٢٠٠٧-١٠-٢٤

هموم انصارية





من البديهي إن من يكتب ينبغي عليه بالضرورة أن يكتب عن أشياء يعرفها وتثير اهتمامه واهتمام الآخرين في نفس الوقت. وبهذا يجعل من كتابته شهادة موضوعية عن الموقف الذي يعالجه. وبالتأكيد أن صدق الكتابة يمنحها شهادة اعتراف وقبول من المتلقين. كذلك ليس هناك كتابة صادقة تتجنب أو تبتعد عن هموم الناس ولا يهمها كشف الزيف الذي يراد به سلبهم وعيهم وحقوقهم. لكن الكتابة تبدو في مخيال الكثيرين وكأنها حاجة ذاتية لقول أشياء يراد منها منافع شخصية أو على اقل تقدير أن دوافعها شخصية. يمكن ملاحظة هذا التصور من خلال بعض المناقشات والملاحظات التي يوردها بعض القراء كتعليقات على المواضيع في بعض المواقع الالكترونية. ويبدو لي أن هذا التصور والسلوك هما ثمرة لذهنية نمطية عامة. وهذا ما لمسته شخصيا من ملاحظات بسيطة قيلت في موضوع كتبته (يمكن الإطلاع عليه من هنا) انتقدت فيه بعض الممارسات التي تمارس داخل دائرة اجتماعية سياسية محددة، هي رابطة الأنصار الشيوعيين. فالبعض اعتبر أن ما قلته هو تصفية حسابات شخصية مع جهة حزبية معينة. وهو أمر لم اشعر به على الإطلاق، ولم يكن يوما محركا لا لكتابتي ولا لسلوكي إزاء هذه الجهة. ولم تشكل هكذا دوافع يوما ما خلفية لما أناقش. لان نقاشي مع هذه الجهة أو غيرها هو ضمن مناقشة هموم الوطن وانشغالات السياسة فيه. على الأقل هذا ما اشعر به وادعيه.

كان الموضوع الذي طرحته بمجمله مناقشة لسلوك أفراد وجهات في مسالة حقوق الأنصار التقاعدية। ومناقشتي لم تكن ضد حق التقاعد بحد ذاته وإنما ضد ممارسات بعض الأشخاص ومحاولتهم استغلال امكاناتهم الشخصية لجني منافع ذاتية، وتصرفوا بطريقة منافية للأخلاق والأعراف وللمبادئ التي يفترض أنهم يتحلون بها. وشمل اعتراضي وانتقادي ما جرى من منح لهذه الحقوق بطريقة مبتذلة لأشخاص لم يستحقوها لأنهم ببساطة ليسوا أنصارا، فيما حرم بعض الأنصار الحقيقيين منها لأسباب لااستطيع الجزم بها. والأمر الأكثر إزعاجا في هذا التصرف هو خلق تمايزات بين الأنصار تجسد في حجم ونوع حقوقهم التقاعدية. فالأنصار كمناضلين لم يكونوا، حسبما أظن، في يوم من الأيام يطمحون للحصول على مكافأة لنضالهم وتضحياتهم لأنهم أصحاب قضية ومبادئ، ومن لديه استعداد للتضحية لا اعتقد بأنه يكترث لمكافأة أو ينتظرها. ومن هذا المنطلق يكون سلوك خلق تمايزات بينهم موضع اعتراض وانتقاد بالضرورة. كما تضمن الموقف أيضا شكوك حول الدوافع الحقيقية التي دفعت سلطات الإقليم الكردي، المشكوك بنواياها، لمنح هذه الحقوق، مع العلم أن هناك تحفظات كثيرة لدى الأنصار أنفسهم على الآلية التي تم بها استحصال هذه الحقوق، إذ تمت بجهود شخصية وهذا بحد ذاته سبب كاف لإلقاء ظلال من الشك على حصانة عدم استغلال هذه الحقوق ومسالة منحها لأغراض شخصية وسياسية، سواء من قبل الشخص الذي قام بجهوده من اجلها أم الجهة التي منحتها. وليس هناك وراء هذا الموقف أي مزايدة، كما تبرع احدهم بالاتهام، حيث لايمكن العثور على أي نوع من هذه المزايدة في هذه الملاحظات أو أي دافع لها. ثم ليس هناك شيء يستوجب المزايدة عليه.

من جانب آخر وفي ذات السياق يؤاخذ بعض القراء الكاتب على مصدر استقائه لمعلوماته معتبرين أن السماع ليس مصدرا موثوقا। أو إن الكاتب، وهذه حجة أخرى، لا يعرف شيء عن نشاط هذا الشخص أو تلك الجهة ليستطيع أن يقيم سلوكها وينتقد مواقفها. ولمناقشة هذا الرأي أقول: إن الكتابة هي نشاط حر ويعتمد على الوقائع العامة والاستنتاج من نتائج السلوك الذي يمارسه شخص معين أو جهة سياسية أو اجتماعية معينة. وهو أمر يدخل في معنى الفهم الاستقرائي للواقع. على العكس مما هو عليه الحال عند الهيئات القانونية والرسمية التي تتعامل مع الأحداث والأشخاص ببيروقراطية والية تتطلب الإثبات ألتوثيقي وغيره. ففي السياسة تقوم الآراء والمواقف على أساس القراءة للوقائع، وعلى أساس معرفة خلفيات المعنيين بالأمر، وأسس تشكل القوى والجماعات، وطبيعة تفكيرها وخلفياتها العقلية وأسسها النفسية وغيرها من الأمور التي لايمكن إثباتها بالوثائق بقدر ما يمكن الاستدلال عليها بالاستنتاج المنطقي. كما إن الكاتب ليس ملزما، وهو غير قادر على آية حال، لان يكون شاهدا عيانيا على كل واقعة أو موقف يكتب عنه، لان هذا أمر مستحيل ومن شانه إلغاء الكتابة ومصادرة التحليل. فالإنسان لا يمكنه أن يوجد في كل الأمكنة ولا ان يشهد كل الأحداث. ومن هنا تأتي أهمية المعلومة القادمة عن طريق السماع. فللكاتب أيضا مصادره التي يثق بها ولكن عليه للأمانة أن يعاين ارجحية ما تقدمه له هذه المصادر وحجم الموثوق منها. كما أن حجة معرفة أو عدم معرفة نشاط الآخرين هي سيف ذو حدين. فهي بالوقت الذي تمنع فيه أي تقول أو ادعاء بحق أي شخص أو جهة ما لم تقم على أسس ووقائع، فإنها تسمح للكثيرين بان يفلتوا بفعلتهم وبجرائمهم بذريعة عدم إمكانية إثبات ما يدعى عليهم. وكما تعرفون فأن هناك الكثيرين ممن يريدون بهذه الحجة إخفاء ما يقترفون وراء الكواليس من آثام، ويحجبون حقائق سلوكهم ومواقفهم عن الآخرين. لكن إذا كانت هذه الذريعة ممكنة في حدود الأشخاص العاديين فأنها غير ممكنة، على الإطلاق، مع الأشخاص الذين ينضوون تحت فئة الشخصيات العامة، سواء كان ذلك بسبب من طبيعة نشاطهم أو فعاليتهم، أو بسبب من موقعهم في هيئة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية. فهذه الشخصيات هي هدف مباشر للمراقبة، وبالتالي النقد والتعرية، ولا ينفعها أو يحميها حجة إن الآخرين لا يعرفون عن نشاطها شيئا.

ينبغي التذكير في الختام من أن لا احد يمكنه أن يدعي بأنه يمتلك الحقيقة، أو انه يعرف دواخل كل الأمور. وأكيد أن الكتابة كنشاط ثقافي اجتماعي هي اجتهاد، منها ماهو صائب ومنها ماهو خاطئ أو ناقص. ولكن هناك فرق بين حقيقة ناقصة، لأنها مبنية على معلومة خاطئة، وبين تلفيق أو ادعاء، وفي هذا الفرق يكمن جوهر صدق الموقف من زيفه. وبالتأكيد إن كل رأي أو ملاحظة تهدف إلى تصحيح المعطيات وبالتالي الآراء، دون اتهامات وسوء ظن مسبق، هي موضع ترحيب، بل إنها ضرورية لأجل استكمال صورة الحقيقة وتنقية وجهها وهو، بلا شك، الهدف النهائي لكل كتابة صادقة.

21-10-2007

ليست هناك تعليقات: