بعد تشويق إعلامي قدمت قناة البغدادية الفضائية بتاريخ 2- 04-2008 لقاءا تلفزيونيا مطولا مع القاضي "رزكار محمد أمين" الرئيس المستقيل للمحكمة الجنائية التي حاكمت صدام حسين وبعض من أعوانه في جريمة الدجيل. لم يحفز لهذا اللقاء الدعوة الإعلانية المشوقة التي سبقته وحسب وإنما أيضا ما انطبع في أذهان الناس من تصورات عن شخصية القاضي ضيف اللقاء التلفزيوني. فقد أغاض هذا الرجل الكثيرين أثناء سير المحاكمة بسلوكه الذي اتسم بالبرود والتهاون الذي بلغ بعض الأحيان حد الإيحاء بانعدام الكفاءة لفقدانه السيطرة على مجريات الجلسات، حيث سمح في حينها لصدام حسين أن يحول جلسات المحكمة إلى منبر ووسيلة يبث منها آراءه لمريديه بل وحتى توجيهاته لتابعيه. وبنفس القدر الذي أثار فيه السيد القاضي انزعاج الناس فقد أثار فضولهم أيضا. فالمواطنون والمراقبون قد تساءلوا كثيرا وأثاروا التكهنات حول خفايا سلوكه ورؤيته للأحداث وأسباب استقالته المفاجئة من رئاسة المحكمة. لكن أجوبة القاضي في هذا اللقاء قد خيبت ظن الكثيرين ولم تطفئ لهفة الرغبة بمعرفة ما دار في كواليس المحكمة وأروقة السياسة حول هذا المفصل المهم في تاريخ العراق.
ورغم إن أسئلة مقدم البرنامج الدكتور "حميد عبداالله" قد اتسمت بالجرأة والذكاء ورغم أنها بحثت في جوانب مهمة وحيوية، لا تتعلق فقط بمجريات المحاكمة وما حدث قبل ترأس السيد القاضي لها واستقالته منها، وإنما بلغت مديات حساسة تعلقت بنظرة القاضي الشخصية وآرائه ومشاعره أثناء مجريات المحاكمة، أقول رغم هذا الكم الحيوي من الأسئلة لم يقدم القاضي في ردوده أي جواب يرقى إلى مستوى الأسئلة ولا إلى مستوى تطلع الرأي العام لمعرفة مواقفه أو الحقائق كما رآها وعاشها هو. فقد اتسمت أجوبته، وببروده التقليدي، بمستوى مبالغ فيه من الرسمية وبقدر عال من الاسنادات النصية القانونية التي راحت تحيل كل سؤال، حتى ذلك الذي تعرض لمواقفه ومشاعره كانسان وليس كقاض، إلى ما يقوله الفقه القانوني ونصوصه. وكأن القاضي هنا جهاز الكتروني يشحن بمواد القانون ويعكسها وليس بشرا يحس ويدرك. وكأن الناس بحاجة لسماع ما يقوله القانون وليس ماعاشه وعرفه وأحس به هو.
وهكذا كانت ردود السيد القاضي، ـ التي تخللها الكثير من الصمت والاطالات بمط الكلام بحثا عن مفردات وتعابير لا تخدش شعور أي جهة( والعراق متعدد الجهات) والتي بددت بدورها الكثير من وقت اللقاء، ـ ردودا لا تحمل إجابات، فأماتت حيوية الأسئلة واطفات لهفة الترقب وخرج مقدم البرنامج الذي نفد صبره ومعه المشاهدون بخيبة أمل كبرى وبعلامة استفهام اكبر.
وهنا يمكن طرح سؤال مهم. وهو لماذا تصرف هذا القاضي، وهو رجل متعلم ومن طبقة اجتماعية
لها شان في المجتمع، بهذه الكيفية ؟
ولماذا كانت ردوده لا تحمل أي إجابة مقنعة وخيب أمل المشاهد في لقاء هو شهادة للتاريخ، كما هو عنوان البرنامج. وكلنا يعرف إن السيد القاضي هو رجل شارك، شاء ذلك أم أبى، بدور ما في صنع لحظة من لحظات التاريخ، أو قل كان حاضرا بفاعلية فيها، وحضوره هذا، كما يفترض، بالإضافة إلى موقعه الإداري، ينبغي أن يحفزه على أن يدلي بشهادة تضيء جوانب قد تكون غامضة عن مجريات وخلفيات هذه اللحظة التاريخية المميزة؟.
لماذا صمت؟. بل والأكثر انه صور الأمر وكأن كل شيء على ما يرام، رغم انه أعلن بأنه قد استقال من مهمته لاعتراضه على قضايا قانونية( بالتأكيد لا تخلوا من بعد سياسي) اعتبرها هو جوهرية؟.
إن الإجابة ببساطة هي: الخوف!
نعم الخوف.
ورغم إن الخوف يعود في كثير من أسبابه ودوافعه إلى خبرات فردية شخصية إلا انه في حالات كالحالة التي أمامنا هو نتاج خوف جماعي شامل له جذور غائرة في بنية المجتمع العراقي ومنغرس عميقا في نفسية الفرد فيه. وهذا الخوف هو من اكبر( إنجازات) نظام البعث وبطشه، وهو أيضا أهم ارث خلفه وراءه حرص حكام العراق الجدد على استغلاله وتوظيفه بطرق مختلفة وسعوا للحفاظ على جذوته لإدراكهم بأنه الطريقة الامثل للإخضاع والطريقة الأجدى لشل قدرات الاعتراض وبالتالي المعارضة داخل المجتمع.
السيد "رزكار محمد أمين" كان في هذا اللقاء، مثلما هو في قاعة المحكمة، خائفا من أن يقول أي شيء يغضب به الآخرين، أي كان هؤلاء الآخرين. كان خائفا من أن يقول رأيه لأنه لا يملك رأيا. فهو كحال الكثير من موظفي الحكومة الكبار لا يعرف سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر رغم إن وظيفة حاكم التي يشغلها هي ليست كالوظائف الإدارية الأخرى، لكونها تتطلب قدرا كبيرا من الوعي ومن الثقافة اللذان من شأنهما أن ينتجا شخصية ناضجة تحمل رؤية وتتبنى موقفا ويكون لها رأيها الشخصي بالأشياء. ولهذا يمكن القول انه ما كان ينبغي أن يتم اختيار قاض مسلكي تقليدي كالسيد "رزكار محمد أمين" ليدير محاكمة بقدر كبير من الأهمية كمحاكمة صدام حسين تتطلب لخلفياتها ولأهميتها طريقة مختلفة لإدارتها . ويمكن الجزم هنا ان اختيار السيد رزكار لهذه المهمة الكبيرة كان خطئا معيبا وهو على أية حال واحد من شجون وضع العراق الشاذ حيث لاشيء في مكانه المناسب.
خوف السيد رزكار بكل الأحوال لم يعكس خوفا فرديا بقدر ما كان يعكس خوفا جماعيا صار واحدا من مكونات الشخصية العراقية وبالذات تلك التي نضجت تجاربها العقلية والنفسية في ظل دولة ونظام البعث في حقبته الصدامية ولاسيما المراحل المتأخرة منها. لكن هذا الخوف لا ينبغي أن يفهم على انه نفس حالة الجبن التي ينظر إليها المجتمع بعدم احترام، وإنما هو نوع يمكن توصيفه بأنه حالة من انكسار الإرادة وانسحاق للشخصية لتواتر الضغط عليها يفقد المرء فيه وبسببه ثقته بنفسه ويفقد أيضا أي إحساس سوي بشخصيته وكيانه البشري. خوف يكرس استلاب الشخصية وينقل إليها عدوى نظرة السلطة القمعية التحقيرية لها فتحمل هي راضية هذه النظرة عن نفسها وتتبناها. ومن هذه النفسية ينشا سلوك يشوبه الارتباك غالبا وأحيانا يدفع إلى سلوكيات متناقضة تجنح للعنف بطريقة لا واعية للتعبير عن هذا الخوف وسعيا لكسر هيمنته والتخلص منه في نفس الوقت. وهذا الخوف، برأيي، هو نفسه الذي يصف ويفسر حالتي الخنوع والعنف المنفلت اللذان يتجاوران بتناغم، رغم تنافرهما الطبيعي، في تركيبة الشخصية العراقية، وهما اللذان طبعا مسار الأحداث في المجتمع.
اثبت السيد "رزكار محمد أمين" في هذا اللقاء انه أخطا مرتين. مرة حينما قبل بمهمة رئاسة محكمة هو عاجز ـ لتركيبته الشخصية والاجتماعية على التصدي الفعال لها لأنها تتطلب في ابسط شروطها شخصا جريئا يستطيع تحمل مسؤولية قراره؛ ومرة لأنه وافق على أن يظهر أمام الجمهور في لقاء تلفزيوني لم يقل فيه ما عرفه وما فكر به أو ما شعر به. وبهذا يكون قد خذل الجمهور وخذل التاريخ في آن واحد وقدم لنا نموذجا لولادة عسيرة يتمخض فيها حدث كبير فيلد لنا قاضيا صغيرا.
6-4-2008
ورغم إن أسئلة مقدم البرنامج الدكتور "حميد عبداالله" قد اتسمت بالجرأة والذكاء ورغم أنها بحثت في جوانب مهمة وحيوية، لا تتعلق فقط بمجريات المحاكمة وما حدث قبل ترأس السيد القاضي لها واستقالته منها، وإنما بلغت مديات حساسة تعلقت بنظرة القاضي الشخصية وآرائه ومشاعره أثناء مجريات المحاكمة، أقول رغم هذا الكم الحيوي من الأسئلة لم يقدم القاضي في ردوده أي جواب يرقى إلى مستوى الأسئلة ولا إلى مستوى تطلع الرأي العام لمعرفة مواقفه أو الحقائق كما رآها وعاشها هو. فقد اتسمت أجوبته، وببروده التقليدي، بمستوى مبالغ فيه من الرسمية وبقدر عال من الاسنادات النصية القانونية التي راحت تحيل كل سؤال، حتى ذلك الذي تعرض لمواقفه ومشاعره كانسان وليس كقاض، إلى ما يقوله الفقه القانوني ونصوصه. وكأن القاضي هنا جهاز الكتروني يشحن بمواد القانون ويعكسها وليس بشرا يحس ويدرك. وكأن الناس بحاجة لسماع ما يقوله القانون وليس ماعاشه وعرفه وأحس به هو.
وهكذا كانت ردود السيد القاضي، ـ التي تخللها الكثير من الصمت والاطالات بمط الكلام بحثا عن مفردات وتعابير لا تخدش شعور أي جهة( والعراق متعدد الجهات) والتي بددت بدورها الكثير من وقت اللقاء، ـ ردودا لا تحمل إجابات، فأماتت حيوية الأسئلة واطفات لهفة الترقب وخرج مقدم البرنامج الذي نفد صبره ومعه المشاهدون بخيبة أمل كبرى وبعلامة استفهام اكبر.
وهنا يمكن طرح سؤال مهم. وهو لماذا تصرف هذا القاضي، وهو رجل متعلم ومن طبقة اجتماعية
لها شان في المجتمع، بهذه الكيفية ؟
ولماذا كانت ردوده لا تحمل أي إجابة مقنعة وخيب أمل المشاهد في لقاء هو شهادة للتاريخ، كما هو عنوان البرنامج. وكلنا يعرف إن السيد القاضي هو رجل شارك، شاء ذلك أم أبى، بدور ما في صنع لحظة من لحظات التاريخ، أو قل كان حاضرا بفاعلية فيها، وحضوره هذا، كما يفترض، بالإضافة إلى موقعه الإداري، ينبغي أن يحفزه على أن يدلي بشهادة تضيء جوانب قد تكون غامضة عن مجريات وخلفيات هذه اللحظة التاريخية المميزة؟.
لماذا صمت؟. بل والأكثر انه صور الأمر وكأن كل شيء على ما يرام، رغم انه أعلن بأنه قد استقال من مهمته لاعتراضه على قضايا قانونية( بالتأكيد لا تخلوا من بعد سياسي) اعتبرها هو جوهرية؟.
إن الإجابة ببساطة هي: الخوف!
نعم الخوف.
ورغم إن الخوف يعود في كثير من أسبابه ودوافعه إلى خبرات فردية شخصية إلا انه في حالات كالحالة التي أمامنا هو نتاج خوف جماعي شامل له جذور غائرة في بنية المجتمع العراقي ومنغرس عميقا في نفسية الفرد فيه. وهذا الخوف هو من اكبر( إنجازات) نظام البعث وبطشه، وهو أيضا أهم ارث خلفه وراءه حرص حكام العراق الجدد على استغلاله وتوظيفه بطرق مختلفة وسعوا للحفاظ على جذوته لإدراكهم بأنه الطريقة الامثل للإخضاع والطريقة الأجدى لشل قدرات الاعتراض وبالتالي المعارضة داخل المجتمع.
السيد "رزكار محمد أمين" كان في هذا اللقاء، مثلما هو في قاعة المحكمة، خائفا من أن يقول أي شيء يغضب به الآخرين، أي كان هؤلاء الآخرين. كان خائفا من أن يقول رأيه لأنه لا يملك رأيا. فهو كحال الكثير من موظفي الحكومة الكبار لا يعرف سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر رغم إن وظيفة حاكم التي يشغلها هي ليست كالوظائف الإدارية الأخرى، لكونها تتطلب قدرا كبيرا من الوعي ومن الثقافة اللذان من شأنهما أن ينتجا شخصية ناضجة تحمل رؤية وتتبنى موقفا ويكون لها رأيها الشخصي بالأشياء. ولهذا يمكن القول انه ما كان ينبغي أن يتم اختيار قاض مسلكي تقليدي كالسيد "رزكار محمد أمين" ليدير محاكمة بقدر كبير من الأهمية كمحاكمة صدام حسين تتطلب لخلفياتها ولأهميتها طريقة مختلفة لإدارتها . ويمكن الجزم هنا ان اختيار السيد رزكار لهذه المهمة الكبيرة كان خطئا معيبا وهو على أية حال واحد من شجون وضع العراق الشاذ حيث لاشيء في مكانه المناسب.
خوف السيد رزكار بكل الأحوال لم يعكس خوفا فرديا بقدر ما كان يعكس خوفا جماعيا صار واحدا من مكونات الشخصية العراقية وبالذات تلك التي نضجت تجاربها العقلية والنفسية في ظل دولة ونظام البعث في حقبته الصدامية ولاسيما المراحل المتأخرة منها. لكن هذا الخوف لا ينبغي أن يفهم على انه نفس حالة الجبن التي ينظر إليها المجتمع بعدم احترام، وإنما هو نوع يمكن توصيفه بأنه حالة من انكسار الإرادة وانسحاق للشخصية لتواتر الضغط عليها يفقد المرء فيه وبسببه ثقته بنفسه ويفقد أيضا أي إحساس سوي بشخصيته وكيانه البشري. خوف يكرس استلاب الشخصية وينقل إليها عدوى نظرة السلطة القمعية التحقيرية لها فتحمل هي راضية هذه النظرة عن نفسها وتتبناها. ومن هذه النفسية ينشا سلوك يشوبه الارتباك غالبا وأحيانا يدفع إلى سلوكيات متناقضة تجنح للعنف بطريقة لا واعية للتعبير عن هذا الخوف وسعيا لكسر هيمنته والتخلص منه في نفس الوقت. وهذا الخوف، برأيي، هو نفسه الذي يصف ويفسر حالتي الخنوع والعنف المنفلت اللذان يتجاوران بتناغم، رغم تنافرهما الطبيعي، في تركيبة الشخصية العراقية، وهما اللذان طبعا مسار الأحداث في المجتمع.
اثبت السيد "رزكار محمد أمين" في هذا اللقاء انه أخطا مرتين. مرة حينما قبل بمهمة رئاسة محكمة هو عاجز ـ لتركيبته الشخصية والاجتماعية على التصدي الفعال لها لأنها تتطلب في ابسط شروطها شخصا جريئا يستطيع تحمل مسؤولية قراره؛ ومرة لأنه وافق على أن يظهر أمام الجمهور في لقاء تلفزيوني لم يقل فيه ما عرفه وما فكر به أو ما شعر به. وبهذا يكون قد خذل الجمهور وخذل التاريخ في آن واحد وقدم لنا نموذجا لولادة عسيرة يتمخض فيها حدث كبير فيلد لنا قاضيا صغيرا.
6-4-2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق