؤمنون أن لهؤلاء الحق المطلق في كل شيء. فهناك بالمحصلة مراكز وامتيازات لا يريد احد أن يخسرها. ومن عايش تجربة التواجد في البلدان الاشتراكية يدرك بلا شك بعمق ووضوح مااشير إليه واعنيه. ادخل هذا الواقع أبناء الخارج في مأزق إثبات الوجود أمام هؤلاء الوافدين، الذين يجر ـ معظمهم ـ ورائه تاريخ يزكيه ويمنحه مركز الصدارة بالأعراف السائدة، (مع إن أعراف النضال تؤكد على نكران ألذات والتواضع).

دار إذن صراع من نوع آخر بين فئتين من الحزبيين. وهنا لجأ، من كان تاريخ الأنصار وتجربتهم يشكلان تحديا له، إلى الوسيلة التقليدية، بإهمال ومحاربة هؤلاء، والتقليل من شانهم لكي يتساوى معهم بالأهمية والمكانة، فصدرت دعاوى وتقولات هنا وهناك تريد التقليل من شان التجربة كلها، حاولت تصويرها وكأنها كانت فخا وقع به المغفلون من الشيوعيين، وإنهم، وليس بعضهم كما هو الواقع، كان يتصور إن رحلته إلى حرب الأنصار هي < رحلة كشافة >. وهذا التصوير المفتعل للواقع سيخلط بطبيعة الحال الأوراق، ويسقط حقوق تاريخية للأنصار، أوجدها الواقع ويريد البعض، لأسباب مختلفة، أن يلغيها ويتجاوز على استحقاقاتها المعنوية، الذي تجسدت ابسط أشكاله بحس المرارة الذي يغلف نقد غالبيتهم.

لم تدون للاسف الكتابات التي تناولت تجربة الأنصار، أو تعكس بوضوح، إلا ما ندر، الواقع الداخلي لحياة الانصار، وطبيعة الصراع المركب الذي عاشه النصير الشيوعي، من صراع مع قوة النظام العسكرية، وتضليلاته الإعلامية، وتسرباته الأمنية. إلى الصراع الحزبي الواسع، في الحياة الحزبية والعسكرية، إلى الصراع مع الطبيعة وقسوتها، مع تخلف وضعف أدوات مواجهتها، إلى الصراع النفسي الذي يحدث لإنسان يعيش في أماكن مغلقة، ومحاصر بالطبيعة القاسية والأعداء والخصوم، وحيث لا يستطيع حتى اختيار مكان نومه بحرية. أقول، كرست غالبية هذه الكتابات الوجه المشرق، وهو وجه حقيقي، للحركة وللتجارب الفردية المتباينة فيها، وكأنها تسعى، بتكريسها لهذا الشكل من التناول المحدود، للترويج الدعائي والتعبوي الفج، الذي لا يغني من يريد معرفة حقائق تطور الحياة في هذا الميدان المميز من تجربة الحركة السياسية العراقية، وحياة الحزب الشيوعي العراقي. ولكن لا يجوز، برأيي، لأي كان، بحجة إبراز الجوانب العميقة والمختلفة للتجربة، أن ينكر أو يتنكر للصفحات البطولية والمشرقة لهذه التجربة وما عكسته من غنى عقلي ووجداني لمن عاشها، وما جسدته من قيم عميقة للحياة الرفاقية المتضامنة، والتي شكلت في كثير من جنباتها علامات بارزة من الإيثار والحس الإنساني العالي، والعلاقات الإنسانية الرفيعة، التي اشك، بغير ما انتقاص من احد، أن يستطيع إدراك عمقها من لم يعايش التجربة. ولانزال، رغم كل هذه السنوات، وكل هذه المآلات الفردية لأبناء هذه التجربة، نشهد رغبتهم العميقة في أن يتواصلوا ـ فهم يثقون ببعضهم بقوة ـ ويستحضروا تجربتهم، لأنها، بتصوري، تشكل لغالبيتهم إن لم يكن لجميعهم أهم مراحل حياتهم.

فانصفوا الأنصار وتفهموا مرارات نقدهم أيها الممتعضون!!.


السويد

10-7-2005