٢٠٠٧-٠٩-٢٧

عاصفة

قصة قصيرة


كان يوما لاهبا!
بدأت الحرارة تشتد باقتراب النهار من منتصفه، أحسست بإرهاق وعطش فتوقفت عند بائع عصير، وطلبت عصير رمان. تحسست بيدي الكيس ألورقي، وكنت أتواصل مع فرحي خائبا. لم احقق شيئا في رحلتي! لكنني عثرت على اللعبة التي طالما ألحت عليها ابنتي الصغيرة. كنت أتخيل فرحتها وكيف ستحتضن اللعبة بيديها الصغيرتين الدافئتين وترقدها معها في الفراش، حينما وضع البائع أمامي قدحا مليئا بسائل اخضر مائل إلى الصفرة وتطفو عليه بثور دقيقة، سوداء وفضية لماعة. نظرت إلى البائع باستغراب. حين واجهت عينيه ونظراته الحديدية تبددت لدي كل نأمة للاحتجاج. لكني تمالكت نفسي وقلت بصوت هدجه التعب والقلق:
-أنا طلبت عصير رمان.. ما هذا؟
أجابني البائع بغلظة:
-هذا ما طلبت وستدفع ثمنه.. نحن هنا على باب الله..!
عجبت للهجته المتعالية والواثقة. رفعت عيني بلمحة سريعة إلى وجهه. واجهتني نظرات ساخرة من عينين بلا لون. أخافتني عيناه فأطرقت. تمالكت نفسي في اللحظات الأخيرة، فلم أُظهر هلعي... مددت يدي ببضع قطع نقدية، نظر إلي بتحد وأوشك أن يغضب:
- لست شحاذا يا هذا..! ثمن العصير أكثر من هذه الخردة. ثم عليك أن تشرب ما نقدمه لك. مفهوم!.
تحيرت في كيف أرد، وكيف أتخلص من هذا المأزق.. نفخت صدري رغم إحساسي بالخواء، تحسست شاربي لأتأكد من أنهما مازالا في مكانهما.
- أنا لااريد أن اشرب هذا الشيء، وأنا أقدم الثمن حسب ما مكتوب في لائحة الأسعار. وهذه تسعيرة دولة.
ظننت أني قد أفحمته.
أجابني ببرود وهو يقوم بحركات لا معنى لها:
-أنا أتقاضى مااقول وليس ما مكتوب. ولا تذكر اسم الدولة !
صرت أكثر ذهولا. أدركت بحدسي الذي لا يخيب باني مقبل على موقف صعب... هكذا أنا، أشم رائحة الخطر، رغم لعنة الجيوب الانفية الملتهبة ابد. واعرف أن لكل شيء رائحة. أردت أن أتوعده بابتسامة ساخرة. لكني ابتسمت بتخاذل رغما عني. قلت له:
- كم تريد ثمنا لهذا العصير؟.
قلت الكلمة الأخيرة بتقزز ظاهر.
أجاب باقتضاب وهو يتشاغل بالحركة:
- كل ما تحمله من نقود.
رمقني بنظرة حادة من طرف عينه وظلال ابتسامة غامضة كانت تطوف بزاوية فمه.
حاولت أن أجيب بهدوء لكن صوتي تهدج.
- لكني لست من هذه المدينة وأريد العودة إلي مدينتي في هذا اليوم. كيف سأستطيع ذلك بغير نقود؟
وأردفت محاولا تملقه:
- وابنتي الصغيرة بانتظاري فقد وعدتها بهذه اللعبة( أريته الكيس) وسوف لن تنام إذا لم اعد الليلة.
أجاب بتشف غريب ونبرات حادة:
- لا نامت طول عمرها. هيا اشرب العصير وادفع الثمن وانقلع من أمامي. سوف لن احتملك أكثر.
التصق لساني بسقف فمي الجاف. مددت يدي للقدح لأشرب وأنا انتظر ردة فعل أخرى منه. فكرت:
أنا لااستطيع أن أعطيه كل النقود، ولكني كيف سأتخلص من غضبه. حين قربت القدح من فمي شعرت بقشعريرة، رغم الحر الخانق، من منظر البثور الطافية على سطح السائل الغريب. أغمضت عيني ورشفت رشفة صغيرة. أحسست بحرقة لاذعة وخدر مزعج في شفتي. هربت نظراتي تلقائيا إلى البائع. كان يحدجني بعينيه الصقريتين. انتبهت لأول مرة إن وجهه كانت تغطيه البثور ولونه كالح وأبقع. شفتاه ترتعشان وتكشفان عن لمعان لأسنان مذهبة. حين أعدت القدح وقعت نظراتي على شاربين غير مشذبين ينسرح فوقهما انف غليظ تغطيه هالة سوداء. جاءني صوته المبحوح.
- يبدو إن العصير لم يعجبك... ها؟.
لم اعرف كيف اجيب، ولم اعرف كيف انطلقت أقدامي بالجري السريع وأنا احتضن كيس اللعبة ألورقي. وسمعت حفيفا قويا مرق من جانب راسي. لم اعرف بماذا قذفني... ركضت بكل ما امتلك من قوة. توقفت متقطع الأنفاس بعد أن ركضت مسافة كافية لتبعدني عن البائع. مشيت بضع خطوات، وعرق غزير يغطيني.
المدينة فارغة، ليس فيها بشر!.
أدركت اني أضعت الطريق إلى محطة الحافلات. تساءلت: من سأسأله ليدلني؟ سرت بضع خطوات. عند المنعطف شاهدت شرطي يقف فوق دائرة إسمنتية مرتفعة قليلا عن الشارع. كان منهمكا في تنظيم المرور، ويصفر بصافرة مع إشارات باتجاهات مختلفة بيديه. لم أر أي سيارة في الشارع ! أخافني المشهد، فالمدينة فارغة وهذا الشرطي كالمجنون ينظم سيرا غير موجود. اقتربت منه وسألته عن طريق المحطة.
أجابني بنفور:
- لا توجد هكذا محطة هنا.
قلت له بلهفة، فقد أوشك أن يستدير إلى الجهة الأخرى.
- كيف لا توجد، لقد أتيت منها هذا الصباح.
رأيت ارتعاشة غضب على شفتيه، فأشار بيده دون أن يقول شيئا، سرت باتجاه إصبعه دون أن أفكر. ولم انظر باتجاهه... دخلت طريقا جانبيا بغير منفذ. كان الطريق ينتهي بأرض خربة مليئة بأكداس عالية من التراب. تتبعثر حولها جذوع نخل مقطعة. المكان مغبر وباهت اللون يثير إحساسا مؤلما بالوحشة. برز رأس قط رمادي قذر من بين الأكداس، نظر إلي للحظات وأخفى رأسه بلامبالاة. عدت إلى الشرطي مرة أخرى. حين رآني أدار لي ظهره، حاولت أن أساله فلم افلح، كلما أواجهه كان يستدير إلى الجهة الأخرى. يئست. وسرت كيفما اتفق. عند منعطف صغير أوقفني صوت. كان لرجل طويل القامة. لباسه أنيق لا يناسب وحشة المكان. ابتسم لي وقال:
- يبدو انك غريب! علمت انك تبحث عن محطة الحافلات. اذهب من هنا!.
أشار بإصبع طويلة نحو الغرب. تلعثمت من الفرحة حين شكرته. حينما استدرت لأذهب لمحت أن وجهه كان نفس وجه بائع العصير. لم أعاود النظر لأتأكد، مشيت بخطوات طويلة وسريعة وأنا اكتم ارتعاشة تهزني من الداخل، ثم تحولت إلى الجري وأنا احتضن الكيس ألورقي.
كان هناكاه صحيحا، ووصلت إلى محطة الحافلات. كان هناك رجل ينادي بصوت عال على الراكبين. حين رآني صمت ودخل إلى السيارة. تلكأت قليلا. صار يزمر بمنبه السيارة. اتجهت إلى السيارة. قال السائق وهو رجل بدين أصلع:
-هيا أسرع! فالحر لا يطاق.
من فرحتي مازحته
- وكيف عرفت باني ذاهب إلى هناك؟.
نظر إلي باستخفاف وزفر بهمهمة ساخرة. انطلقت السيارة قبل أن اصل إلى المقعد.
كان الركاب متجهمين وواجمين. تحسست جيبي لأطمئن على النقود وأطلقت تنهيدة ارتياح. أغمضت عيني ورحت في حلم يقظة لذيذ وخدر ناعم يتسرب إلى جسدي. كم ستفرح ابنتي حين تلقاني. تبسمت في داخلي لمرأى الطفلة وهي تضع اللعبة في فراشها وتطوق وجهي بيديها الصغيرتين حين اقبلها وتحك انفها بأنفي كما اعتادت أن تفعل قبل أن تنام...
صحوت على رجة مؤلمة في راسي فأدركت انه ارتطم بالمقعد. نظرت بعينين نصف مغمضتين من حولي فتذكرت إني ماازال في الحافلة، أردت أن أعود إلى النوم فتنبهت مذعورا إلى انه لايمكن رؤية أي شيء من شباك السيارة. رفعت راسي وصحوت تماما فلم أجد أي إنسان في الحافلة، والسائق واقف قبالتي يحدق بي ويكشر عن أسنان بأنياب بارزة. اقشعر بدني خوفا. سألته:
- مالا مر، ماذا حدث؟
أجاب:
- عاصفة!
كان الجو اصفرا مغبرا، ورياح رملية تهب من كل الجهات، عدت بنظري إلى الحافلة، اصطدمت نظراتي بعيني السائق المحمرتين وهو يمد يده يطالبني بالأجرة. مددت يدي إلى جيبي، لم أجد أي شيء. وشيء حاد لا اعرف ماهو وخز إصبعي الوسطى وخزة حادة آلمتني، فندت عني آهة. أخرجت يدي فارغة، نظر إلي وقد اتسعت عيناه وازدادت احمرارا، وبرزت أنيابه، وحين فتح فمه ليتكلم أطلق عواءا حادا مخيفا. هلعت، فحملت الكيس وقفزت من الحافلة بخفة لم أتصور في يوم ما أني امتلكها. صرت اركض واركض واركض. لم تكن الاتجاهات واضحة.
كان المغيب يوشك أن يهبط، فاختلطت سمرته بالغبار.
شعرت بشيء ثقيل يهبط على صدري. جلست فلم اعد أستطيع المشي ولااريده. مرهقا وحيدا وسط قفر معتم ومغبر، وكان فمي جافا ومرا ولساني ثقيل... اغرورقت عيناي بالدموع. سالت دموع دافئة على وجهي وأخذت أحدق من خلل الدموع بالسماء المعتمة والمغبرة.

*****

تنبهت لصوت ارتطام أمواج خافت قربي. لم أشأ أن افتح عيني. رائحة زيتية لمياه وطحالب أشعرتني بالراحة، وصوت مجداف يطرطش على صفحة الماء، وأصوات آدمية تبتعد مع دندنة رخيمة خافتة في غناء حزين... فتحت عيني، كان هناك في السماء قمرا ذهبيا، وحيدا ومهيبا يفضض ضوءه موجات الماء المترجرجة، مع نسمات هواء ندية. رفعت راسي، رأيت قاربا يندفع بانسياب إلى وسط المياه، إلى حيث البقعة العريضة من ضوء القمر الذائب في الماء، وسط دكنة صافية، وتلاطم لأجنحة بط يهرب فزعا من أمام القارب... هناك عند الحافة الأخرى للقمر المذاب كانت أضواء ساطعة بوهج لامع تضيء بخفوت حافة الجرف.
شعرت بوهن وذبول ولزوجة دبقة تغطي جسدي.. عيناي فيهما حرقة، ولم يوقف لهيب الحر قشعريرة الخوف في بدني. نهضت بتثاقل، خلعت ملابسي وحملت الكيس ودخلت إلى الماء. كان ماء النهر منعشا، وشعرت بليونة في أعضائي كلها، رفعت الكيس عن سطح الماء وأنا أعوم بيد واحدة وادفع بقدمي الماء بقوة. وكنت اقترب من ظل القمر في الماء وعيوني تنظر بشغف إلى كدس الأضواء في الضفة الأخرى...
وعند جزيرة الضوء تلك كانت تهجع هناك مدينة..
هادئة ورخيمة..
وأنا أعوم
وأعوم..
وهي
بعيدة..
بعيدة..
بعيدة.

***


2002

ليست هناك تعليقات: