٢٠٠٨-١١-١٩

دكتاتورية مبطنة بحرير الديمقراطية





في اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة الحرة الفضائية مع السيد مسعود البارزاني ليلة 16-11 وردت إشارة صريحة وواضحة من رئيس إقليم كردستان يتهم فيها السيد رئيس الوزراء نوري المالكي بالدكتاتورية والانفراد باتخاذ القرارات. وهذه الإشارة هي تتويج لحملة كبيرة كان قد ابتدأها التحالف الكردستاني والساسة والكتاب الكرد ومن تبعهم من الكتاب العرب، كرست لاتهام المالكي بالدكتاتورية والتنكر لمبادئ الدستور الذي كان هو شخصيا احد أفراد اللجنة التي حددت مبادئه. وكان جل النقد أو جوهره ومعظم التهجم الذي وجه لرئيس الوزراء ينصب على أفكاره التي طرحها حول ضرورة إجراء تعديل في الدستور يصحح العلاقة أو يعيد ترتيبها بين حكومة المركز وحكومة الإقليم. ورغم إن هذا السعي من الحكومة المركزية جاء لتعزيز دور الدولة في مقابل انفلات الإقليم الكردي إلا أن السيد البارزاني قد علل هذا التحول في موقف المالكي إلى رغبة لديه لإرضاء أطراف معينة( لم يسمها) وفي نفس الوقت ليثبت عدالته في توجيه ضربات أمنية للكرد بعدما وجهها إلى الشيعة والسنة في مناطق مختلفة من العراق.

قبل هذه الحملة كان بعض المراقبين قد شخصوا ميلا ملفتا لرئيس الوزراء للظهور المكثف في وسائل الإعلام الرسمية التي أخذت تغطي فعالياته بتفاصيل مملة( لا تنسوا أن مدير شبكة الإعلام هو من حزبه). وقد اخذ يميل بعموم سلوكه ونشاطه أكثر فأكثر للظهور بمظهر الشخص الأول في الدولة، وبالتأكيد إن ذلك لايمكن أن يمر بسهولة في ظروف العراق الحالية، فهناك قوى سياسية أخرى تريد أن يكون لها ولـ (زعمائها) دورا في حصة الظهور الإعلامي وفي الدور السياسي. ويبدو ان هذه الاتهامات لم تأت من فراغ فهناك ما يدعمها من الوقائع. والسؤال هو: إذا كان الوضع السياسي في العراق قائم على التوافق بين القوى السياسية، كما أكد مسعود البارزاني في نفس اللقاء، وان هناك (ميول) لدى الجميع لبناء (دولة المؤسسات) كما تدعي كل القوى السياسية، فمن أين جاءت ميول المالكي للعب دور الدكتاتور ومن أين يستمد قوته ومحرضاته إذا كان حزبه وكتلة التحالف المنضوي تحتها هي مع مسار العملية السياسية التوافقي والمحاصصي؟

نعرف جميعا أن حكومة السيد المالكي هي أول حكومة تشكلت بصلاحية انتخابية (أربع سنوات) بعد عدة حكومات مؤقتة كانت قد أدارت البلاد من قبلها (مجلس الحكم، حكومة علاوي، وحكومة الجعفري). وواجهت هذه الحكومة منذ البداية مجموعة كبيرة من المهام ومن التحديات ضاعف ثقلها وصعوبتها أن الحكومة كانت تسير على ارض غير ممهدة. والجميع يتذكر أيضا إن البلد كان حينها منتهكا بقوة من قبل الإرهابيين، وان الانقسام السياسي بنزوعه الطائفي كان على أشده، وقد انسحب هذا الانقسام بدرجات معينة على المجتمع وتركيبته واثر على التركيبة الديموغرافية للمدن المختلطة مذهبيا فنشأت جراء ذلك مشاكل داخلية فريدة من نوعها. لكن مهما تعددت توصيفات ألازمة يبقى التوصيف الأخير لها هو إنها أزمة أمنية بامتياز. فقد كان الوضع الأمني أو التأثير فيه هو عامل تحكم في الواقع السياسي بدرجات كبيرة.

ولم يتوقع احد آنذاك النجاح لحكومة المالكي وسط هذا الكم الهائل من التحديات والمصاعب وحدة الصراعات التي كانت تدور وتدار في ظل وجود احتلال كان له التأثير الحاسم في توجيه الدفة السياسية والأمنية في البلد.
ولم يكن أمام المالكي لكي ينجح في مهمته سوى أن يلعب على مجموعة من التوازنات التي افرزها هذا الواقع ويديرها أينما وكيفما استطاع. ولان الوضع الأمني هو المفتاح في المعادلة العراقية فقد تركزت جهوده على إدارة هذا الملف فكانت مهمة الحكومة الرئيسية هي استعادة الامن. وهنا بتقديري وقع المالكي في مطب ما يوصف به الآن بالدكتاتورية أو، بتعبير ملطف، الانفراد بالقرار السياسي. فهو لكي يدير العملية الأمنية كان عليه أن يوفر، عدا الغطاء السياسي بالتوافقات السياسية، قوة مادية على الأرض قادرة على إدارة هذا الملف، ولم تكن هذه القوة سوى الجيش.

فبينما كانت وزارة الداخلية غارقة بالفساد وانعدام الكفاءة وتتحكم بها الميليشيات وتتناهبها الفوضى والولاءات الطائفية والحزبية والفئوية، الامر الذي يجعلها مؤسسة غير مؤهلة لادارة العملية الامنية، كان الجيش بتركيبته اقل تأثرا بهذه المفاسد مع انه يوجد في داخله ضباط أميون وكوادر غير مؤهلة. والجيش العراقي عرف عنه عبر تاريخه تسيسه وتدخله في السياسة. ومن هذه الارضية، ولدوره المتنامي في العملية الأمنية، ولما لها من تأثيرات وانعكاسات على العملية السياسية، وبعدما حقق نجاحات ملموسة ميدانيا، فقد كان مرجحا أن تولد لديه طموحاته الخاصة للتأثير في الواقع السياسي. والجيش غالبا ما يتحرك للتاثير في القرار السياسي في ظل الإدارات المدنية للدول بالخفاء وعبر مراكز قوة معينة.
وما أوجد هذا الدور الجديد والمفترض للجيش هو إن المالكي قد وجد نفسه حينما شكل حكومته أمام خيارين. فهو إما أن يمارس إدارة الحكومة بالتوافق الرجراج مع القوى السياسية المتصارعة على المصالح وتتنازعها الأهواء الحزبية والفئوية، ويجعل الدولة تتخبط في توجهاتها وممارساتها. وإما أن يختار دور رجل الدولة الذي يمكنه ان ينجز المهمة التي تفرضها عليه الظروف والمتمثلة بشكل أساس في إعادة بناء الدولة المهشمة والمفككة. ويبدو انه، وبمزيج من الاضطرار والاختيار، كان قد اختار، كما أثبتت بعض الوقائع اللاحقة، خيار رجل الدولة. وهنا أصبح وجها لوجه أمام مهمة عسيرة هي إعادة تأهيل مؤسسات الدولة وإعادة الهيبة لها، وهذا ادخله، وسيدخله بالضرورة، في صدامات مع قوى تتعارض مصالحها مع هذا الهدف. وحين توغل في هذا الدور وجد نفسه أمام خيار الالتزام بتبعاته ونمو اتجاهاته ولهذا فقد دخل في صدام مع قوى متحالفة معه، كالتيار الصدري، كانت قد رجحت كفته في أزمة انتخابه لمنصبه داخل الائتلاف الحاكم. وهاهو الآن يدخل، أو هو في طريقه لان يدخل في صدام مع حلفاء (تاريخيين) له هم القوى الكردية. ويبدو إن ما دفعه الى الاصرار على هذا الخيار هو اعتماده وانبهاره بمصدر قوته الجديد، خارج إطار حزبه، وهو الجيش. وهذا الانبهار والحاجة هما عامل مشترك بين الطرفين. فالجيش،مع تنامي دوره في العملية الأمنية بعد النجاحات الملموسة التي حققها على الأرض، ولنزعته الحرفية ولتسيسه التاريخي، تنامت مطامحه وصار بحاجة لسياسي يتجاوز ضيق أفق الطوائف ويتخطى صراعات الأحزاب السياسية، العدو التقليدي للجيش، ليمهد له الطريق لتحقيق مطامح تقليدية بسيطرة سياسية صارت واقعا مفروضا أفرزته مجموعة التطورات والتغيرات في الحياة السياسية. وقد وجد في المالكي، الطامح لدور رجل الدولة ومتقمصه، ضالته. والطرفان كانا يدركان حاجتهما لبعضهما البعض لتكامل دوريهما، وقد تواطأا ليخلقا تناغمهما الخاص، واتخذا من بعضهما البعض أدوات لتأدية اغراضهما المنسجمة.

وهكذا ستعاد الدورة التي لامناص منها؛ فالمطلب الرئيسي للمواطن العراقي الآن هو الأمن، ولكي يتحقق هذا الأمن ينبغي القبول بأدوات بسط هذا الأمن، بمعنى القبول بهيمنة الجيش، لكن بطريقة أخرى، كما ينتهج السيد المالكي الآن، وهي تسيد إرادة سياسية متفلتة من القانون، أو دكتاتورية مبطنة بحرير الديمقراطية.


17-11-2008