بات الحاسب والانترنيت للمجتمعات التي تستخدمهما حاجة يومية حيوية لعبت وما تزال دورا واضحا في تغيير الكثير من العادات والمفاهيم في طرق التعاطي مع المعلومة واشكال بناء المعرفة واساليب تشكيل الراي. وفي واقعنا العربي، رغم فقره المدقع في مجال إنتاج واستهلاك المعلومة الالكترونية1، جرى التاثر أيضا في هذه التحولات، على الأقل في نطاق دائرة المتعاملين مع هذه التكنلوجيا.
ووجود الانترنيت قد افرز في واقعنا ظواهر ثقافية عديدة من أهمها ظاهرة كتاب الانترنيت والكتابة الانترنيتية التي لوحظ حضورها الكثيف بالتغطية العامة والشاملة للشأن السياسي والثقافي والاجتماعي، عبر منظورات ورؤى تخطت بقوة الأطر التقليدية التي كرستها هيمنة السلطة السياسية ومركزية الثقافة الورقية. وقد عبر راي بعض المثقفين وجمهور القراء من ذوي النظرة التقليدية الرافض لهذا الوافد الجديد، بالإضافة إلى إجراءات المنع والرقابة التي نجحت السلطات الشمولية القمعية المذعورة في البلدان العربية بتحقيقها، عن رد فعل حاول التقليل من قيمة الانترنيت ومن جدواه. وذلك لان الانترنيت تحمل بجوهرها، وبسبب من أرضيتها التقنية المتفلتة من كل عقاب ورقابة، نفسا ديمقراطيا تعدديا.
لكن ما هي هذه الكتابة الانترنيتية وما هي خصائصها. ومن هم كتاب الانترنيت وهل لهم علامة تميزهم؟
قبل الخوض في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي ان نقرر ان الانترنيت هي وسيلة أو أداة مفتوحة وحرة يمكن ان يوظفها أي شخص أو أي جهة لتقديم خطابه وعرض أرائه. وهي أداة لخوض صراع اجتماعي وثقافي وسياسي وحضاري لا تحده حدود ولا تقيده قيود. وكذلك هي تستمد وظائفها المتعددة، كما هو حال أي أداة تكنولوجية أخرى، وفق عقلية وأهداف مستخدميها.
وكون الانترنيت أداة فهذا يجعلها وسط ناقل للمعارف والأفكار، وفضلها الكبير هو أنها توفر وسائط متعددة لتقديم الرسالة. وهذا التعدد لم يمنع، ان لم يكن قد فرض أشكالا محددة لتقديم هذه الرسالة وبالذات في ميدان معالجة الأحداث اليومية من سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها وبالجدل الذي يدور حولها وعنها.
ومن هذه الخلفية يمكن إقرار ان ابرز ميزة أنتجتها الانترنيت هي تسارع الإيقاع في التعامل مع الوقائع. وغني عن القول ان هذا التسارع قد نتج عمليا عن تطور تكنولوجيا الوسائط حيث صار وصول الخبر إلى المتلقي يتم في لحظة حدوثه مما يتطلب من الكاتب التعامل معه بالتحليل والتنبؤ بمسار الأحداث وتحولاتها بسرعة تناسب سرعة تطورها وتحركها. فلم يعد الحدث في زمن تطور تكنولوجيا الوسائط يحتمل قراءة طويلة ومعقدة تنتظر اكتمال عناصره لتغطيه، لان الأحداث في هذه الحالة ستسبق هذا التحليل وتتجاوزه وتصير استنتاجاته قديمة وغير ذات جدوى.
بمعنى ان الواقع صار يتطلب معالجة مكثفة تعتمد زاوية محددة من النظر للموضوع وليس نظرات كلية ذات طابع تركيبي وشامل. فتشكيل الفكرة أو النظرة الشاملة صار كالبناء الموزائيكي، تدريجي وتكاملي. ولم يعد القارئ يطيق في ظل الكثافة الإعلامية وتعدد الطروحات ووفرة المصادر الهائلة تبديد الوقت في قراءة تتناول الموضوع من الصفر. لان وفرة المعلومة وكثافتها صارت تفرض قارئا جديدا يكون ملما بالكثير من المعطيات الأولية للخبر وللمادة المكتوبة، هذا بالإضافة إلى ما تقدمه له امكانات الانترنيت عبر الروابط التشعبية من تعويض في نقص المعلومة عبر الإحالات إلى مصدر الخبر لمن يريد الإطلاع عليه، وهذا أصبح ممكنا ليس بالنص الكتابي فقط وإنما بالصورة وبالصوت.
في هذا الواقع نشا نمط كتابة يمكن تسميته بنمط الكتابة اليومية. وهو النمط الذي أنتجته الانترنيت وبات واحدا من علاماتها. ومن سمات هذه الكتابة هو معالجتها الجزئية للواقعة ونظرتها المختصرة غالبا للجدل الأيدلوجي أو السياسي، فهي لا تحتمل الدراسة النظرية المعمقة ولا الإحالات النظرية لأنها ليست دراسة تحليلية بقدر ما هي تعليق سريع وبسيط يتضمن فكرة أو زاوية نظر لا يتسع لها غالبا مقام أنماط الكتابة الذي أوجدته الثقافة الورقية. وبمناسبة ذكر الصحف والثقافة الورقية فيمكن لفت الانتباه هنا إلى ان هذه الثقافة قد تأثرت هي الأخرى بمعطيات تطور تكنولوجيا الوسائط وبالذات الانترنيت حيث انتقلت إليها عدوى الأسلوب الانترنيتي بعدما أخذت هي ذاتها تتصل بقرائها عبر الانترنيت وصارت مقالاتها قصيرة وسريعة لتواكب الحدث وتطوراته وسرعة انتشاره.
والكتابة الانترنيتية ليست سهلة كما يوحي وضعها للوهلة الأولى، لاسيما لمن يتعامل معها بجدية ويمنحها دورا يليق بها. فهي كتابة تتوسل الأسلوب البسيط، والبساطة هنا لا تساوي السهولة، بل على العكس، فنمط الكتابة الانترنيتية يبدو اكثر صعوبة لانه يقيد الكاتب بعدد محدد من الكلمات وبزمن قصير وذلك، بسبب تواتر الأحداث أولا، وبسبب طابع المنافسة العفوي الذي تجسده كثرة التناولات وتعدد المعالجات للحدث الواحد ثانيا، الأمر الذي فرض على الكاتب ضوابط الزم نفسه بها من اجل ان يقول وفي الوقت المناسب شيئا جديدا ومميزا خاصا به ويميزه عن الآخرين، والا غدت كتابته تنويعا كميا على موضوع واحد. هذا بالإضافة إلى ان الكتابة الانترنيتية أخذت تعالج، بحكم تكوينها، مسائل تبدو بسيطة ولم يتسع لها صدر الثقافة الورقية، وهي قضايا الحياة اليومية بتفاصيلها العابرة التي قد لا يحتمل التعبير عنها بمقالات رصينة تختص بها عادة الصحافة الورقية. لهذا اخذت الانترنيت على عاتقها هذه المعالجات الصغيرة والتفصيلية، كطريقة جلوس أو حديث احد الساسة مثلا، التي لا تتطلب ربطا محكما لخلفيات معقدة تفتقدها عادة الجزيئة الحياتية البسيطة، لكنها تتسم في نفس الوقت بالاهمية لدورها في تشكيل الوعي النقدي للمجتمع.
كما ان الكتابة الانترنيتية ونشوء ظاهرة كتاب الانترنيت هما تعبير عن تحول ديمقراطي في آلية التعبير عن الأفكار والآراء وزوايا النظر. فلم يعد التعبير عن الأفكار محصورا بيد الاقنية الإعلامية والثقافية التي تحتكر المادة وصاحبها. وباتساع عالم الانترنيت اتسع عالم التعبير واخذ أشكالا تعبيرية جديدة ذكرت بعض ملامحها قبل قليل. ولم تعد هناك مركزية لسلطة النشر ولم تعد هناك قدرة على حجب الآراء مثلما هو الواقع في زمن الثقافة والمنابر الورقية. فأي شخص لديه رغبة في قول رأي ولديه قدرة كتابية بمستوى فني مقبول يستطيع اليوم، بفضل الانترنيت، ان يبدي رأيه ويقدم استنتاجاته للرأي العام. كما لم تعد منابر النشر المنتشرة بوفرة على الشبكة تشترط اشتراطات أكاديمية صعبة لنشر المواد. ولم يعد ممكنا الآن حجب رأي أو منعه من الظهور حيث غدا، بفضل تطور التكنلوجيا، باستطاعة أي شخص ان ينشئ منبره الخاص والذي صارت المدونات الشخصية الأداة الأبرز فيه. هذا طبعا بالإضافة إلى أساليب أخرى، قد لا يحبذها البعض ولكنها عملية ومشروعة، وهي استخدام البريد الالكتروني لتوزيع المادة على القراء.
صحيح ان ديمقراطية الانترنيت قد فسحت المجال لظهور الكثير من الغث والركيك ولمن لايمكن ان يعتبر كتابة حتى في اكثر المقاييس تسامحا، ولكن هذا بالنتيجة يمكن أن يدرج في خانة المنافسة وغربلة النوع. وأصحاب هذه الكتابات الركيكة سوف لن يستطيعوا، بتقديري،
(إلا من كان منهم مصابا بلوثة نفسية) ان يستمروا في وهمهم بعدما يكتشفون هم بأنفسهم محدودية أو انعدام قدراتهم، وسوف ينسحبون عاجلا أم آجلا من هذا العالم. لان الكتابة في النهاية، وبكل أشكالها، هي هاجس ووعي وموقف وتتطلب دربة وجلد على احتمال عناءاتها. فهي عمل شاق لا يستطيع احتماله الطارئون ولن يصمد في عالمها إلا من كانت تشكل له سببا وجوديا.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو ان هناك بعض الكتاب القادمين من مركزيات الثقافة الورقية ومن مركزيات أخرى< لجان مركزية لأحزاب مثلا> لا يزالون يعيشون وهم انتظار القراء لهم وتفرغهم لقراءة ما يكتبونه فيطيلون بمقالاتهم غير مدركين ان وقت القارئ ومزاجه لا يتسعان لهذه الاطالات، لان متابعة الأحداث والتطورات تتطلب من القراء قراءة عشرات المواد التي يرغبون بالإطلاع عليها، أقول ان هؤلاء لم يدركوا بعد هذا التحول في الواقع وفي المزاج فلم يتوانوا عن تسطير <جنجلوتيات> عتيقة مكررة وبعناوين فقيرة تكشف مضمون المقال< كالأفلام الهندية الهابطة> وتغني القارئ غالبا عن قراءتها. صحيح ان الانترنيت لا تقتصر على النمط السريع والمقتصد في الكتابة، لأنها ساحة كبيرة أو مكتبة بلا رفوف كما يطلق عليها، وفيها كل معلومة والكثير من المصادر، وتحتمل في بعض مواضيعها الكتابة التفصيلية والمطولة، لكن غالبا، وبالتحديد في الكتابة السياسية، التي تأتي تعليقا وتحليلا للوقائع اليومية، ينبغي بالضرورة، بتقديري، ان تكون كتابة مختصرة ومباشرة وواضحة، وان تبتعد قدر المستطاع عن الإطالة والمط والتكرار.
إذا نحن أمام مواصفات أسلوبية صنعها واقع الانترنيت الجديد. ومثلما وجود الانترنيت خلق كتابة جديدة وكتاب مختلفون عن الصيغ التقليدية فان تطورات التكنلوجيا ومستويات التفاعل الجديد التي تتيحها قدمت لنا، ( وستقدم لنا بالتأكيد في المستقبل أنواعا أخرى جديدة مرتبطة ارتباطا عضويا بجوهرها الديمقراطي) أسلوبا أدبيا جديدا اسمه أدب التعليق على المادة المكتوبة. وهو أدب سوف تكون له قواعده وضوابطه وجمالياته. ويمكن ملاحظة ان هناك معلقون جيدون على المقالات والمواد المنشورة في بعض المواقع التي تقدم هذه الخدمة.
والتعليق يكاد يصير ظاهرة في طريقها للتأصل في ثقافة الانترنيت. فطالما ان الآلة تتطور وتغني الإنسان فان الإنسان سوف يتطور ويغني عالمه ويسهم في بناء وعيه بيده.
أما عن كتاب الانترنيت فيمكن القول أنهم، كظاهرة إبداعية جديدة ذات سمات مميزة، سيكونون أداة التمرد الأكبر في مواجهة القمع بكل أنواعه وتفاصيله، وهم سيكونون أداة تحطيم الأصنام وهدم البالي من القيم المتخلفة في واقعنا. أي انهم سيكونون صرخة التمرد الكبيرة التي تتشكل، كما هي كتاباتهم، من صيحاتهم القصيرة والمتكررة لتغيير الواقع.
ــــــــــــــ
هامش
1- في تونس يوجد 120،000 مشترك فقط في شبكة الانترنيت، وتبلغ نسبة مشاركة العرب في إنتاج المادة الالكترونية يصل إلى 2% فقط من المنتوج العالمي الذي بلغ إلى صيف عام 2007 ستة مليارات صفحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق