٢٠١١-٠٣-٢٢

الاحتجاجات العراقية




لسنا مثل تونس أو مصر. 

هذه العبارة رددها الحكام العرب الذين أفزعهم وأقلقهم زلزال التغيير التونسي - المصري لان سيناريوهاته كانت مرشحة لان تحدث عندهم. وهذا الادعاء في الواقع فيه قدر من الصحة بقدر ما فيه من تحايل وتهرب من ما يفرضه واقع الثورة الجديد من استحقاقات. واستحقاقات زلزال الثورة العربية الحديثة الذي تفجر في تونس وتجذر في مصر، واضحة وجلية، فكل الأنظمة العربية  هي أنظمة فاشلة وفاسدة ومستبدة وغير شرعية ومطلوب إسقاطها. وهذا مايبطل نفي التشابه مع تونس ومصر. لكن من ناحية أخرى فإن هذا النفي صحيح أيضا بسبب من أن الشعوب العربية ليست لديها كلها القدرات والاستعدادات لانجاز ما انجزه التونسيون والمصريون.  فالمسالة ليست في وجوب إسقاط الأنظمة فقط وإنما في توفر الاستعداد والقدرات على إسقاطها.  وهذا  لايتعلق بفروقات محلية نسبية تميز هذا البلد عن ذاك وإنما بجذور بنيوية ترتبط  بتركيبية هذه المجتمعات السياسية والثقافية والحضارية. ولهذا انبثق لدينا نموذجان جديدان ومختلفان بل ومغايران للتجربة التونسية - المصرية، رغم أنهما انطلقا كامتداد لزخمهما، وهما النموذج الليبي، حيث قمع شامل لميليشيات النظام قابلها تدخل خارجي لحماية الشعب سيفضي لخلط أوراق وتحول في مآلات الثورة ربما تفسد النموذج الراقي الذي قدمته الثورة العربية الحديثة.  والنموذج الآخر هو  مايقع في البحرين  الآن من تدخل خارجي، عربي خليجي، بمنطلقات طائفية لقمع شعب منتفض  وكرد على عبث أصابع إيرانية طائفية.

الوحيد الذي لم يردد هذه العبارة حينما سعى شعبه إلى تقليد أو الاقتداء بما حدث في تونس ومصر هو رئيس الحكومة العراقية "نوري المالكي"، مع انه الأحق من غيره بترديد هذه العبارة لان ظروف العراق لاتشبه ظروف تونس ومصر فعلا. ليس من ناحية غياب دواعي وأسباب الانتفاض ضد الحكومة، فهذه كثيرة وموجبة، ولا بسبب وجود عملية ديمقراطية في العراق،  يعرف الجميع تفاهتها وزيفها، كما يريد أن يروج النظام، وإنما بسبب القدرات الذاتية والاستعداد الذاتي للعراقيين لانجاز شيء يشبه ما انجزه الآخرون. 

ولان ماقدمته الثورتان التونسية والمصرية أضحى نموذجا يرقى لمستوى العالمية فلا مناص لنا من أن نجعله النموذج المقارن لنقارن بينه وبين أي تجربة نريد أن نحدد ملامحها من غير أن نغفل، بطبيعة الحال، بعض الفروقات التي تفرضها الخصوصيات المحلية. 

 لايمكن لنا الآن الحكم بان تجربة الانتفاض العراقية قد أخفقت  تماما، فلايزال الوقت مبكرا على إطلاق مثل هذا الحكم،  ولكن مقدمات الإخفاق تبدو  ماثلة إذا مانظرنا إلى  بعض الأسس التي أرى إنها كانت من العوامل الجوهرية في نجاح تجربة الثورة العربية الحديثة ( التونسية والمصرية). فالعامل الجوهري الأول في نجاح الثورة العربية الحديثة في تونس ومصر كان في الطابع الوطني الموحد لهذه الثورة. فهي قد انطلقت، تونسيا، من الأطراف، من مدن بعيدة لتصل بسرعة وانسيابية إلى العاصمة يوحدها مطلب واحد وشعار واحد ورؤية سياسية واحدة وتؤطرها  ركيزة اجتماعية وثقافية، وربما نفسية واحدة، فيما انطلقت ثورة مصر من العاصمة لتمتد إلى المدن الأخرى واخذ الجميع يسيرون باتجاه واحد، بأهداف واحدة ورؤية وشعار واحد وكانت تظاهرات المدن رافدا ومعينا لتظاهرات العاصمة وعزف هارموني في سمفونية التغيير التي رددها الشعب المصري باجمعه. بينما في العراق أخذت الاحتجاجات صبغة هوياتية متباينة ومتناغمة مع توزعات المجتمع العراقي الطائفية والأيدلوجية والقومية، اتسمت بدوافع ومنطلقات متباينة لايوحدها أو يجمعها  شيء. صحيح أنها اشتركت بالمطالب والتوقيتات لكنه لم يجمعها شعار وموقف موحد أو اتجاه  ورؤية موحدين، لهذا أخذت تتحرك الواحدة بمعزل عن الأخرى وتنتهي  إلى مآلات متباينة.  ففي الجنوب، البصرة وغيرها،كانت التظاهرات إسلامية – شيعية عبرت عن تطلعات اتجاهات سياسية متنافسة مع أحزاب السلطة على إدارة المحافظة، ظلاميون ينافسون ظلاميين، وتوقفت مباشرة بعد استقالة المحافظ في البصرة وبهذا بدت وكأنها غير معنية بأمر الوطن وأمر من يتظاهر في العاصمة أو المدن الأخرى. وبينما لم يكن لأهل البصرة والجنوب أداة رمزية  تميزهم وتعبر عن هويتهم غير لافتة صغيرة حملها المتظاهرون تحمل عبارة الحسين بن علي الشهيرة،( هيهات منا الذلة) وهي رمز  سياسي شيعي صريح،  فان المحتجين الآخرين قد رفعوا علامات تميزهم أيدلوجيا وسياسيا وقوميا. ففي المناطق الغربية والموصل حمل المحتجون أعلام دولة البعث، وهذه، حسبما أتصور، إشارة صريحة لهوية المحتجين، وفي المناطق الكردية رفعت أعلام قومية لاعلاقة لها البتة بالدولة العراقية لا الحالية ولا السابقة، بالإضافة إلى أن الشعارات رفعت باللغة الكردية التي لايقراها كل العراقيين.  أضف إلى ذلك أن المطالب والشعارات كانت هزيلة وذات طابع محلي صرف وبدون أي أفق سياسي. فقد كانت الشعارات والمطالبات تركز على الخدمات كمطلب نهائي، بينما الخدمات هي نتيجة لفشل سياسي وارتباك منظومة سياسية ولا يمكن إصلاحها بغير تغيير حقيقي لهذه المنظومة والتشكيلة السياسية. وهذا بحد ذاته تعبير عن قصور في وعي ورؤية المحتجين الأمر الذي دفع السيد "احمد القبانجي" إلى انتقاده  حينما قال إن الخدمات ليست مطلبا سياسيا،  فحتى الإرهابي، على حد تعبيره، يمكن أن يطالب بالخدمات، بينما المطلوب هو شعار سياسي  يعبر عن رؤية وطموح يتخطيان ضيق الأفق المحلي الذي عبرت عنه المطالب لينطلق في أفق وطني واسع ينهم بجوهر الدولة العلماني والديمقراطي.   

صحيح أن التظاهرة في بغداد اختلفت في منطلقاتها وشعاراتها وسلوكها الذي استمر بإصرار على الالتزام بالطابع السلمي، بينما اخذ في المناطق الأخرى، خصوصا الموصل والمنطقة الغربية وبعض مناطق الجنوب طابعا عنيفا وفوضوي، واكتسبت تظاهرات العاصمة ايضا بعض عناصر القوة في التنظيم والممارسة بفعل انضمام أعداد غير قليلة من المثقفين والفنانين والإعلاميين لها عزز من طابعها المتحضر، لكنها في النهاية بقيت منعزلة وغير فعالة بسبب العوامل التي أشرت لها وبسبب تضييقات السلطة عليها التي أخذت طابعا قمعيا سافرا. ورغم أن للسلطة الحاكمة في بغداد أسلحة أخرى أكثر تأثيرا لم تستخدمها بعد  مثل التظاهرات المضادة لأنصارها، وهم كثيرون، فالشارع العراقي معبأ طائفيا وحزبيا، لكن وكما يبدو  فأنها لن تحتاج إلى أكثر مما فعلته بالمتظاهرين، فالتظاهرات، وعلى عكس مايتمناه الكثيرون، وأنا منهم، سوف لن تستطيع المواصلة وستتضاءل مع الأيام إلى أن تنتهي. فهذه الاحتجاجات، كما كشف سياق تطورها، لم تكن، للأسف، أكثر من زوبعة في فنجان ومحاولة انفعالية لتقليد تجربة ناجحة تغري بالتقليد.

 ومن الضروري  التأكيد هنا على  إن إمكانية فشل هذه الاحتجاجات لايتحمل مسؤوليته  الشباب الذين حاولوا أن يلعبوا دورا هم غير قادرين على انجازه بسبب الظروف المحيطة بهم، ظروف ترتبط بمسار  تطور الحياة السياسية والحضرية للمجتمع العراقي. لان العراق، ومنذ سنوات طويلة، جزئ وشظى وفككت وحدته الوطنية والاجتماعية بفعل سلسلة طويلة من الاحداث والتحولات التي تسبب بها التصارع على السلطة والتنازعات القومية والطائفية التي فككت النسيج الاجتماعي والوطني للحد الذي صار أمر معالجة هذا الواقع  شيئا يقارب المستحيل. فمنذ سقوط النظام الملكي وصعود العسكر إلى السلطة صار اتجاه الدولة والمجتمع هو التجزيء والتفكك، وكلما اتسعت رقعة مركزية الدولة واستبداد النظام كلما ازداد وتفاقم مستوى التفكك الاجتماعي والوطني رغم غلاف الوحدة القسرية التي كانت تفرضه الأنظمة على الواقع. 

ومن هذه (الخلطة السحرية)، مجموعة العوامل التاريخية عبر نشأة العراق وتشكل دولته الحديثة ومجتمعه المعاصر ومجموعة الصراعات التي فككت الدولة والمجتمع انبثق هذا الواقع المريض والمعاق الذي أدى إلى سلسلة من إلا خفاقات جعلت المجتمع العراقي يواجه صعوبات هائلة تمنعه من الارتقاء  إلى مستوى انجاز ثورة تغيير  على غرار ماحدث في تونس ومصر، لأننا رغم إرادتنا ورغباتنا ونوايانا الطيبة لكننا فعلا:

 لسنا مثل تونس أو مصر.