كانت مبادرة طيبة تلك التي أثارها الزميل "صائب خليل" في احد مقالاته حينما ناقش بأسلوبه التلقائي المحبب ضعف تفاعل القراء مع كتاب الانترنيت، حيث ضمن مقاله عتابا رقيقا للقراء على غياب التجاوب مع الكتاب رغم كل ما تتيحه لهم التكنلوجيا الحديثة من إمكانات عملية وسلسة للتواصل। والمبادرة كانت أيضا إلتفاتة ذكية بسعيها الضمني لإثارة نقاش حول تفعيل العلاقة بين طرفي المعادلة " كاتب - قارئ" والارتقاء بمستوى القراءة إلى مديات تسهم في خلق نمط ثقافي جديد قوامه الكتابة الجماعية। فتكنولوجيا الاتصال أتاحت للقارئ أن يتخطى بمديات واسعة حالة التلقي السلبي، وعدلت العلاقة بين القارئ والكاتب لاغية بذلك العلاقة الفوقية التقليدية لصالح علاقة تكاملية ومترابطة صار القارئ يتشارك بها مع الكاتب باغناء المناقشة من خلال التصويت أو التعليق على المادة المكتوبة। ولان الحديث كان عن الرسائل في زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تتاخر سوى بضع دقائق للوصول إلى صاحبها، فقد أثار كلام الأخ "صائب" لدي بعض التداعيات والذكريات القديمة عن هموم وشجون الرسائل والمراسلة
ابرز محطة اكتسبت فيها الرسائل معنى خاصا لي وللكثيرين ممن شاركوني الحياة والتجربة كانت في فترة العمل المسلح في كردستان العراق. هناك حيث كانت خطوط التواصل بين البشر بدائية للغاية. فقد كنا نحيا في مناطق نائية ووصول أي شيء منا إلى المدن وبالعكس كان يأخذ مديات طويلة بالمسافة والزمن. التراسل حينها مع مدن العراق، وبالذات للأنصار العرب، سكان العاصمة ومدن العراق الأخرى، كان صعبا، إن لم يكن مستحيلا، ومحفوفا بالمخاطر. ولا يتم، إن تم، إلا عبر جهود يقوم بها بعض المتبرعين الثقاة وعبر صلاة خاصة جدا يتم توصيل الرسائل فيها، بسبب إجراءات الصيانة، باليد. لان العثور على أي رسالة مرسلة من "الارض الحرام" تعني ببساطة، في ظل ظروف نظام البعث الهمجي، إن المرسل إليه سيقبض عليه وسيكون مصيره الموت. ولهذا بقي الكثير من الأنصار، وأنا واحد منهم، لسنوات طويلة منقطعين عن أهاليهم لا يعرف احدهم عن الآخر أي شيء. وأنا شخصيا لم استطع الاتصال بأهلي طيلة فترة امتدت ما يقارب الأعوام الست. لكن اذا كان الوطن مغلقا فان الصلة بين كردستان والخارج كانت اقل صعوبة، وكان لبعض الأنصار أهل وأصدقاء هناك يمكنهم التراسل معهم عبر إيران.
ولكن كيف؟
كان يأتي بين حين وآخر احد العاملين بالتنظيم الحزبي في منظمة إيران ليأخذ البريد الحزبي ويأخذ أيضا "بدربه" رسائل الأنصار إلى أهلهم وأصدقائهم ويبعثها من هناك عبر البريد. هذه الرسائل قد تصل، إن وصلت، بعد أسابيع وأجوبتها تصل ربما بعد اشهر. أما في فصل الشتاء حيث تنقطع السبل وتنغلق المسالك بالثلوج فالمدة تطول اكثر، ولكم أن تتصوروا حال نصير متلهف لمعرفة أخبار زوجته وأطفاله في ظل هكذا ظروف. كان ممن يأتون لأخذ البريد اثنان من العاملين في منظمة طهران. احدهم كان يتعامل باستخفاف مع مشاعر وهموم وأسرار الرفاق الذين يحملونه رسائلهم فكان، كما كان يقول لخاصته ساخرا، انه ما ان يخرج من القاعدة حتى يلقي بكل الرسائل في النهر(الروبار). وليس هناك أي تعليل لهذا السلوك غير قلة الاكتراث وانعدام الحس والشعور بهموم ومعاناة الآخرين. وإذا أراد هذا الشخص أو غيره التحجج، كرد على ما أقول، بالصيانة والاحترازات الأمنية، فالرد هو ان هذا القول هو محض ادعاء وتبرير لان هذا الشخص كان يحمل معه البريد الحزبي وهذا بالتأكيد اخطر من الرسائل الشخصية، ولا يضيره بشيء ان قبض عليه وهو يحمل مع البريد الحزبي رسائل شخصية.
هذا الشخص تقدم لاحقا في سلم الدرجات الحزبية وبلغ مستويات قيادية عليا واستوزر في إحدى الحكومات. ويبدو لي ان سلوكه الرديء هذا كان مقدمة ضرورية لهذه المواقع. وللتأكيد على انه لا يوجد أي سبب جدي وحقيقي يمنع هذا الشخص من اخذ الرسائل التي تعني لأصحابها الكثير، إن الرفيق الآخر، وهو اصغر في السن والموقع الحزبي من الأول، لكنه اكبر بالحس الأخلاقي منه، كان يأخذ جميع الرسائل ولا يهمل أي واحدة، والأكثر انه هو نفسه من كان يدفع أجور البريد.
أما رسائل الأنصار فيما بينهم فكانت تأتي طازجة لكن تواترها بطيء. لأوضح ذلك، يكتب النصير الرسالة في نفس اليوم وتصل خلال يوم أو اثنان لكن جوابها قد يتأخر شهر أو اكثر حسب حركة البريد بين القواعد. لكن حتى العام 1984 لم تكن الرسائل بين الانصار تخضع للرقابة الا فيما ندر. غير انه وبعد اشتداد اجراءات القمع التي تزامنت مع تداعيات الوضع بعد معركة "بشتاشان" وبعد الاجتماع الاعتيادي الكامل للجنة المركزية في خريف ذاك العام، الذي ابعد فيه عضو اللجنة المركزية " بهاء الدين نوري" عن الحزب، اشتدت اجراءات الرقابة وصار البريد مراقبا وصار اي بريد ينقل من مقر الى اخر او الى الخارج يجب ان يمر اولا على المسؤول الحزبي ( عانى بعض المسؤولين الحزبيين الخلوقين من احراجات هذه الحالة خصوصا وان بعض الرسائل كانت رسائل شخصية. بين زوج وزوجته مثلا.)
المهم! رغم أهمية الرسائل في حياة الانصار كوسيلة للتواصل وتبادل الأفكار والأخبار إلا أن هناك بعض الأنصار كان يتكاسل ويستصعب كتابة رسالة لصديق في قاعدة أخرى.
وهؤلاء ستلاحقهم لعنة التباطؤ أو الكسل في كتابة الرسائل حتى في بلدان الغربة التي رحلوا إليها لاحقا حيث البريد منتظم والرسائل ممكنة الوصول. والأكثر انه حتى في زمننا هذا، زمن الانترنت، حيث الرسالة لا تضيع أبدا، ولن تستغرق وقتا للوصول إلى هدفها سوى بضعة دقائق، ولا تكلف كاتبها مشقة الخروج لإلقائها في صندوق البريد، وإنما يفعل ذلك وهو جالس في "غرفته الكونية" أمام الحاسب. أقول حتى في هذا الزمن عثرنا على من يتكاسل عن كتابة بضعة اسطر يفرح فيها صديق له. قد يتعلل هؤلاء بان هناك جهاز آخر اكثر عملية وهو التليفون وهذا صحيح لكن هذا لا يكون بديلا لان للكتابة نكهة خاصة إذ هي تنطوي على قدر محسوس من طاقة التأمل وعمق في التفكير وقدرة على البوح أوسع وأكثر جرأة مما يوفره أو يتيحه التليفون. وأكاد اجزم من انه حتى لو تطورت تكنولوجيا الاتصالات ووصلت لمديات أوسع واكبر في تسهيل عملية الاتصال فان هؤلاء لن يتحركوا وسيجدون دائما أعذارا يبررون فيها تكاسلهم. وهؤلاء في الحقيقة هم كمثل نمط القراء الذين عتب عليهم "صائب خليل" ممن يتكاسلون ويكتفون بالتلقي السلبي. لكن هناك أيضا وجه آخر سلبي لمعادلة العلاقة بين القارئ والكاتب هي ان بعض الكتاب لا يردون على رسائل قرائهم وهذا عامل احباط يقلل من اهتمام القراء ولا ادري إن كان هذا أيضا بدافع الكسل أم هو شيء من التعالي.
تتبع هذه الحالة يوصلنا إلى قناعة إن أكثرية القراء لا يميلون إلى تجشم عناء الكتابة إلى الكاتب ويفضلون بدلا عنها التعليق على الموضوع في حقول خاصة توفرها بعض المواقع. وهذا واحد من تجليات تطور التكنلوجيا( الويب2) حيث التفاعل والحوار لا يكون فقط بين القارئ والكاتب، وهو ما تقوم به الرسائل المباشرة، وإنما بتواصل النقاش وتوسيع دائرته لتشمل النقاش بين القراء أنفسهم. وبهذا يتحقق نوع من ما يمكن تسميته بحلقة للقراءة كبيرة ومفتوحة.
وعود على ما قاله الزميل "صائب" فيبدو إن الحل الامثل لمعالجة هذه المسالة ينبغي أن يتم، برأيي، بطريقة أخرى غير الرسائل المباشرة. وهي طريقة من شانها تحفيز القارئ على التفاعل مع ما يُكتب ويكون ذلك بأن يقوم موقع "الحوار المتمدن"، باعتباره اكبر واهم موقع علماني وديمقراطي يلتف حوله عدد كبير من القراء والكتاب، بتوفير خدمة التعليق، المشروط بطبيعة الحال، على المادة المكتوبة. لاسيما وأن هذه الوظيفة متوفرة في النسخة الكردية من الموقع " ده نگه کان ". ولان "الحوار المتمدن" في تجدد دائم، عليه، برأيي، ان يخطوا باتجاه هذه الخطوة ليوسع من افقه اكثر ويجعل من أرضه ساحة نقاش وبحث تليقان بدوره. اعرف ان الأمر صعب وان تنفيذه يتطلب توفر عدد من العاملين يعاني "الحوار المتمدن" أصلا من شحتهم، لكن كاقتراح أولي، ينبغي البحث عن صيغة تقنية يمكن فيها إشراك كاتب المقال نفسه، توفيرا للجهد، في عملية النشر والمراقبة.
اطرح هذا المقترح لأني أدرك من ان الكثير من القراء والكتاب يشاطرونني التصور بان عالم التكنلوجيا في تطور مستمر، وأن وقائع الحياة من حولنا في حراك دائم، وان إمكانية التواصل بين المعنيين بهذه التطورات بات أمرا ملحا وعلينا جميعا ان نستجيب لـ / ونتفاعل مع هذه الضرورات ان أردنا ان نعيش في عالمنا ونسهم في إعادة تشكيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق