٢٠٠٨-٠٣-٠٩

أحضان دافئة

إن قدرة المثقف على مراجعة مواقفه واستدراك النقص فيها وتصويب خطئها هي واحدة من أهم علامات نضجه. فالمثقف بحكم تكوينه المعرفي يتحرك في فضاء مفتوح من الاحتمالات والتأويلات المتعددة، وهذا يعينه على تغيير زاوية رؤيته وتوسيعها بحسب تطور الموقف وتغير الظروف. وأكيد أن أهم شروط مراجعة الموقف ومراجعة ألذات تتمثل في القدرة على الانفتاح الفكري، والابتعاد عن الأطر الضيقة كالحزبية والطائفية وغيرها من صناديق الأيدلوجية التي تحجر الوعي في ظلماتها. ولكن فضاء الوعي على سعته ليس بدون تخوم تحدد ملامحه، وهذه التخوم هي بالضبط مرجعية المثقف الاجتماعية والفكرية. ومرجعية المثقف العقلاني والديمقراطي هي بالضرورة الإنسان كينونة ومصيرا. وحين يكون الإنسان مرجعية المثقف الأولى ينفتح عندها افقه وتتسع رؤيته بقدر اتساع عالم الإنسان الغني والعميق وبقدر انفتاح افقه.

واقعيا يبدو تحقق هذا القدر من الوعي واتساع الرؤية أمر صعب، فجمهور كبير من المثقفين هم أسرى بنى أيدلوجية، وهذه البنى تفرض عليهم محدداتها من نظرات جامدة للواقع أو تفسيرات وهمية لمساراته ليس أسوؤها نمط المفاهيم التي تفلق الواقع وصورته إلى متقابلات تنعدم في ظلها الخيارات وتغلف العقل فيها معادلة فقيرة تنحصر في ثنائيات شائعة من مثل خير وشر، ابيض واسود وما يشتملان عليه من تلاوين متعددة، فتضيق الخناق عندها على الوعي لترغمه على الانتماء والانحياز لأحد القطبين المتجاذبين.

يمكن رد أشكال الوعي هذه إلى كسل عقلي ينتج رؤية فقيرة للواقع تميل إلى السهل من المواقف والخيارات، وتحكمها نزعة عاطفية وعصبية قبلية جاهلية تدفعها لمحاباة خصم من تكره أو العكس। فخصومة نظام صدام حسين مع أمريكا، قبل سقوط النظام، على سبيل المثال، لم تكن لتلزم المثقف بالانحياز إلى جانب احد الطرفين أو الوقوف معه. كما وقع من إرباكات في المواقف حينها. لان تصارع قطبين لا يعني إن الحق ( أو الخير) عند احدهما. فكلا الطرفين المتصارعين( أمريكا ونظام البعث في مثالنا) هما خصمان وعدوان للشعب العراقي ولحقوق مواطنيه وبالتالي يكون من المنطقي الوقوف ضد الطرفين معا. أي الجمع بين مخاصمة الطرفين. وكذلك هو الحال في ظروف العراق الحالية، فطالما أن لإيران مطامع وتدخلات مؤذية في الشأن العراقي، لا يعني ذلك أن العداء أو الرفض لهذا التدخل يستلزم إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين ولنظامه.كما فعل البعض، فرفض العملية السياسية والمشتغلين بها لأنهم سيؤون وغير أكفاء أو عملاء ولصوص، وقل بهم ما شئت، لا ينبغي أن يفضي إلى إعادة الاعتبار لشخص صدام حسين أو لنظامه أو لحزبه الفاشي. لان التاريخ قال كلمته الأخيرة، مرة واحدة والى الأبد؛ في شخص صدام حسين ونظامه وحزبه. وعليه مهما يختلف المرء مع البدائل التي جاءت على أنقاض نظام صدام حسين لا ينبغي أن يسمح لنفسه بموقف يعيد فيه الاعتبار لهذا النظام. كما أن صدام حسين، بصفته الشخصية وبصفته ممثل النظام ورمزه، لم يغير من مواقفه ولم يبد أي شعور بالندم أو التراجع عن ما قام به، بل على العكس كان يفاخر بصلافة بما ارتكبه من جرائم ويبرر أفعاله وكأنها تحصيل حاصل وأمر بديهي. وكذلك لم يفعل البعثيون شيء يعبر عن ندم أو تراجع لكي يفكر من فكر بالتراجع عن حكمه عليهم بسبب صراعه مع النظام الجديد ونقمته عليه. ولان العراق، الوطن والإنسان، اكبر من كل هذه الأقطاب التي تتصارع لمصادرة حقوق إنسانه وسلبه إرادته، عليه فان موقف المثقف الحقيقي هو في الانحياز الدائم لهذا الإنسان ولهمومه، ولا ينبغي - حسب هذه الرؤية ـ لأي مثقف أن (يشطر) مواقفه بطريقة كاريكاتورية ويتقلب في المواقف من أول خيبة أمل في واقع كان من المفترض به، لكونه مثقف يمتلك أدوات معرفة، أن يستشرفه ويفهم خفاياه. كذلك ينبغي التذكير هنا بان هوية صدام حسين العراقية لن تبرئه من أي جرم ارتكبه، كما ان عراقية صدام حسين لم تكن مثار نزاع بين العراقيين أو سببا لحكمهم وتقييمهم عليه وعلى نظامه، لهذا لن يضير العراقي أي شتيمة تطلق على صدام حسين لان عراقيته، بتقديري، ليس فقط لا تشرف العراقيين بل وتخجلهم أيضا. لكن يبدو أن عقلية الموقف الذي تخلقه الخصومة وليس المبادئ والتحليل العلمي تستريح كثيرا لأحكامها العاطفية المنفلتة من عقال المنطق، ولا تجد لمواقفها منطلق ابعد من غضبة المزاج المنفعل، ولا تستريح او تشعر بأمان إلا في ظل حائط حزبي تستفيء به وكأنها بهذا كطفل تائه يبحث عن حضن دافئ يهدئه. لذا لا يستغربن احد أو يبتئس إذا ما عثر بين فينة وأخرى، ولدى هذا التيار أو ذاك، على شخص يمارس نوع من الارتداد العقلي والعاطفي يدفع البعثيين، المنقبين في قمامات المواقف الرديئة، على الابتهاج به والفرح بعودته لأحضانهم (الدافئة).

ليست هناك تعليقات: