٢٠٠٧-١١-٠٤

للحوار أخلاقه أيضا



الكتابة موقف وأخلاق فإذا فقدت إحدى هاتين الركيزتين ستغدو حينها أي شيء إلا أن تكون كتابة. وإذا كان احد أهم شروط الكاتب هو أن يكون صاحب موقف، باعتبار أن ذلك هو منهجه لتغيير الواقع، فان هذا الموقف وبالتالي الكاتب سيفقدان قيمتهما ودورهما إن لم يرفدا هذا الموقف بأرضية أخلاقية تضفي على الكتابة صدقا إضافيا. وفي ظروف تطورات عصرنا الحالي باتت لغة الحوار واحدة من أهم ركائز أخلاق الكتابة ومنهج تغيير الواقع. ويكتسب هذا الجانب بعدا إضافيا ومهام مضاعفة حين يكون الكاتب( يساريا وتقدميا) لما عرف عن حاملي هذا الفكر من عمق إنساني في نظرتهم للحياة وللإنسان. وفي زمننا هذا زمن الاختلاف والتباين ونسبية الحقيقة يكون من أولى مهام الكاتب اليساري، لنزوعه التقليدي للطليعية، هو تحفيز الحوار واغنائه باطروحات جديدة ورؤى متفاعلة مع الواقع. وهذا كله يفترض أن يكون بلغة مبنية على التواضع ومشبعة بمشاعر ودية إزاء المخالف مهما اشتدت درجة الخلاف أو تواضع مستوى المتحاورين.

ما بعث على التذكير بهذه البديهيات هو ما يصدر للأسف بين حين وآخر من كتاب محسوبين على فكر اليسار التقدمي من أسلوب ولغة في الحوار يتسمان غالبا بالحدة والاستخفاف بالآخر بل وبالتعالي والعجرفة من قبل بعضهم. سأطرح عينات من هذه اللغة اعتبرها نموذجية وأتجنب ذكر أسماء أصحابها ليس تجاهلا ( معاذ الله) كما يفعلون هم ولكن لكي لا احرشهم علي لان لهؤلاء سطوة وسلطة في عالم النشر الالكتروني وهذا من شانه أن يجعل سطوري هذه لا ترى النور:
(أميل شخصيا عند الرد على مثل هذه المقالات المغرضة إلى عدم إيراد أسم كاتبها مباشرة ... لأني اؤمن بأن ايراد اي أسم يساهم... في محاولة تسويق هذه الاسماء لنفسها والظهور بمظهر المفكرين والمحللين السياسيين... وايضا لان الرد عليها بالاسم هو شكل من الاعتراف بوجودهم وبأهميتهم..) ( خطوط التأكيد من عندي)

دائما هناك وفق هذه العقلية قصدا مبيتا ومغرضا لمن يتعارض مع أفكارهم هدفه عدائي على طول الخط.

واليكم عينة أخرى من شخص يصنف في عداد المفكرين والأكاديميين والسياسيين، وهذه صفات تفرض على حاملها مستوى من التواضع، والتواضع من كرم الأخلاق، وهو أيضا شخص قضى جزء كبير من حياته في بلد أوربي متحضر يعنى بالحوار وبالجدل الفكري، وكذلك هو رجل في سن الشيخوخة التي يفترض بها أن تجعله، بعد نضج تجارب الحياة، متسامحا وطيب القلب. لكن يبدو أن العجرفة متحكمة في نفسية هذا الكاتب بشكل لا فكاك منه. وهو هنا يردد ايضا ذات المضمون وبنفس الروحية المتغطرسة في موضوع لنفس الغاية وهي الدفاع عن حزبه السياسي، بعد أن عرض لبعض الاسماء التي يعتقد أنها جديرة بالنقاش، مع انه حقرها واستخف بشخوصها في جدله معها. فقال:
(... إذ لا يستحق البعض الآخر من هؤلاء حتى ذكر اسمه...)

تاملوا في هذه العبارة كم هي مشحونة بروح العداء والغطرسة ورغبة إلغاء الأخر.

إذن من يختلفون في الرأي، حسب هذه الذهنية المتعجرفة والقمعية ينبغي إلغاء وجودهم بعدم الاعتراف بهم ككائنات بشرية تمارس حقها في التفكير وإبداء الرأي، للحد الذي لا يستحقون فيه ( حتى ذكر أسمائهم). وهذا لا ينطوي على روح قمع ومصادرة بإلغاء الآخر واجتثاثه بعدم الاعتراف به، مما يذكر بلغة الإعلام ألبعثي في جدله مع خصومه وحسب، وإنما يدلل أيضا على نوع من الثقة بالنفس تجعل هؤلاء الكتاب يفترضون أنفسهم( لأسباب سياسية طبعا) من علية القوم ومشاهير الكتاب. وهذا تنفج ليس له رصيد في ارض الواقع. ويبدو أن هذه القناعة قد تملكت أصحاب هذا التيار اليساري مما دفع احد أتباعهم ممن ينتمون لذات الاتجاه في أخلاق الكتابة للقول بأنه لن يرد على المختلفين معه ومع حزبه لان هؤلاء( أي المنتقدين) يطمحون إلى الشهرة من خلال ذكر أسمائهم، وهو يحبط، بعدم رده عليهم وتجاهلهم، مخططاتهم تلك.


الا يجدر بنا التوقف هنا وإبداء الاستغراب من هذه الثقة العالية بالنفس التي يفترض صاحبها نفسه بأنه احد المشاهير وما أن يذكر اسم احد حتى يصاب صاحب الاسم هو الآخر بالشهرة ؟.

شيء يثير الدهشة حد انعقاد اللسان. وما يجعل من الصعوبة بمكان ابتلاع هذا الكلام هو انه يصدر من أناس يلهجون ليل نهار في كتاباتهم بنقد التيارات الدينية والسلفية والنظام ألبعثي وخطابه السياسي لأنه صادر ذات يوم حقهم، ضمن مصادرة حقوق المجتمع بأكمله، في الوجود وممارسة حق الاعتقاد وإبداء الرأي. ويدعون في نقضهم لهذا الخطاب إلى الحوار وحق الاختلاف. وهذا استخلاص رائع حقا. لكن أن يطالبوا بهذا الحق لأنفسهم فقط ويستنكرونه في الممارسة على الآخرين فهو الازدواج والتناقض بعينه. فهم ما أن يمارس الآخر المختلف في الرؤية والتقييم معهم حقه في الاختلاف حتى تنقلب الصورة ويظهرون نفس ما دأبوا على نقده من سلوك، فيتحول ناقدهم والمختلف معهم إلى شخص مغرض وطالب للشهرة وهو نكرة بطبيعة الحال ولا يستحق حتى ذكر اسمه.

اعتقد إن طيف ذهنية القمع ألبعثي ماثلا بقوة في هذا الخطاب، وان جرعة من التواضع قد تنفع هؤلاء وتخفف من غلواء داء العظمة المصابين به. قد يعترض قائل هنا إن هذه الأشياء صغيرة فلماذا علينا إن ننشغل بها، أقول: إن المصائب الكبيرة تبدأ أحيانا من الأشياء الصغيرة. لكن الأهم هو أن هذه الأشياء قد تكون صغيرة ضمن الدائرة التي تتحرك بها، والمناسبات التي تثار فيها. لكنها واقعيا كبيرة لأنها تعبر عن منطق وذهنية وبنية عقلية وأخلاقية ينبغي التصدي لها لتصحيح مسار الحياة الثقافية والاجتماعية، ولتصحيح العلاقات داخل الوسط الثقافي والسياسي لتنقية الأجواء من سموم الكراهية التي تشيعها العنجهية والتعالي اللذان يمارسان هنا وهناك. من هنا ومن هذا المنطلق والمقياس لن تبدو هذه الأشياء صغيرة، بل على العكس فهي كبيرة لاسيما إذا أدرجناها، كما يقتضي منطق المعالجة، في إطار بنية الخطاب الثقافي والسياسي السائد في الساحة السياسية والثقافية العراقية الذي تأثرت أساليبه وأنماطه بمخلفات فترات الاستبداد والتخلف ألبعثي وغيره. وأيضا لان من أولى مقتضيات التحول الديمقراطي المنشود هو إعادة تأهيل البنية العقلية المشوهة المنعكسة بقوة في الخطاب السياسي والثقافي. وبهذا تكون معالجة هذه الأمور هي من صلب عملية كبيرة ومعقدة. لن تنتهي بكتابة عابرة هنا وهناك وتصدي منفرد لهذا أو ذاك بل تقتضي فيما تقتضيه إعادة نظر شاملة في أبنية العقل العراقي بمكوناته المتعددة.

لكن الخطوة الأولى تكون عادة بالكشف عن ممارسات هذه الذهنية وبالتالي نقدها كجهد جزئي في عملية التغيير الواسعة، وهذا ما قصدته بهذه السطور.

3-11-2007

ليست هناك تعليقات: