٢٠٠٨-٠٥-٠١

بشتاشان بين نارين





أحداث بشتاشان بجميع تبعاتها، وبرغم ما حملته لمن عاشها أو عرف تفاصيلها أو كانت له صحبة بمن استشهد فيها من الم وحسرة، تبقى قضية غير شخصية. والحديث عنها والتذكير بها في كل مناسبة ليس أمرا ناتجا عن رد فعل عاطفي، أو نتاج لعقلية ثأرية تريد تصفية حساب مع من ارتكبها أو من تواطأ على إغفالها ومحاولة محوها من ذاكرة التاريخ، بل لان العمل بها ومن اجلها يندرج، من حيث الجوهر، في صلب الجهد السياسي والثقافي للمشروع الوطني الديمقراطي البديل لكل أوضاع السوء التي عاشها ويعيشها وطننا العراق، من دكتاتورية واستبداد وتضليل وطائفية وتردي سلفي لقيم التحضر الاجتماعي. بمعنى ان وضع قضية بشتاشان، كواقعة وكمعنى،في سياق فكري وسياسي هو واحد من المفردات الأساسية في إعادة هيكلة بنية الديمقراطية المفترضة في المشروع الوطني الغائب. من هنا تنبثق أهميتها ومن هنا ينبغي إنصافها وتخليصها من براثن من يريد ان يمتهنها بالمتاجرة أو بالصمت.

منذ ان تسرب اسم واقعة بشتاشان من كهوف النسيان وعرفت تفاصيلها وقعت في اغلب مراحل التعريف بها في مأزق لتطرفين شكلا، رغم أنهما من خلفيتين متباينتين، وجهين لمضمون واحد في التعامل معها، هما التهريج والصمت. التطرف الأول، ويضم مجموعة من مهرجي السياسة المشبوهين بارتباطاتهم ومناصرتهم للإرهاب وللبعث الفاشي، سعوا لتوظيف بعدها الأخلاقي والسياسي الكبير من اجل تصفية حسابات مع من ارتبط اسمه وتاريخه باسمها، أو تلوثت يده بدماء شهدائها وموجود في موقع المسؤولية في الدولة والعملية السياسية الجارية في العراق الآن كـ <جلال الطالباني> و <فؤاد معصوم> وغيرهم، وذلك لحسابات سياسية لا يجد أصحاب القضية الحقيقيون< وهم من عاش آلامها واجترع معاناة همجية مرتكبيها وكذلك أصحاب النظرة العقلانية في المجتمع العراقي ممن يعنيهم رسوخ القيم الإنسانية المتحضرة في المجتمع> أقول لا يجد أصحاب القضية الحقيقيون أي مشترك مع هؤلاء لا في المنطلق ولا في النظرة ولا الأهداف. والتطرف الثاني، وهم قيادة الحزب الشيوعي العراقي وأتباعها من المثقفين والكتاب، الذين مارسوا صمتا مريبا وتواطأ مخزيا مع مرتكبيها بسبب من ارتباطات سياسية ضيقة ومحاباة تشي بامتزاج الشخصي بالحزبي بشكل ملفت ومخجل. بالرغم من انه قد تم وبأكثر من مناسبة طرح تساؤلات حول هذه الواقعة وموقف الحزب أو قيادته منها من قبل جمهور حزبي على بعض قياديي الحزب. وقد كانت الإجابات في المناسبات المختلفة إجابات تطمينية أرادت، بتقديري، امتصاص بعض الغضب المشروع الذي ينطوي عليه التساؤل الساعي للتذكير بالواقعة. ويمكن هنا على سبيل المثال ذكر لقاء للأستاذ <رائد فهمي> عضو اللجنة المركزية في ندوة على البال تالك < قبل سنتين على ما أظن> ذكر فيه ان قضية بشتاشان حية في ضمير الحزب وحاضرة في ذهن قيادته لكنها< القيادة> ترى ان الأوان لم يأن بعد لمعالجتها. دون ان يوضح بالطبع ما هي استحقاقات هذه القضية، وما هي الإجراءات التي يفترض ان الحزب يريد اتخاذها لمعالجتها، وما هي الظروف التي تجعل أوان طرحها ومعالجتها لم يحن بعد. علما ان المطلب الأساسي في هذا الشأن هو، كخطوة أولية، ان يتم ذكر هذه الواقعة في ذكراها السنوية في منابر الحزب الإعلامية العلنية وإصدار بيان من قيادة الحزب في المناسبة لا اكثر.

ينطوي كلام الأستاذ <رائد فهمي> كما هو كلام بعض القياديين الآخرين، على اعتراف صريح بأهمية وحساسية هذا الواقعة. أهميتها لكونها شكلت بكل معانيها جريمة ارتكبت ضد الحزب وقصدت إيذائه وكان ذلك ضمن ملابسات سياسية تدخل في صميم صراع الحزب مع النظام ألبعثي، فهي لم تكن نتيجة مباشرة للصراع الحزبي بين قوى المعارضة للنظام ألبعثي والمتواجدة في كردستان آنذاك كما يراد لها ان تختزل وحسب، وإنما كانت، بالإضافة إلى طابع الانتقام الممزوج بالنفس العنصري الذي شكل عمادها< قتل الأسرى من الأنصار العرب على الهوية>، ضمن اتفاق تكتيكي عقده الجلاليون مع النظام ألبعثي بدوافع انتهازية، وهذا يدخلها عمليا وتاريخيا ضمن جرائم هذا النظام وان ارتكبت بأدوات غير أدواته القمعية التقليدية. وحساسة لأنها كواقعة تشترط تعامل مباشر معها لأنها جزء مؤلم من مسيرة الحزب الشيوعي السياسية، ولا يمكن إغفالها أو إغفال نتائجها بتغييب ذكرها بانتظار الفرصة السانحة، التي يبدو إنها لن تأتي أبدا لان العقلية التي تقود بها قيادة الحزب العمل الحزبي دأبت، ولاعتبارات تحالفية مزمنة، على مراعاة حلفائها بعدم تذكيرهم بأخطائهم ناهيك عن جرائمهم بحق الحزب، وان كان ذلك يتم على حساب مبادئ العمل الحزبي أو توجهات القاعدة الحزبية. وهذا هو عين ما حدث أثناء التحالف مع حزب البعث في أيام الجبهة الوطنية في السبعينات حينما غيبت جرائم شباط 1963 التي ارتكبها البعثيون في انقلابهم الأسود، عن أدبيات الحزب رغم ما كانت تحمله من ذكريات قاسية في تاريخ الحزب وفي وجدان مناضليه.

وفي الوقت الذي تمارس فيه قيادة الحزب الشيوعي العراقي صمتا رسميا بلغ حد الامتناع حتى عن ذكر الحادثة أو التذكير بها في ذكراها السنوية، رغم أنها شكلت منعطفا مهما في تاريخ الحركة الأنصارية، وغيبت بالاستشهاد كادر حزبي وعلمي كان من مسؤولية الحزب، الأخلاقية على اقل تقدير، تذكرهم والحديث عنهم وإدانة جريمة استهدافهم ـ أقول قد رافق هذا الصمت الرسمي صمت آخر يثير ريبة اكثر لأنه صادر عن مثقفين شيوعيين، كتاب وغيرهم، قد تجنبوا الحديث عن هذه الواقعة وما رافقها من ظروف سياسية عامة وداخلية تخص الحزب نفسه، صمت هؤلاء بالرغم من انه تقع عليهم مسؤولية مزدوجة للحديث عن الواقعة والنظر إليها، أولا لأنهم شيوعيون ولبعضهم رفاق استشهدوا في هذه المعركة، وثانيا لانهم مثقفون يملي عليهم واقعهم، كنخبة اجتماعية مسؤولة عن إظهار الحقائق أمام الراي العام العراقي وأمام الجمهور الحزبي في نفس الوقت، أن يتحدثوا عن هذه الجريمة باعتبارها مفصل مهم في مسار الحياة السياسية العراقية. وهؤلاء بصمتهم قد دخلوا للأسف في خندق المتواطئين بطريقة مركبة كشيوعيين وكمثقفين. وخير دليل على ما أقول هو الصمت الشامل إزاء الأكاذيب التي عرضها < نو شيروان مصطفى> المتهم الرئيسي في الجريمة،في حديثه عن الواقعة على قناة البغدادية الفضائية في يوم 16-3-2008 * وخلط فيها الأوراق وشوه الحقائق وتجاوز على الواقع بطريقة مريعة وسفه من قيمة الحدث مختزلا المأساة إلى أرقام عابرة < بالعشرات > حسب تعبيره. لكن رغم كل هذا التجني والغطرسة لم نشهد أي رد فعل أو مناقشة لهذا الادعاء والتزييف لا من السياسيين ولا من المثقفين الشيوعيين.

مرة أخرى ينبغي التذكير على ان قضية بشتاشان هي ليست قضية فردية تخص هذا الفرد أو هذه المجموعة أو ذلك الحزب، وإنما هي قضية رأي عام عراقي، وهي قضية سياسية وثقافية واجتماعية ذات بعد أخلاقي، ترتبط معالجتها والنظر فيها واليها ارتباطا وثيقا بقضية بناء المشروع الوطني العراقي القائم على أسس الديمقراطية والتحضر. ولا يحق لأحد ان يقلل من أهمية هذه القضية ويصادرها بذريعة نبذ الخلافات والنظر إلى المستقبل والمراهنة عليه وترك الماضي بكل مخلفاته السلبية وراءنا، لان بناء المستقبل لن يتحقق بغير التوقف عند الماضي ومراجعته ليتم تجاوزه بصدق وليس بزيف الشعارات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ



· مقطع قصير لحديث <نوشيروان مصطفى>


http://youtube.com/watch?v=b2wEuSTMJbo