٢٠٠٧-٠٩-٢٩

موت غير مدفوع الثمن






ليست هناك لحظة في الحياة أكثر عبثية من لحظة الموت. ليس بمعناه الوجودي كفكرة فقط وإنما حتى في كونه واقعة مادية. وداخل عبثية الموت تلك تقبع عبثية أكثر ضراوة هي فجائعية الموت قتلا وبالمصادفة، أي موتا غير مقصود لذاته ، موتا عابرا وبلا مقدمات. والمرء ان كان غيبيا لاستطاع العثور بسهولة على تفسير لهكذا ميتة يريحه ويطمئنه ولأحال أسبابها إلى القدر المكتوب. وهذه الإحالة تقدم تعليلا سهلا ولكنه لن يكون كافيا ولا مقنعا عقليا لمن لايستطيع استيعاب حتى مسالة دور الحظ والصدفة في الحياة، ويحاول أن يعثر لكل شيء على تأويل علمي يفسره.

والموت بالقتل، الذي ترسم ملامحه ومقدماته، غالبا، مجموعة من المصادفات الذكية، يدفع العقل للتأمل كثيرا في كيفية وقوعه. فهل ندرك مأساوية وغرابة وعبثية أن يتساءل امرئ ما يسير في احد الشوارع ـ كشوارع مدينة مثل بغداد، في هذه الايام، تنتفض تحتها مراجل الجحيم ـ أي شارع او منعطف او زقاق سيحمل اليه مصادفة الموت غير السعيدة؟

نستطيع أن نأخذ ماوقع في تفجيرات لندن الأخيرة كمثال مميز لما أحاول أن اطرحه هنا للتأمل.

كانت مهمة احد الإرهابيين الأربعة ممن قاموا بأفعال القتل العشوائي في محطات لندن يوم 7-7 هي أن يفجر احد قطارات الإنفاق ولكن المصادفة، أو شيء آخر لا اعرفه، عطل هذا القطار <في تلك اللحظة وذلك اليوم بالذات!!>مما دفع بالإرهابي إلى ركوب حافلة دفعتها قوى ما، خفية، إلى أن تمر< بهذا التوقيت بالذات> في المكان وتكون هدفا بديلا صالحا للعملية من غير أن تكون مقصودة لذاتها ولامخططا لتفجيرها. وبهذه المصادفة أو < اعثروا لها على تسمية> أنقذت حياة راكبي القطار لتستبدلها بحياة راكبي الحافلة حيث قتل ثلاثة عشر إنسانا< ثلاثة عشر حلما إنسانيا>.

أليس ما تحمله مصادفة كهذه هو عبثية مضافة للحظة الموت المخبولة؟!!

.أكيد إن هناك من يتساءل< محقا> وبسخرية:

وماذا عن العراقيين الذين يقعون يوميا بمصادفات أكثر عبثية في فخاخ القتل المحمول على متن الفتاوى ويذهبون ضحايا لميتات مجانية بمصادفات أكثر عبثية تجترحها اجتهادات النص المقدس؟.

كم هو قاتل هذا المقدس!!

لكن قد يمكن الاستدراك هنا والقول، بان أي ميتة من تلك التي ذكرت حتما ان لها مخطط يسبقها، وان من يقتل من ضحاياها انما قصد لجنسه وانتماءه إن لم يكن لشخصه. فالعراقي يقتل بعشوائية لأنه <خون> وصار دمه مباحا بشعار حب الوطن ـ السلطة، وأوهام نهضة امة في طور الذبول قوميا، وبدجل حب الله ـ الجنة، وفوز الفرقة الناجية دينيا. والبريطاني، وان كان غير إنكليزيا،هو يحمل وزر وقوعه تحت سيوف تكفير من يكفر الناس أجمعين. لكن ليس هناك مثال أكثر فضائحية لمجانية الموت كما هو مثال الشاب البرازيلي ـ جان تشارلز مينيسيز 27 عام ـ الذي قتلته الشرطة البريطانية يوم 22-7 لشكوكها، كما قيل، بإرهابية لايعرف لها أي معنى لا في ثقافته ولا في بلده.

كيف نتصور أن تقود مصادفة بليدة رجلا لاينتمي لأي طرف من أطراف الصراع < الغرب ـ الإسلام> إلى أن يدفع حياته ثمنا لتقاتلهما. فهو لم يكن بالبريطاني ليستحق عقوبة< مجاهدي الإسلام > ولاهو بالمسلم حتى يدفع ثمن جرائم إرهابيين تقنعوا بالدين لينتقموا من بني البشر.

هل كان ضحية للإرهاب وان لم يقتل بيده ؟
أم كان ضحية لغضبة اللامساواة وفقدان العدل الغربية؟

قد تكون هناك قصة بسيطة وسبب تافه وراء مصادفة وقوعه تحت أعين شرطة الإنكليز القاتلة، فقد يكون كل ذنبه انه اخطأ تقدير العواقب في سلوك بريء لايؤذي أحدا قام به، كعدم قطعه تذكرة مترو الانفاق مثلا، وهو ما يفعله الكثير من الشبان في البلدان الأوربية، فقرا أو عبثا لافرق. فهل هناك ماهو ارخص وأكثر غرابة من هذه الميتة ومسبباتها؟!!.

كان يمكن ببساطة لهذا الشاب أن يبقى حيا ويواصل نسج أحلامه في بناء حياته لو لم يجّرم مهووسون ساديون باسم الدين مجتمع بريطانيا بأكمله، دون أن يكترثوا لمفارقة أنهم جميعا، هم وأساتذتهم من فقهاء الظلام، قد تمتعوا بفضائل كفره وفجوره. وكان يمكن لهذا الشاب ان يستمر في الحياة لو لم يهيج الارهاب سلطات الأمن البريطانية لتعبر عن وحشية رجل الشرطة الكامنة وسقوطه الأخلاقي< كما جزم برناردشو في مقولته الشهيرة>.

كانت وقائع قتل الشاب قد تمت بطريقة تعكس وحشية ومزاج حاقد أكثر منها ضرورات للموقف أو المهنة. فقد ذكر شهود عيان إن رجال الشرطة، وهم ثلاثة، قد استطاعوا القبض على الشاب بعدما طاردوه لعدم امتثاله لأوامرهم بالتوقف< ربما ظنهم من مفتشي القطارات> وطرحوه أرضا ليصوب احدهم، بدم بارد، لرأسه خمسة رصاصات < فقط لاغير> ويقتله.

لم يكن الشاب البرازيلي لاارهابي ولاحتى مسلم، لكنه قتل بدم بارد وبأسلوب خطة إسرائيلية اسمها <كراتوس > استعارتها الشرطة البريطانية من المخابرات الإسرائيلية< اكبر آلة لصنع الموت والدمار في العالم> تقضي باطلاق النار الفوري على من يشك فيه، وطبقتها بحرفية عالية على البرازيلي المسكين.

سوف لن يدفع احد دية هذا الشاب< وهل تعيد أي دية حياة الإنسان التي لاتقدر بثمن إليه؟!!> وسوف لن يحاسب أي موظف أو شرطي ولاحتى سياسي على ذلك، والسبب، ببساطة، إن العالم كله الآن مشغول بالمهمة المقدسة الكبرى

: الحرب على الإرهاب.

قد يحدث كل شيء في هذا العالم المليء بكل غرائب فنون الموت لكن أكيد أن ليس ثمة أمل في أن يتحقق مااهجس به من حلم قديم ومتواضع في أن يمر يوم واحد، يوم واحد فقط على الكرة الأرضية لايقتل فيه إنسان..

يوم واحد لااكثر!!


24-7-2005

ليست هناك تعليقات: