٢٠٠٨-٠٣-٢٢

في إنصاف سلمان رشدي




أورد السيد (اشرف عبدالقادر) بمقاله المنشور في الحوار المتمدن يوم 20-3-2008 عبارة لفتت انتباهي وأثارت استغرابي في نفس الوقت. ونص العبارة هو(تحليلي لإصرار الدكتورة وفاء على موقفها من الدين-وهي الطبيبة النفسانية- أنها تريد الشهرة بأي ثمن، تماماً كما فعل سلمان رشدي، ولولا فتوى الخميني بقتله ما علم به أحد حتى الآن، ولكان كاتباً للرواية من الدرجة الثالث تحت الصفر).

المقصود بهذه المقارنة هو الدكتورة (وفاء سلطان) بعدما أثارته مؤخرا من لغط باطروحاتها حول قضايا الدين الإسلامي. وما يهمني هنا ليس المقال ولا مضمونه وإنما المقارنة المجحفة التي ساقها السيد الكاتب في مقاله، حيث وقع بهذه المقارنة، برأيي، في خطأ وخطيئة بعقده مقارنة غير منطقية، وتشابه غير ممكن واقعيا، بين مكانة ودور (سلمان رشدي)، كروائي حداثوي بأفق نهضوي في الرؤية والإنجاز الإبداعي، وبين سيدة يطغي على نتاجها وفعالياتها الجدل السياسي الصاخب والمشحون بقدر كبير من الإثارة المصطنعة، عامدا إلى نثر الشتائم والإهانات للمحاورين وللمخالفين بالرأي. قد يكون تحليل السيد (اشرف عبدالقادر) حول سعي الدكتورة (وفاء) للشهرة مقبولا منطقيا، بل ويمكن له أيضا، بتقديري، أن يدرج نشاطها ودوافعها ضمن الرؤية الغربية لواقع الشرق المرتكزة على منظور نمطي لا يفهم عمق طبيعة هذا الواقع وخلفياته. أي بمعنى أن يضع ممارسات السيدة (وفاء) ضمن دائرة النشاط الغربي الذي يركز في مطبوعات كثيرة، لأهداف الإثارة والتجارة أحيانا، على نقاط مثيرة في الواقع الشرقي كمذكرات الأميرات العاشقات والهاربات مع عشاقهن وما يشابهها من نمط كتابات تريد الدعاية والانتقاص من الآخر. لكن أن يضع الدكتورة( وفاء) بمستوى واحد مع (سلمان رشدي) فهذا شي لا يستسيغه منطق ولا يقبله عقل . ويبدو لي إن مصدر هذه المقارنة هو قصور في تقييم وفهم طبيعة منجز (سلمان رشدي) الإبداعي، وعدم دراية بتاريخ أو سيرة حضوره في ساحة الإبداع، وبالتالي عالم الشهرة. وهذه ليست هي المرة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التقييمات لشخصية وأعمال (سلمان رشدي)، فقد دأبت بعض الكتابات على اختزال هذا الفنان الكبير في واقعة واحدة، هي إشكالية روايته (الآيات الشيطانية) وفتوى (الخميني) التجريمية بحقه. وهي أراء وتقييمات وضعته، بغير قصد أحيانا، في خانة الباحثين عن الشهرة الرخيصة، وهذا أمر مناف للواقع تماما. فالمتتبع لعالم الإبداع الأدبي سيعثر بالضرورة، في طريقه، على اسم وأعمال (سلمان رشدي) باعتبارها أعمال روائية إبداعية مميزة. وسيعرف من أن رشدي هو كاتب ومثقف معروف على نطاق عالمي قبل أن يطلق (الخميني) فتواه القاتلة يهدر دمه بسنوات عديدة؛ ومن انه روائي من الطراز الأول وليس من كتاب الدرجة الثالثة كما وصمه السيد اشرف. فقد نفدت، على سبيل المثال وبشهادة شخصية، رواية (العار) من معرض دمشق الدولي للكتاب في أواسط الثمانينات( قبل الفتوى والآيات الشيطانية بزمن طويل) بأيام قليلة. كما إن أعمال (سلمان رشدي)، على الأقل منذ (أطفال منتصف الليل)، قد ترجمت إلى عدة لغات ( أنا اعرف عن أربعة منها) قبل الفتوى المشئومة. وهذه الوقائع، على بساطتها، تؤكد بشكل ما أن رشدي كاتب له مكانته وانه اسم معروف ونتاجاته ذات رواج واسع، والا لما اهتمت بترجمة أعماله شعوب وثقافات متعددة لو انه كان كاتب درجة ثالثة تسببت بشهرته فتوى دينية ظلامية.

وإذا كان غير متاح لي هنا تقديم عينات وتحليلات لطبيعة نتاج وإبداع (سلمان رشدي) فيمكنني، على سبيل الاستدلال، الإشارة إلى ما قدمه الدكتور (صادق جلال العظم)، في كتابه (ذهنية التحريم)، من تحليل عميق لطبيعة أدب (سلمان رشدي) حيث عقد في كتابه هذا مقارنات ممتازة بين أدب ودور(سلمان رشدي)، ودور كل من (فرانسوا رابيليه)، أديب ومثقف عصر النهضة، (وجد ميلان كونديرا في كتابه <الوصايا المغدورة> ذات التناظرات بين الأديبين)، و(جيمس جويس) في القرن العشرين. كما ركز الدكتور (صادق جلال العظم) في مناقشته، التي شكلت الجزء الأكبر من كتابه المشار إليه، على الأبعاد الفكرية والنقدية التحررية، التي جسدها (سلمان رشدي) بإعماله الإبداعية، والتي تناقش بعمق طبيعة البنى الفكرية والعقلية والأيدلوجية والعقائدية والشعورية التي تقبع في اسر تخلفها وعتمتها مجتمعاتنا الشرقية. وإذا كان الأدب لا يقدم مضامينه بقوالب فكرية مجردة، لان الجمالي مرتبط بالضرورة بالفكري، والأسلوب متعاضد مع الرؤية، فان البنى الأسلوبية التي حققها (رشدي) بأعماله هي متقدمة للغاية تجعل منه بكل استرخاء واحدا من بين كبار كتاب العالم.

ابرز ميزة في أدب( رشدي) هي الفكاهة باعتبارها، حسب الشاعر المكسيكي ( اوكتافيو باث) الابتكار العظيم للروح الحديثة. وهي حسب (باث) أيضا (ليست الضحك والسخرية والهجاء، إنما نوع خاص من الهزل) ولهذا كانت أعمال (رشدي) الروائية مليئة بعوالم فانتازية مثيرة، تضج بنقد العالم بضفتيه، شرقا وغربا، وبأسلوب مليء بصور وأخيلة مكتظة بالحكايات والأساطير والخرافات وروح الدعابة الشعبية، وبلغة متمثلة لكل مكنونات النفس البشرية والعقل الجمعي لمجتمع يقول الأشياء ويراها بطريقته الخاصة، ويصور الواقع من زوايا تمثل مصالح ورغبات تبدأ بأشياء عالم أبطاله الصغيرة( كانت أم سليم سيناء بطل أطفال منتصف الليل تحاول أن تتعلم كيف تحب زوجها جزءا جزءا،وزوجها التاجر الصغير كان يضل طريق العودة إلى البيت، لتداخل الأزقة، فيدفع مبالغ صغير للأطفال ليدلوه على بيته) إلى مطامع السلطة وليالي القمع الوحشي ( مشهد مذبحة طائفية وقعت لأنصار عبداالله الطنّان).

عوالم (رشدي) الروائية مكتنزة بالغرابة والنقد الضاحك لأنه ينتمي إلى مدرسة تنتهك المقدس وتدنسه، وحسب تحليل( صادق جلال العظم)، فان (سلمان رشدي) ينتمي إلى تقاليد أدب المعارضة الهجائي الساخر والمتهكم والهازل، وهي تقاليد لها جذور وأصول في الثقافة العربية والإسلامية، وليست منتجا غربيا صرفا يحرض على أن يصنف (سلمان رشدي) بموجبه، كدليل اتهام جنائي ضده ، كأحد نتاجاتها أو نتاجات مدارس التغريب والاستشراف الأوربي.

سلمان رشدي روائي كبير لان أعماله حسب توصيف الدارسين له هي مراجعة نقدية لكل التراث الفكري والشعائري والأخلاقي لواقع الشرق ولعلاقة الغرب به. وهو يكتب الرواية، كما يقول هو نفسه ( لتكذيب الطبعة الرسمية للحقيقة) التي يقدمها الساسة في بلاد العالم كلها. اختصارا يمكن إجمال فكر وإبداع سلمان رشدي على انه تعبير عن صيرورة التحول الكامنة في مجتمعاتنا، ونقده الساخر وانتهاكه للمقدس هو بالضبط واحد من أهم الأدوات الضرورية لتغيير واقعنا المتكلس.

لكن مرد الرؤية القاصرة لتقييم مكانة (سلمان رشدي) التي أثمرت مواقف وآراء خفضت من هامته العالية تعود، بتقديري، أو على الأقل بجزء كبير منها، إلى طبيعة الجدل الذي دار حول رواية ( آيات شيطانية) والفتوى الدينية بحقه، والذي انطلق بشكل أساس من منطلقات فكرية تجريدية تتعلق بانتهاك المقدس من ناحية، وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير من ناحية ثانية. فقد تكرست وجهتا النظر في هذا الجدل حول مساحة حرية التعبير ومدى السماح لها أو أحقيتها بالاقتراب من المقدس والمس به. وبهذا النقاش حضر (سلمان رشدي)، المنتهك للمقدس والمجدف في الدين( شرقا) وضحية الظلامية السلفية والتخلف والاستبداد الشرقيين (غربا) وغاب (سلمان رشدي)، الأديب والفنان الناقد، ذو الرؤية النهضوية التي أقامت إبداعها على النقد الساخر والعميق لكل أشكال التكلس العقلي، والركود الاجتماعي، والتخلف المعرفي الذي تعاني منه منطقة الشرق. وعلى هامش هذا النقاش ولدت صورة جاهزة ساهم في صنعها الإعلام لانشغاله السطحي بحيثيات اختفاء ومعاناة (رشدي)، إذ أهدرت قيمته بتصويرها إياه كأحد نجوم المجتمع، الأمر الذي سطّح النظرة إليه، وبالتالي بسط الموقف منه وأوقع الكثير من المثقفين في مطب اعتباره، دون تمحيص، أديبا مجهولا أو منسي للحد الذي جعله بعضهم رديف لطالبي الشهرة العابرين والهستيريين كـ (وفاء سلطان) وغيرها.
آن الأوان لكي يعاد الاعتبار لـ (سلمان رشدي)، كأديب ومفكر مبدع ، في خطابنا، وان نكف عن اعتباره نجما لامعا يسعى للشهرة لكي لا نظلمه في مقارنات مجحفة هو اكبر منها بكل المقاييس.



ليست هناك تعليقات: