٢٠٠٧-١٠-٠٣

خلفيات النقد الحاد






في المحافل والمناسبات الحوارية التي يلتقي فيها اليساريون العراقيون، يدور في غالب الاحيان نقاش حول تجربة الحزب الشيوعي العراقي، ومصائره في المراحل القادمة في خضم التحولات السياسية المستمرة في العراق. ويستند هذا النقاش في كثير من تاويلاته على النظر في الحقبة المتأخرة من تجربة الحزب، والتي يمكن تحديدها بفترة التحالف مع البعث وماتلاها، وتداعيات انهيار هذا التحالف الذي ارتبكت على خلفيات عقده وانفراطه كل حياة الحزب الداخلية، إذ أثيرت وما تزال، بشكل واسع ومفتوح كل أنواع الأسئلة ذات الطابع الجذري، حول ما اذ كان من الممكن أن يستطيع الحزب الإبقاء على كيانه كحزب ثوري راديكالي مفتوح على أفق إنساني عميق وصادق، مع إبقائه على نهجه السياسي، وكادره التنظيمي الذي اختط له توجهاته الفكرية والتنظيمية التي أدت إلى انتكاساته، والذي خلق كتلة حزبية ونسق تنظيمي يكرس هذا التوجه ويصر على الاستحواذ على الحزب وعلى قدراته المادية، وعلى ارثه التاريخي الكبير. وكان بعض هذا النقد، الذي يتضمنه النقاش في تلك المحافل، يختزن ويعكس إحساس عميق بالمرارة، ولا يخلو من بعض الحدة والخشونة، وبشكل خاص من قبل الذين عاشوا تجربة الكفاح المسلح في حركة الأنصار، التي امتد نشاطها منذ أواخر السبعينات، بعد السقوط المدوي لتجربة التحالف مع البعث، إلى انتهاء الحركة في عمليات الأنفال في اواخر1988. وكان بُعد المرارة في النقد الموجه لمسيرة الحزب الشيوعي مثار امتعاض لدى الكثير ممن يمكن وصفهم بأنهم من اولئك الذين لم يستطيعوا إدراك الأبعاد، والخلفيات الذهنية والنفسية، لمرارات هؤلاء المنتقدين، فدفعهم هذا القصور بالنظر لإصدار أحكام وتقييمات جزافية، وإلصاق تهم منتقاة من حالات محدودة لتمييع وجهة هذا النقد، ومحاولة تصويره وكأنه قائم على حس الثأر، وانه تصفية حسابات ورغبة بالانتقام الشخصي تحكم دوافعه طموحات فردية أو رغبة بامتياز ما يعوض به المنتقدون من الأنصار نضالهم وتضحيتهم. وهذه الخلفية وأشياء أخرى غيرها تدفع، بتقديري، لفتح ملف حركة الأنصار، وماتداعى ويتداعى من سلوكيات ومواقف على أفق حضورها في حياة وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي.

لم يجئ تشكيل حركة الأنصار عفويا رغم عشوائية خطواته الأولى، وإنما كان رد فعل وموقف احتجاج مزدوج، على سطوة النظام ألبعثي ودمويته من جهة، ومن جهة اخرى ضد سياسات الحزب، والى حد كبير ضد قيادته التي آلت تكتيكاتها السياسية، وتشبثها بالتحالف مع البعث، دون أية خطة سياسية وتنظيمية تأخذ احتمالات التحول في الواقع السياسي، وفي موقف وسلوك السلطة، رغم كل المؤشرات الأولية الكثيرة على نية الانقلاب، الى انتكاسة في حياة الحزب اذته ودفع ثمنا كبيرا بسببها. وما ساعد على بلورة هذا الموقف الاحتجاجي، والسلوك العملي الذي أحرج قيادة الحزب عندها، هو وجود حركة مسلحة للأحزاب القومية الكردية في الإقليم، حفزت أفراد من تنظيم إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي على المبادرة والانسحاب من المدن إلى الجبال، وتشكيل النواتات الأولى لتشكيلات الأنصار، التي تلقفتها بعض العناصر القيادية للحزب، لأسباب ليس كلها لغرض خدمة الحزب وقضيته ـ احدها سد الطريق على أن تأخذ هذه المبادرة دور واسم الحزب وتجرد الفئات المتنفذه فيه من مواقعها ـ بعدما أدركت ولمست قدر الحماسة لدى الكثير من الشيوعيين على تعزيز اتجاه الكفاح المسلح كشكل أساسي للرد على قمع السلطة.

وهكذا ابتدأت الدفعات الأولى من الأنصار الشيوعيين، ومن كل القوميات والمذاهب والاديان العراقية بالتوجه إلى كردستان، لرفد حركة الأنصار وتعميق اتجاهها السياسي وتعزيز قدراتها. ومنذ تلك اللحظة ستصير حركة الأنصار اتجاها وتيارا قويا داخل الحزب، شكل ضغطا كبيرا على القيادة بنقده وتدقيقه لتوجهاتها السياسية وتعليلاتها الفكرية.

لكن حركة الأنصار، كحال كل مجموعة بشرية، ليست كتلة متجانسة في التوجهات، ولاافرادها متسقون في تفكيرهم وتطلعاتهم، لهذا شهدت الحركة في حياتها الداخلية، وداخل دائرة السجال السياسي والفكري الذي دار داخلها، بروز عدة اتجاهات وتصورات لتقييم الاوضاع، اختلفت فيما بينها بالقدر نفسه الذي اختلفت فيه مع قيادة الحزب. ولأن الانتماء للحركة يشكل عمليا خطر على حياة كل فرد فيها ـ ماعدا نفر نادر معروف للجميع ـ ولأنها تشكل خط مواجهة عنيف مع النظام ألبعثي، ولأنها، وهذا الأهم، حركة مسلحة وقريبة من الداخل، وفيها طاقات حزبية كبيرة، فقد كانت لهذا كله تثير قلق قيادة الحزب أو المتنفذين فيها لئلا تتجه هذه الحركة باتجاه بعيد عما تريده لها هذه القيادة، أو أن تتوفر لها قدرة ايجاد البديل المحتمل، فتجرد القياة من مواقعها وتأخذ المبادرة من يدها لهذا سعت هذه القيادة جاهدة لكي لا يتبلور أي تيار في الحركة، ولا أن ينجح أي فرد ـ من القيادة ـ يستطيع أن يستقطب مجاميع الأنصار حوله، فيشق عصا الطاعة ويقسم الحزب. وبهذا دار وبأشكال مختلفة، معضمه مبطن وخفي، صراع، هو الأشق والأكبر والى حد ما الاعمق في حياة الحزب في تلك المرحلة وربما في تاريخه. لكن نهاية هذا الصراع، والمآلات التي انتهى إليها، قللت من اهميته ومن ادراك قوته حتى في وجدان ووعي مناضلي الحركة أنفسهم.

في الواقع إن هذا الصراع، ومن خلال بعض التسريبات، وما كان يشاهد على السطح بوضوح، لم يكن صراعا صرفا بين القيادة والقاعدة كما يمكن، أو يراد له، أن يصور. فجزء ومستوى من هذا الصراع كان يدور داخل قيادة الحزب نفسها فهي أيضا كانت منقسمة إلى عدة اتجاهات، وجميع هذه الاتجاهات كانت تريد أن توظف الحركة باتجاه نواياها أو توجهاتها. وبمستوى هذا الانقسام، مهما أٌختلف حول طبيعته، انقسمت القاعدة الحزبية. وقد لااكون مغاليا إذا ما قلت، إن قيادة الحزب استطاعت، بجهود حثيثة ومحنكة، أن تجرد كل طاقة النقد الموجه لها وحولت كثير من الأنصار إلى( باطنيين) أو صامتين، بعدما اتبعت وسائل عديدة لمواجهة هذا الاتجاه النقدي الناقم وامتصاص طاقته واندفاعه، ومن هذه الأساليب:

العزل والتهميش، الحرب النفسية، الإبعاد بواسطة النقل إلى آماكن معينة، العقاب الفردي والجماعي، الإغراءات ــ بالمناصب والمنح الدراسية وغيرها ــ لمن لديه استجابة، الإجراءات القمعية ـ كالإبعاد والطرد، السجن (حالات نادرة لكنها مورست) والتعذيب حد الموت (وهي نادرة أيضا لكنها وقعت). ومع تكثيف هذه الإجراءات بعيد الاجتماع الاعتيادي للجنة المركزية في عام1984عقمت حركة الأنصار من أي توجه يمكنه أن يشكل طاقة مادية لمواجهة أوضاع القيادة. وحوصر من بقي حاملا لتوجه نقدي للأوضاع، ومورست ضده أوسع ما يمكن أن يطلق عليه حربا نفسية أدت إلى تعميق الجروح وتوسيع الشقاق داخل الحزب. هذا الواقع أدى، بعدما انتهت الحركة بعمليات الأنفال، إلى اكبر حركة انسحاب من التنظيم وقعت في تاريخ الحزب، كان جسدها المادي الأكبر هم الأنصار. وقد حمل هؤلاء الأنصار معهم مرارات تجربة صعبة وفشل متكرر، هذا عدا الخسارات الشخصية، فالكثير منهم إن لم يكن جميعهم، لاسيما أولئك الذين بقوا حتى نهاية الحركة، كانوا قد ضحوا بأشياء كثيرة لعل اقلها هو مستقبلهم الشخصي، من تعليم أو بناء حياة أسرية. وبديهي إن أي انتكاس أو تراجع سيحمل لمن عاشه شعورا كبيرا بالمرارة، والأنصار عاشوا انتكاسات الحزب بشكل مكثف وعميق بحكم تماسهم مع الكثير من الوقائع وكانوا شهودا على الكثير من الأمور التي خفيت، أو خفي معظمها، على من كان يمارس حياته الحزبية في الخارج. من هنا ياتى بتقديري حجم المرارة الكبير الذي وشم ممارسات الأنصار وتلبس رؤاهم النقدية، وهو أمر، بتقديري، مشروع، فلا يمكن لأحد، أو يحق له أن يصادر حق أي إنسان في أن يشحن مواقفه ورؤاه بمشاعر مرارت كابدها من تجارب كبيرة وصعبة.

فيما بعد انسحب الانقسام داخل حركة الأنصار ولحق بالأنصار حين تحولوا إلى المنافي، سواء للدراسة بالمراحل المبكرة من حياة حركة الأنصار، أي قبل انتهاءها، أو بعد ذلك حين تحول معظم الأنصار إلى المنافي. وعندها نشأ عنصر جديد في دائرة الانقسام والتي هي، بشكل وبآخر، شكل للصراع الداخلي، أقطابه الأنصار ككل من جهة، والحزبيون ممن عاشوا في الخارج من جهة أخرى. ولااغالي إذا ما قلت إن جميع الأنصار كانوا يعتبرون أنفسهم أفضل من ابناء الخارج وأكثر تضحية منهم، وإنهم هم الأجدر بالمواقع القيادية للمنظمات وبعض منهم أخذه الزهو لحد التصور بأنه أجدر من الجميع وبكل شيء. من ناحية ثانية شكل وجود الانصار في تنظيمات الخارج بعدما التحقوا بها تحديا نفسيا وسياسيا لأبناء التنظيمات. فمن ناحية لا يستطيع أبناء الخارج إغفال أو إنكار حقيقة ان الأنصار مضحون، وإنهم خاضوا الاختبار الأصعب بالصلابة والتضحية، ومن ناحية أخرى هم لا يؤمنون أن لهؤلاء الحق المطلق في كل شيء. فهناك بالمحصلة مراكز وامتيازات لا يريد احد أن يخسرها. ومن عايش تجربة التواجد في البلدان الاشتراكية يدرك بلا شك بعمق ووضوح مااشير إليه واعنيه. ادخل هذا الواقع أبناء الخارج في مأزق إثبات الوجود أمام هؤلاء الوافدين، الذين يجر ـ معظمهم ـ ورائه تاريخ يزكيه ويمنحه مركز الصدارة بالأعراف السائدة، (مع إن أعراف النضال تؤكد على نكران ألذات والتواضع).

دار إذن صراع من نوع آخر بين فئتين من الحزبيين. وهنا لجأ، من كان تاريخ الأنصار وتجربتهم يشكلان تحديا له، إلى الوسيلة التقليدية، بإهمال ومحاربة هؤلاء، والتقليل من شانهم لكي يتساوى معهم بالأهمية والمكانة، فصدرت دعاوى وتقولات هنا وهناك تريد التقليل من شان التجربة كلها، حاولت تصويرها وكأنها كانت فخا وقع به المغفلون من الشيوعيين، وإنهم، وليس بعضهم كما هو الواقع، كان يتصور إن رحلته إلى حرب الأنصار هي < رحلة كشافة >. وهذا التصوير المفتعل للواقع سيخلط بطبيعة الحال الأوراق، ويسقط حقوق تاريخية للأنصار، أوجدها الواقع ويريد البعض، لأسباب مختلفة، أن يلغيها ويتجاوز على استحقاقاتها المعنوية، الذي تجسدت ابسط أشكاله بحس المرارة الذي يغلف نقد غالبيتهم.

لم تدون للاسف الكتابات التي تناولت تجربة الأنصار، أو تعكس بوضوح، إلا ما ندر، الواقع الداخلي لحياة الانصار، وطبيعة الصراع المركب الذي عاشه النصير الشيوعي، من صراع مع قوة النظام العسكرية، وتضليلاته الإعلامية، وتسرباته الأمنية. إلى الصراع الحزبي الواسع، في الحياة الحزبية والعسكرية، إلى الصراع مع الطبيعة وقسوتها، مع تخلف وضعف أدوات مواجهتها، إلى الصراع النفسي الذي يحدث لإنسان يعيش في أماكن مغلقة، ومحاصر بالطبيعة القاسية والأعداء والخصوم، وحيث لا يستطيع حتى اختيار مكان نومه بحرية. أقول، كرست غالبية هذه الكتابات الوجه المشرق، وهو وجه حقيقي، للحركة وللتجارب الفردية المتباينة فيها، وكأنها تسعى، بتكريسها لهذا الشكل من التناول المحدود، للترويج الدعائي والتعبوي الفج، الذي لا يغني من يريد معرفة حقائق تطور الحياة في هذا الميدان المميز من تجربة الحركة السياسية العراقية، وحياة الحزب الشيوعي العراقي. ولكن لا يجوز، برأيي، لأي كان، بحجة إبراز الجوانب العميقة والمختلفة للتجربة، أن ينكر أو يتنكر للصفحات البطولية والمشرقة لهذه التجربة وما عكسته من غنى عقلي ووجداني لمن عاشها، وما جسدته من قيم عميقة للحياة الرفاقية المتضامنة، والتي شكلت في كثير من جنباتها علامات بارزة من الإيثار والحس الإنساني العالي، والعلاقات الإنسانية الرفيعة، التي اشك، بغير ما انتقاص من احد، أن يستطيع إدراك عمقها من لم يعايش التجربة. ولانزال، رغم كل هذه السنوات، وكل هذه المآلات الفردية لأبناء هذه التجربة، نشهد رغبتهم العميقة في أن يتواصلوا ـ فهم يثقون ببعضهم بقوة ـ ويستحضروا تجربتهم، لأنها، بتصوري، تشكل لغالبيتهم إن لم يكن لجميعهم أهم مراحل حياتهم.

فانصفوا الأنصار وتفهموا مرارات نقدهم أيها الممتعضون!!.


السويد

10-7-2005